من روائع الشعر السوداني

شهد السودان فترات ذهبية، إن جاز التعبير، برزت فيها إشراقات رائعة ومواهب عديدة؛ خاصة فيما يتعلق بالإبداع والإنتاج الأدبي نظماً ونثراً وفناً وموسيقى. ويظل الشعر، سواء في ذلك الفصيح والعامي، هو الأداة الأولى للتعبير عن المشاعر ولتسجيل ملاحم الأمة وأمجادها. وقد أنجب السودان، على مر الأزمان، فطاحل الشعراء، رجالاً ونساءً، من أمثال إدريس جماع القائل:
أعلى الجمال تغار منا ماذا علينا إذا نظرنا
هي نظرة تنسى الوقار وتسعد الروح المعنّى
دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد إذا تمنّى
أنتَ السماءُ بدت لـنا واستعصمت بالبعدِ عنا
وعبد الله الشيخ البشير الذي قال في قصيدته المشهورة “بحث عن بيت شعر”:
على حد السنا أمهيت سيفي فرقت شفرتاه كما ابتغيت
وودَّعت القُرَى الأولَى وشيكاً فما استصحبْت إلا ما انتويت
فهأنذا يعـــــادي بي مِـــراحاً بشطِّ الغيـــب مِرِّيحٌ كُــــميتُ
رصائعُـــه مصابيحٌ سَــهارى لهُــنَّ خواطِـــر الحُذّاقِ زيْــت
فطاف بعبقـــرٍ ليلا فهـــــرّت كلابُ الجنِّ: عِرفيطٌ وشيـْتُ
إلا أن هذا البلد المعطاء، للأسف الشيد، لم يعد يزخر بذات الروح العبقرية المعهودة التي أخرجت للناس روائعاً من الشعر والغناء الراقي كالذي جادت به فترة الحقيبة مما نجد عند عبد الرحمن الريح، على سبيل المثال لا الحصر، كما يبدو لنا من رائعته الطاؤوس التي جاء فيها:
ملك الطيور ارقص وسط الطيور نشوان
خلي الزهور تفتح مختلفة الالوان
ارقص وهل في الكون
طاير جميل مثلك بيهو الوجود مفتون
من درك المكنون
اكشف كنوز حسنك ورينا فيك كم لون
وما هذا إلا قيض من فيض، وهنالك موروث ثر من الشعر السودان في مختلف المجالات والمناسبات التي منها ما هو غزلي ووطني وملحمي ويكفينا أن نستدل هنا برائعة ود البنا في الحرب:
الحرب صبـــــــر واللقاء ثبات والمــــوت في شأن الإله حياة
والجبن عار والشجــــاعة هيبة للمرء ما اقترنت بها العزمات
والصبر عند البأس مكرمة ومقـدام الرجــــــال تهابه الوقعات
والاقتحام إلى العدو مـــــــــزية لا يستطاع لنيلهـــــــا غايـات
وما دمنا في رحاب المهدية لا يسعنا إلا نزرف شيئاً من الدمع مع محمد المحجوب وهو ينعى الإمام عبد الرحمن المهدي بقوله:
العيـد وافي فأين البشـر والطـرب والناس تسـأل أين الصارم الـذرب
الواهـب المـال لا مـنّ يكــدّره والصادق الوعد لا مَيْنٌ ولا كـذب
بكى المصـلى جبين الأنبيـاء بـه وفـارق المنبـر الصناجة الأرب
وخالـط النـاس يُتـم بعـد فرقتـه ففاتهـم منـه يـوم النـازلات أب
جئنـا إلى الـدار نهديهـا تحيتنــا كالسالفـات فمـا للــدار تنتحـب
وأمس كنـا إذا جئنـا نطـوف بهـا هشـت تباركنـا ساحاتهـا القشـب
وإذا عرجنا نحو رفاعة سوف يسمعنا الشاعر الكبير محمد عثمان عبد الرحيم قصيدته الخالدة أنا سوداني أنا التي يقول فيها:
أيها الناس نحن من نفر عمروا الأرض حيث ما قطنوا
يذكر المجد كلما ذكروا وهو يعتز حين يقترن
حكموا العدل في الورى زمنا أترى هل يعود ذا الزمن
ردد الدهر حسن سيرتهم ما بها حطة ولا درن
نزحوا لا ليظلموا أحداً لا ولا لاضطهاد من أمنوا
وكثيرون في صدورهم تتنزى الأحقاد والإحن
دوحة العرب أصلها كرم وإلى العرب تنسب الفطن
أيقظ الدهر بينهم فتنا ولكم أفنت الورى الفتن
وبما أننا نتحدث عن الشعر والشعراء في السودان، لا يمكننا تجاوز رائعة صديق مدثر “ضنين الوعد” لأنها واحدة من عيون الشعر العربي، ليس في السودان فحسب بل في كل عالمنا العربي: فلنتأمل بعض أبياتها:
أنا إن شئت فمن أعماق قلبي
أرسل الألحان شلالاً رويّا
وأبث الليل أسرار الهوى
وأصوغ الصبح ذوبًا بابليّا
لا تقل إني بعيدٌ في الثرى
فخيال الشعر يرتاد الثريّا
ونختار من القصائد الوطنية رائعة الفيتوري؛ لأنها تعتبر واحدة من أجمل قصائده.
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحل تلك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
ولا يمكن الحديث عن روائع الشعر في السودان دون ذكر قصيدة روضة الحاج الموسومة: ” تغريبة المطر” التي اعتمدتها بعض الدول ضمن مناهجها الدراسية فقد ورد في تلك القصيدة:
إذ أمطرت
ناديتُ مدَّ مواجعي
لو تغسلين جراحنا مثل الشجر
لو تُنبتين الميتَ من أحلامنا
مثل الشجر
لو تُرجعين أحبةً رحلوا
وأحباباً مضوا مثل الشجر
لو تهطلين على جياع الأرض أغطيةً وبُرّ
لو تنزلين الآن عافيةً على المرضى
سقوفاً للأُلِي يستدفئون بصبرهم
والكون قرّ
ومما يعجبني في الشعر السوداني الإكثار من مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم مثلما نجد عند محمد المكي إبراهيم في قصيدته مدينتك الهدى والنور:
من الزمن الكئيب وناسه لذنا بنورك
ومن شح النفوس ودائها المودي
لنا بجمالك استعصام
مدينتك الهدى والنور
وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل
وفي الحصى المنثور
مدينتك الحقيقة والسلام
على السجوف حمامة
وعلى الربى عصفور
مدينتك الحديقة أقرب الدنيا
إلى باب السماء وسقفها المعمور
(أيها الناس نحن من نفر،،، عمروا الارض حيثما قطنوا)
كلما سمعت أو قرأت هذا البيت ،،، أقف متأملا” ، متلفتا” يمينا” ويسارا” ،،،، ثم أضحك ،، أضحك من كل قلبي.
(أيها الناس نحن من نفر،،، عمروا الارض حيثما قطنوا)
كلما سمعت أو قرأت هذا البيت ،،، أقف متأملا” ، متلفتا” يمينا” ويسارا” ،،،، ثم أضحك ،، أضحك من كل قلبي.