الصحفيون هؤلاء الجنود المجهولون

في أواخر الثمانينيات بدأت تلح عليّ فكرة الكتابة للصحف، وانتابني حماسٌ جارف أشبه بذلك الحماس الذي سيطر عليّ وأنا ألج أبواب جامعة القاهرة فرع الخرطوم حيث كانت الجامعة آنذاك أشبه بخلية النحل تعجّ بشتى النشاطات الأدبية والفكرية والسياسية، فالديموقراطية في أوجها والنشاط الطلابي لا تحده حدود.
فإذا بي أجد نفسي أسيرة ذلك الجو مبهورةٌ به، وإذا بتلك الموهبة الوليدة تتفتق دفعة واحدة وكانت في المراحل السابقة تجد متنفساً محدوداً لها في دفاتر الإنشاء والجمعيات الأدبية، وفي مرات قليلة متباعدة على صفحات الصحف المحلية.
ولم يمض على وجودي في الجامعة شهرٌ واحد إلا وكنت قد أخرجت إلى حيز الوجود جريدة حائطية اخترت لها اسم “الكلمة”. عملت في البداية على تحريرها وكتابتها بنفسي ثم ما لبثت أن شدّت انتباه الزملاء والزميلات فأصبحوا يشاركون فيها بجديةٍ وصدق.
وأصبحت “الكلمة” بعد ذلك منبراً لشتى الآراء الثقافية والأدبية والاجتماعية والسياسية، وبرزت على صفحاتها مواهب عديدة في الرسم والخطوط والإخراج الفني. وقبل أن تكمل “الكلمة” عامها الثاني كنت قد تزوجت وسافرت إلى المملكة المتحدة… وسرقتني الحياة هناك فلم أحاول من جانبي أن أعرف ماذا حل بها بعد سفري.
بعد أربعة أعوام عدت وزوجي إلى أرض الوطن وبصحبتنا ضيفان عزيزان، وكان من الضروري أن أهرع إلى الجامعة لمواصلة دراستي. ولا أنكر أن فكرة إعادة “الكلمة” قد راودت ذهني مراراً، إلا أن صراخ ومطالب الطفلين كانا أعلى من صوت أي كلمة، فتركتها وفي القلب إحساسٌ بالذنب وفي النفس العزم على مواصلة صحبة “الكلمة” عندما تخف المسؤوليات.
وفعلاً إستهللت حياتي العملية محررة بمجلة “الصبيان”. ومجلة الصبيان – لعلم القارئ ?كانت أول مجلة في الشرق الأوسط تتجه لمخاطبة الطفل العربي.
صدرت تلك المجلة عام 1946م عن مكتب النشر التابع لمعهد التربية في “بخت الرضا”. وكان ذلك المكتب يقوم أيضاً بنشر الكتب المنهجية التي تعدها “بخت الرضا” إلى جانب كتيبات خاصة بالأطفال والكبار.
كان يشرف على تحرير تلك المجلة ويساهم في الكتابة فيها أجيالٌ من العمالقة لا يستهان بقدرهم في مجال الفكر والأدب أمثال المغفور لهم بإذن الله عوض ساتي، و جمال محمد أحمد، وبشير محمد سعيد وفخر الدين محمد وآخرون مما لا يتسع المجال لذكرهم وكلهم قد شغلوا فيما بعد أرفع المناصب سواءً على صعيد وزارة التربية والتعليم أو السلك الدبلوماسي أو الصحف القومية.
ولكن تلك المجلة العتيدة التي كانت فيما مضى قبلة الأنظار، أصابها الوهن والضعف وتضاءل حجم صفحاتها بعد أن عصفت بها رياح الظروف الاقتصادية والسياسية التي تأثر بها كل مرفق في البلاد..
والآن بعد حل “وتصفية” دار النشر التربوي التابعة لوزارة التربية والتعليم،توقفت مجلة الصبيان نهائياً وحُررت شهادة وفاتها في العام 1995..وهكذا وبتلك القرارت الهوجاء أغتيلت مجلة الصبيان وانهدم معها صرحٌ.. واندثر تراثٌ وتاريخ لا يقدّر بثمنٍ أو بمال.
وفي هذا المجال أجد أنه من الإنصاف ومن الضروري الإشارة إلى مجلة “ماجد” الإماراتية للأطفال والتي أضحت بحق نجمةً تتلألأ في سماء وطننا العربي تجذب إليها أنظار الكبار والصغار على السواء.
وإذا كان للإمكانات المادية وما صاحبها من نوعية الورق وجمال الطباعة والرسم دورها في هذا النجاح الكبير الذي حققته المجلة ، إلا أنه بالقطع لا يعدو أن يكون دوراً تكميلياً، لأن المضمون هو الذي يُعوّل عليه في النهاية، وهو الذي من شأنه أن يحقق إستمرارية أي عمل.
وقد كان لي شرف المشاركة بكتابة قصة العدد في مجلة “ماجد”(ضمن مجموعة من الكتّاب من مختلف البلدان العربية) في وقتٍ من الأوقات وأعلم عظم المسؤولية وحجم المعاناة التي يجابهها من يتصدّى لولوج هذا المجال. ولعل أقلها عبئاً أن تتقمص شخصية الطفل وأنت تطرح أفكاراً وأهدافاً غاية في الجدية والخطورة وبأسلوب يزيد من حصيلة هذا الطفل اللغوية ولا يستعصي على ذهنه الصغير.
وإذا كانت الكتابة للكبار أقل عنتاً ومشقة منها للصغار، حيث أن الكاتب يسكب أحاسيسه وانفعالاته على الورق بتلقائيةٍ وعفوية وكأنه يخاطب صديقاً عزيزاً لديه تاركاً “للكلمة “حرية الحركة والتعبير عما يجول في خاطره، إلا أن هذه الكلمة نفسها قد ” تتمرد” وترفض الخروج من معقلها، وذلك إذا أحست أن الكاتب يرغمها على التعبير عن أفكار مشوشة أو غير صادقة، وإن استجابت تحت ضغطه وإلحاحه فإنها تخرج باردة خالية من الحس والمعنى، مما لا يتحقق معه التواصل المطلوب بين الكاتب والقارئ.
ومن جانبٍ آخر ، وفي ظل نظام شمولي قمعي يفرض تحديد قوالب معينة للكتابة،يجد الكاتب نفسه مضطراً ومرغماً على التعامل مع “الكلمة” بحذرٍ وحرصٍ شديدين مما يستنزف طاقته ويورثه القهر والإحباط.
والآن ترى هذا النظام في سعيه المحموم للبقاء يعمل بكل السبل والوسائل على “تدجين” تلك الصحف الغير موالية لسياساته، وذلك بقهر كتّابها وشل أيديهم فأصبحت كتاباتهم بلا طعمٍ وبلا روح اللهم إلا من بعض “هنّاتٍ” هنا وهناك … تلك الهنّات التي لا تلبث أن يتم الإجهاز عليها فورياً إما بسحب المكتوب أو خضوع صاحبه للمساءلة ، هذا إن لم يصل الأمر إلى درجة الإعتداء الجسدي أوالإعتقال ، وقد تطال العقوبة الصحيفة نفسها ويتم إيقافها لعدة أيام وأحياناً يتم إيقافها فور إعدادها للتوزيع ليقاسي مالكها مرارة الخسائر المادية.
ومن هنا نلمس المهمة الصعبة الملقاة على عاتق هؤلاء الجنود المجهولين من الصحفيين والكتّاب وخصوصاً أولئك الذين التزموا بكتابة عمود يومي.
وفي النهاية فالكاتب إنسان يعتريه ما يعتري سائر البشر من مشاعر الحزن والفرح ويخضع مزاجه للتقلبات المختلفة وتستغرق ذهنه مسؤوليات أسرته، الأمر الذي يقلل من حجم عطائه ومستوى أدائه.
بدور عبدالمنعم عبداللطيف
[email][email protected][/email]
ومالك يا أستاذة ما ذكرتي الكاريكاريست الفنان القامة شرحبيل أحمد ضمن طاقم مجلة الصبيان التي عاصرنا ونحن تلاميذ في المدارس (الأولية) حيث كانت تجلب للمدارس الريفية كل أسبوع من أقرب مدينة أو مكتب تعليم بقرش أو قرشين فقط ! وبحكم كوني كنت تلميذا وفي مدرسة داخلية شأن كل المدارس الريفية فقد كنت شاهداً على لهفة التلاميذ وتلقفهم لها حيث كنا نربط لفراش المدرسة في طريقه قادماً من المدينة مساء بحماره يحمل رزم المجلة في مخاليه فيعطينا ويحاسبنا في اليوم التالي بخصمها من مصاريفنا المودعة لدى أب الفصل من المدرسين. ولقد كان السبب الوحيد لهذه اللهفة على المجلة هو عمك تنقو بشكله المضحك وحكايته الجديدة في كل عدد بالإضافة للألون المائية الزاهية للرسومات ورائحة المجلة الطازجة فكنا نتخطفها من الفراش قبل أن يصل حرم المدرسة لقلة العدد بسبب حمولة عمار عمنا الفراش ولكنها كانت كافية ليقرأها كل تلاميذ المدرسة قبل ااحضار العدد التالي وفكان الاستباق لاقتنائها فقط للاستمتاع بشم رائحتها وهي جديدة ثم نتشارك قراءتها فيما بعد ونتندر بقصة عمك تنقو وبعضنا من الظرفاء كان يتمثلها ويحاكيها وقد سمي بها من يشبهها من التلاميذ حتى من قبل المدرسين انفسهم ززز
أقول إن مجلة الصبيان كانت تعني عم تنقو ولو لا هذه الشخصية النمطية التربوية التي كان ينفذها الأستاذ شرحبيل أحمد لما حفل التلاميذ بها ولما طار صيتها وعمت شهرتها الزمان.
ومالك يا أستاذة ما ذكرتي الكاريكاريست الفنان القامة شرحبيل أحمد ضمن طاقم مجلة الصبيان التي عاصرنا ونحن تلاميذ في المدارس (الأولية) حيث كانت تجلب للمدارس الريفية كل أسبوع من أقرب مدينة أو مكتب تعليم بقرش أو قرشين فقط ! وبحكم كوني كنت تلميذا وفي مدرسة داخلية شأن كل المدارس الريفية فقد كنت شاهداً على لهفة التلاميذ وتلقفهم لها حيث كنا نربط لفراش المدرسة في طريقه قادماً من المدينة مساء بحماره يحمل رزم المجلة في مخاليه فيعطينا ويحاسبنا في اليوم التالي بخصمها من مصاريفنا المودعة لدى أب الفصل من المدرسين. ولقد كان السبب الوحيد لهذه اللهفة على المجلة هو عمك تنقو بشكله المضحك وحكايته الجديدة في كل عدد بالإضافة للألون المائية الزاهية للرسومات ورائحة المجلة الطازجة فكنا نتخطفها من الفراش قبل أن يصل حرم المدرسة لقلة العدد بسبب حمولة عمار عمنا الفراش ولكنها كانت كافية ليقرأها كل تلاميذ المدرسة قبل ااحضار العدد التالي وفكان الاستباق لاقتنائها فقط للاستمتاع بشم رائحتها وهي جديدة ثم نتشارك قراءتها فيما بعد ونتندر بقصة عمك تنقو وبعضنا من الظرفاء كان يتمثلها ويحاكيها وقد سمي بها من يشبهها من التلاميذ حتى من قبل المدرسين انفسهم ززز
أقول إن مجلة الصبيان كانت تعني عم تنقو ولو لا هذه الشخصية النمطية التربوية التي كان ينفذها الأستاذ شرحبيل أحمد لما حفل التلاميذ بها ولما طار صيتها وعمت شهرتها الزمان.
ان سردك هذا مع اغفالك لذكر شرحبيل مع أنه كان يوقع بجانب رسمة عم تنقو في مجلة الصبيان يحيلني بقوة للفلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية والذي أحالنا ايه الأستاذ عمر الدقير بإحساه الوطني السوي وعلقت عليه بالاتي:
((ان قصة بنجامين وعوض هي قصة السودان قبل الأنجاس هكذا كان التفاني في خدمة الوطن واحترام القانون وتحمل الفاقة والاخلاق والخلق القويم كوابح ذاتية بل ليست كوابح وانما موانع قبلية تمنع حتى من التفكير في استغلال الوظيفة للمنفعة الخاصة تخطياً للنظم مهما بلغ الموظف من الفاقة وقلة الحيلة – فبنجامين ظل على هذا الخلق حتى بعد انقضاض الأنجاس وانفصال الجنوب ويقول انه يفعل ذلك من اجل السودان فلم يعترف ولم يصدق أن الوطن الذي عمل له منذ تخرجه يمكن أن يتلاشى بل إن تربيته الوطنية في المدارس حتى تخرجه قد غرست فيه معنى الوطن ورد الجميل له (جميل التربية والتنشئة والتعليم والتطبيب المجاني تقابله خدمة الوطن كواجب ورد جميل لا يبلغ مداه الموظف حتى يوارى الثرى متحملا طول حياته ومضحيا بكل غال لديه وهو حياته واسرته ناهيك عن شهواته وملذاته وتضخيم وتفخيم الذات باسم الوظيفة أو الدرجة الوظيفية فالعامل والخبير كل يخدم لخدمة ورفعة الوطن والمصلحة العامة لشعبه – فليس من المعقول أن يأتي مثل الأنجاس ويدمرون كل هذا فيدخل أمثال الخال الرئاسي لإذاعة والتلفزيون ويعبث بأراشيفها، ولا أحد من الشعب يهب أو يثور ويتطاول الزمان حتى تتبدل الأجيال وتأتي أجيال لاتعلم شيئاً عن تاريخ السودان وأمثال هؤلاء الرجال مثل بنجامين وعوض… يا للخسارة ففي العالم كله تتبدل أنظمة الحكم وتتعاقب ويبقى تاريخ الشعوب متصلا إلا السودان بعد المغول الأنجاس اللهم حضرنا ساعة سقوطهم لكي تشفى صدورنا قبل الممات.))
ان سردك هذا مع اغفالك لذكر شرحبيل مع أنه كان يوقع بجانب رسمة عم تنقو في مجلة الصبيان يحيلني بقوة للفلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية والذي أحالنا ايه الأستاذ عمر الدقير بإحساه الوطني السوي وعلقت عليه بالاتي:
((ان قصة بنجامين وعوض هي قصة السودان قبل الأنجاس هكذا كان التفاني في خدمة الوطن واحترام القانون وتحمل الفاقة والاخلاق والخلق القويم كوابح ذاتية بل ليست كوابح وانما موانع قبلية تمنع حتى من التفكير في استغلال الوظيفة للمنفعة الخاصة تخطياً للنظم مهما بلغ الموظف من الفاقة وقلة الحيلة – فبنجامين ظل على هذا الخلق حتى بعد انقضاض الأنجاس وانفصال الجنوب ويقول انه يفعل ذلك من اجل السودان فلم يعترف ولم يصدق أن الوطن الذي عمل له منذ تخرجه يمكن أن يتلاشى بل إن تربيته الوطنية في المدارس حتى تخرجه قد غرست فيه معنى الوطن ورد الجميل له (جميل التربية والتنشئة والتعليم والتطبيب المجاني تقابله خدمة الوطن كواجب ورد جميل لا يبلغ مداه الموظف حتى يوارى الثرى متحملا طول حياته ومضحيا بكل غال لديه وهو حياته واسرته ناهيك عن شهواته وملذاته وتضخيم وتفخيم الذات باسم الوظيفة أو الدرجة الوظيفية فالعامل والخبير كل يخدم لخدمة ورفعة الوطن والمصلحة العامة لشعبه – فليس من المعقول أن يأتي مثل الأنجاس ويدمرون كل هذا فيدخل أمثال الخال الرئاسي لإذاعة والتلفزيون ويعبث بأراشيفها، ولا أحد من الشعب يهب أو يثور ويتطاول الزمان حتى تتبدل الأجيال وتأتي أجيال لاتعلم شيئاً عن تاريخ السودان وأمثال هؤلاء الرجال مثل بنجامين وعوض… يا للخسارة ففي العالم كله تتبدل أنظمة الحكم وتتعاقب ويبقى تاريخ الشعوب متصلا إلا السودان بعد المغول الأنجاس اللهم حضرنا ساعة سقوطهم لكي تشفى صدورنا قبل الممات.))