مقالات سياسية

أبريل والعدالة 1 ــ 2

عثمان شبونة

* أقول دائماً؛ إن الشارع أفضل صحيفة مجانية يمكن أن يطالعها الشعب ويتعلم منها.. واليوم السادس من إبريل (صحيفة استثنائية)؛ ينبغي أن يمثل للأمم درساً من شعب السودان العملاق؛ حينما تحوَّلت إرادته إلى فعل وتحوَّل فعله الثوري إلى إبهار أحال الشوارع إلى نغم كوني متفجر بالغبطة والحماس والأمل؛ متحرراً من قيود اللصوص وأثقالهم.

* كان السادس من أبريل ١٩٨٥م في لوح الزمان براقاً لحظة إنهيار منظومة الهارب (النميري) وقد أذاقت الشعب ويلاتها… ثم.. دار التاريخ بلوغاً لموعد آخر في السادس من أبريل 2019 بأروع وأقوى وأنبل إعتصام أمام قيادة الجيش بالخرطوم.. جاء هذا الحدث النادر تتويجاً لثورة ديسمبر 2018م؛ وهي مخاض سنوات لنضال أفراد ومجموعات من أبناء الوطن المخلصين ضد عسكر ومرتزقة ومهووسي الحركة الإسلاموية.
* الإعتصام الذي توافدت نحوه أقاليم السودان تباعاً من أجل تحقيق مطالب الثورة ومحاسبة المفسدين؛ ورسمت لوحة لم تسبق ألوانها المتناسقة يد أنس أو جان؛ هذا الإعتصام أقل من وصفه بكلمات توفيه بعض حقه.. بل لم يدرك التاريخ مثيلاً للوحته البشرية الزاهية من قبل؛ ولا أظنه سيدركها من بعد إلّا بعبقرية الشعب السوداني نفسه.

* اليوم ذكرى السادس من أبريل 2019.. في هذا التاريخ تداعى وطن كامل لشارع القيادة؛ اتسع مع المكان كل ضيق وحرج.. لأول مرة تتقارب أنفاس المتعبين من شتى بقاع السودان الكبير في مساحة بحجم مزرعة؛ وتندغم هذه البقاع في جهة واحدة هي القلب المحب للوطن.. يتوحد الصوت تجاه الجناة العتاة القساة؛ فيردد الصدى الهدير: (حرية سلام وعدالة.. الثورة خيار الشعب).

* في السادس من أبريل العام الماضي؛ وما تلاه من أسابيع الثورة كانت أرض الإعتصام أمام قيادة الجيش جوَّادة بحالة من التماسك والإثرة والفدائية ليست غريبة على شعبنا؛ وقلة من شرفاء الجيش يمنحون المشهد صلادة إضافية.. كأنّ الناس من مختلف مناطقهم وأعراقهم تنزّلت عليهم سكينة سماوية؛ وفاضوا باليقين بأن لحظة سقوط الطغاة البغاة تقترب… حالة أخرى من الثوار جسّدها التصالح والتصافي والمودة والرحمة فتوحدت مشاعرهم إزاء الغايات الذهبية لثورتهم.. وهم في نشوة الأحلام الجميلة بالغد عقب سقوط (البشير) وتوابعه؛ لم يكونوا غافلين عن فئة إجرامية يمثلها العسكر (ربائب الكيزان)؛ فبإمكان هؤلاء بذل المال والخبث لإفشال الثورة ليبقى الوضع الفاسد (نقاطة) لمعاشهم.. وصدق الظن السييء عندما تحرك العسكر وجنجويدهم وكتائبهم في الظلام لفض الإعتصام بدعم من (كفلاء عرب) اشتروا القتلة بثمن بخس! هؤلاء الرخاص ظنوا أن القتل والتعذيب والإخفاء القسري سيكون النهاية لثورة (الشعب الحي).. كانوا قلقين من حالة التماسك الثوري التي قرّبت الأهداف المرجوة وقطعت أشواطاً عسيرة لتحقيق النصر على أعداء الخير والعدل.. فمنذ السادس من أبريل (بداية الإعتصام) كانت نوايا العسكر والجنجويد واضحة في تعطيل مد الثورة؛ رغم إدعائهم بمساندتها.. كان خوفهم من التغيير المفضي للحساب والعقاب؛ يدفعهم دفعاً لإجهاضها بوسائل شتى.. فهل صدَّق الكذبة الأغبياء ــ بهذه البساطة ــ أن الثورة أجهضت وسيفلتون من العدالة بمعية القوى المتراخية التي تشاركهم في الحكم؟!

(2)
* السادس من أبريل 2019م؛ نقطة ناصعة البياض في تاريخنا الحديث؛ إنه الميقات (المبروك) المكمِّل لثورة ديسمبر بإعتصامها الباذخ العظمة.. لقد أعاد للكثيرين يقيناً بأن الشعب إذا صبر وعزم فلا آلة فتاكة تزعزع صموده وإيمانه بالخروج من أجل الحق.. جاء أبريل ثم مضى والأرض لم تشبع من دماء الشهداء والمصابين.. حتى إذا بلغنا بدايات يونيو ونهايات رمضان 2019م أصابنا الغم والشهداء والجرحى والمفقودين بالمئات؛ لتتحول فرحة العيد إلى مأتم وفاجعة للعالمين.

ــ هل يمكننا نسيان ذلك اليوم عندما بلغت أحقاد العسكر والجنجويد ذراها وأحرقوا أحشاء الأمهات والآباء والأسر والأصدقاء بمجزرتهم العبثية؟! المجزرة التي مازلنا نبحث عن محرِّك لها بخلاف بلادة العسكر المزمنة في ظنهم الدائم بأن القوة الغاشمة ستنصرهم (على الشعب!) وترفعهم لمصاف الزعامة والسلطة؛ ليكرروا فشلهم وفسادهم المبين..! لو كانت الغشامة وكثافة النيران عاصماً للكرسي لكان أخوهم عديم النخوة عمرالبشير رافعاً عصاه تلك؛ راقصاً حتى هذا الصباح في إحدى مدن السودان المعذبة.
ــ مَن قال لـ(حمير البرية) أن جرائم هذا السفاح القديمة ستسقط عن ذاكراتنا حتى ننسى جرائمهم في أبريل الماضي وما بعده؟!

* لو لم يكن العسكر ومجلسهم المخزي ــ في ذلك الوقت ــ ينوون العودة بالسودان إلى مربع الذل والحرمان والجريمة؛ لحافظوا على مكان الإعتصام آمناً وساهروا لحماية المعتصمين إلى أن يرد الشعب أمراً كان مفعولاً وممكناً وجميلا..! لقد توافد أبناء السودان من الداخل والخارج لأرض الإعتصام؛ يأكلون من جفنة واحدة في رمضان؛ شكّلوا بأجسادهم و(أرواحهم) مشهداً مهيباً من الوحدة والتعارف والإلفة والمحبة قلّ أن يتكرر.. لكن العسكر لا يعجبهم مرأى بخلاف الفوضى وتبديد آمال الناس في وطن حر ديمقراطي محكوم بالقانون وليس بعصابات ومرتزقة يرتدون الكاكي..! إن عسكر البشير الكبار في معظمهم لا يختلفون عن (كتائب ظل المذكور)! كان سَعدهم يوم استشهاد الشباب أمام قيادة الجيش تحت عيون و(نظارات) أهل الميل والحِطة من أصحاب الرتب الكذوبة.. بينما الشعب يمجّه الوجع القاتل وينشد مع المغني الحزين:

شيئان لو بكت الدموع عليهما عيناى
حتى يؤذنا بذهابي
لم يبلغا المعشار من حقيهما
فقد الشباب وفرقة الأحباب

* الآن الأحباب الشهداء يتوسدون الثرى.. و.. برهان؛ حميدتي؛ كباشي؛ يركبون الفارهات ويتمددون على مخمل الدنيا.. كأن شيئاً لم يكن (أيتها العدالة)..!

* ليكن أبريل 2020م ابتداراً جاداً للحكومة الإنتقالية في شقها المدني؛ للعمل بضمير مخلص في ملف العدالة.. إن إفلات قتلة الشهداء من العقاب هو عقاب آخر باهظ التكاليف لمستقبل شعبنا.. هذا الملف يجب أن يبدأ ببعض العساكر المعروفين وقد اعترفوا بعارِهم.

أعوذ بالله

عثمان شبونة – المواكب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..