امرأة حبلى تشتري بر والديها وشارع (الزلط)

حبلى أو كما يحلو لأغلب الناس (حامل) منهكة ومهدودة بالسهر, لأن طبيعة عملها تقتضي ذلك، فهي تعمل بالمطار والعمل هناك ورديات, فعندما تكون في وردية الليل ترتاح بعدها ليومين وبعدها تجيء وردية الصباح فتعمل حتى المساء، وفي ذاك المساء قابلتها, وما كان لي أن أعرف أنها حبلى لولا أن الجنين الذي في أحشائها, قد أظهر على ملامح وجهها أعياءً وتعباً زاد إلى عمرها سنوات عديدة، وهذا الجنين الذي يمتص من دمائها جعل كل تقاسيم وجهها في حالة ارتخاء، وعيناها ازدادتا بياضاً حتى يظن من ينظر لها أنها تحمل وجهاً ميتاً, هكذا بإشارة من يديها بادرتني بالسلام ثم قالت: لو واصل الزلط الرئيسي ممكن أتقدم معاك. هنا قطعت حديثاً بيني وبين صديقي معتز الذي انتهت رحلته معي هناك، حيث كان وقتها يحكي لي عن فائدة الحليب وكيف جعل منه غذاءه الرئيسي, لما يقوم به الحليب ـ على حد قوله ـ من (فلترة) لكل شوائب التدخين والتلوث, بما يتركه من طبقة دهنية على صدره، هذا فضلاً عن أن طبيعة عمله تقتضي أن يكون دائماً في حالة كوب حليب, لأنه يتعامل مع مرحَّلين ومبعَدين من سجون الدول الشقيقة، الأمر الذي يوفر مناخاً خصباً لتفشي الأمراض المعدية مثل السل والتهاب الكبد الوبائي وغيرها.. فكوب حليب ربما يساهم في أن يقيك شر أمراض كثيرة…

بادرتني بالسلام، وبذات السلام ودعت صديقي معتز وانطلقنا ثلاثتنا أنا وهي وابن حشاها، قبل أن أدرك أنها حبلى, قلت لها: هذا المكان يجيء الناس إليه من كل مكان ليمارسوا رياضة السير بالأقدام (المشي)، لأن فيه إضاءة كافية وحركة سير سيارات خفيفة، بجانب أن فيه بعض مناظر خضرة طبيعية ترد الروح. هنا تأوهت آهة حبيسة خرجت منها عند عبوري لمرتفع صمم خصيصاً لتقليل سرعة السيارات، وتأسفت لي عن هذه الآهة التي خرجت منها ثم قالت: أنا حبلى في شهوري الأولى، هنا عذرتها وعذرت وجهها الذي أخافني, وعذرت ابن أحشائها الذي يمتص من دمائها غذاءه الوحيد، وهنا تذكرت حقيقة أثبتها العلم مؤخراً على حد قول صديقي دكتور فضل المولى، مفادها أن الجنين داخل أحشاء أمه يمتص نسبة كبيرة من فايتمين الحديد من دم الأم ويخزنها في كبده, لذا دائماً ما يضعف دم الأم، خصوصاً في الشهور الأولى، لذا تدعم زيادة الدم بالنسبة للام بحبوب اسمها (فيفول) أو ما يعادلها في إحداث نفس النتيجة، وبعدها يخرج من بطن أمه ليتغذى فقط على حليبها الذي يفتقد فايتمين الحديد، وهنا من مخزون الحديد الذي اختزله في كبده من دم أمه يفرز بمقدار احتياجه, وهكذا تستمر عملية الاستلاف وتركيب المعادلة حتى يتم فصاله في عامين، يا لعجائب قدرة الله .

عذرتها لذاك الوجه وسألتها: لماذا لا تأخذين إجازة عن العمل في هذه الفترة بالتحديد، قالت لي: إجازتي السنوية أخذتها لزواجي والآن لا إجازة لي، وإن سألتني عن إجازة الأمومة التي لم يحن وقتها بعد، فأنا لا أستطيع أخذها لأن زوجي دخله محدود, وأنا بدخلي هذا أعيل والديَّ، فإذا أخذت إجازة الأمومة فسوف تضيع مني فرصة المرتب الكامل, وبالتالي تضيع مني الحوافز وأفقد فرصة البدلات، وإن سألتني أكثر أقول لك إن المرتب والحوافز والبدلات جميعها لا تكفي، ولكن رب العالمين دائماً يجعل البركة في القليل.. وأردت أن أقول لها إن الجنين (……), قاطعتني: تريد أن تقول ما ذنبه وهذا الضغط سيؤثر عليه والانفعالات والتفكير، كل شيء سيؤثر عليه ولكن هناك حكمة تقول: ما لا يفعل كله لا يترك جله، فالمعادلة يا ابن عمي صعبة, الزوج له حقوق والحمد لله متفهم طبيعة هذا القدر، والأهل دينهم علينا خصوصاً عندما تكون أنت أملهم الوحيد بعد الله سبحانه وتعالى .

وهنا دوختني بالحيرة! ولم أفِق من غيبوبة الحيرة والأجوبة المستفيضة عن أسئلتها إلاّ عندما قالت لي: جزاك الله خير يا ابن عمي أنا الآن وصلت الى المكان الذي اريد الوصول اليه.

مجاهد محمد إدريس
صحيفة الحقيقة

تعليق واحد

  1. هذا هو السودان وطبيعة السودانين وفق الله الشعب الكادح الصابر من الكيزان واصحاب السف:cool:

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..