الثراء القبلي في السودان.. نعمة أفسدتها السياسة غير الرشيدة

تقرير: مريم أبشر
حتى قبل الحرب بشهور، كانت نوال بدوي، (وهذا هو اسمها المستعار)، موظفة موظفة في إحدى الشركات الخاصة بالخرطوم، وهي في الأصل منحدرة من أصول دارفورية ومتزوجة من أحد أبناء ولايات شمال السودان. بعد اندلاع الحرب توجهت نوال مع أسرتها وزوجها إلى ولاية نهر النيل، طلبا للأمان والطمأنينة بعد أن أرعبتهم الحرب في الخرطوم.
كانت هذه أول زيارات نوال للمناطق شمال الخرطوم، لكن سرعان ما وجدت نفسها وسطهم أناس يعاملونها كأخت وجارة وصديقة، بل ساعدتها الظروف الاجتماعية لتبدأ مشروعا تجاريا صغيرا تكسب منه بعض الرزق لمواجهة تكاليف الحياة، مستفيدة من العلاقات الودية الطيبة التي بنتها في فترة وجيزة.
في الواقع، يعكس نموذج نوال مدى التداخل والتفاهم بين المجتمعات السودانية برغم تعدد قبائلها، ويجسد السائد في مواقع العمل والحياة العامة بكافة ضروبها. فالتعاضد والتداخل القبلي موجود ومطبق على أرض الواقع. ويضع هذا النموذج مزاعم التنهميش في امتحان عسير، ويجعل الحديث عن انعدام التنمية أمر يمكن تعميمه على معظم ولايات السودان، وأن من تعاقبوا على حكمه لم يحسنوا استخراج موارده وعكسها في المشروعات التنموية لشعوبه التي هدتها حروب ونزاعات يغذيها سياسيون (عسكر ومدنيين).
هذا النوع من السياسة غير الرشيدة جعلت الشعب السوداني في حالات نزوح ولجوء بحثا عن المأوى في عز المطر. والآن يداهمه الشتاء وأمراء الحرب يصطرعون، وفيما يكتنف الغموض آمال وطموحات الملايين من الطلاب والتلاميذ.
نموذج آخر يترافق مع نموذج نوال، يكشف، بشكل عملي، أن الاجتماعيات والعلاقات العاطفية بين السودانيين لن تفرقها الفواصل المصنوعة على مصطلحات العنصرية والتعالي العرقي، فأحمد (وهذا هو اسمه المستعار أيضا) ينحدر من أقصى ولايات دارفور، جمعته علاقة عاطفية بتلميذته ذات الأصول من شمال السودان، وكانت متدربة على يديه، وبنى معها علاقة زوجية مستقبلية محصنة من التصدع، كانت ثمرتها البنين والبنات.
هذه أو تلك تكشف أن السودان بلد متعدد القبائل والإثنيات لكنه في الواقع متداخل ومترابط ومنصهر إلى حد بعيد، وأن ما يطفو من خلافات هي بذور فتنة صنعها ولعب على أوتارها سياسيون هدفهم السلطة. ويقول البروفسير صلاح الدين عبد الرحمن، الأستاذ بالجامعات، إن نظام الإنقاذ (1989-2019) خلق فتنة النعرات القبلية والعنصرية، وتوقع أن تندثر مظاهر هذه الفتن في حالة حصول السودان على نظام حكم ديمقراطي يراعي الحرية والعدالة والمساواة.