غير مصنف

مسامرات الترس: ديسمبر 18 .. إلى الأبد

طالما المعدن الأصيل للإنسان يظهر عند الشدة. والدهب تصقله النار وتبرز نقاء معدنه ولمعانه ..
كذلك نحن نحتاج لأن نعيش التحدي دائماً وأبداً …لأنها ستجلي معدننا وتزيل ما ران من شوائب على إرادتنا.
وكلمة “الأزمة” في كلام الصينيين مركبة من مقطعين، تعني فرصة جديدة.
وفي الحياة اليومية تجد أن أعلى الناس همةً وطموحاً هم الأكثر معاناة.
وكلما كبر الطموح كثر الجهد والتعب والمعاناة .. وكلما قل الطموح قلَّت المعاناة والهموم و”وجع القلب”. والمتنبي يقول:
وإذا كانت النُّفوسُ كِباراً تَعِبَت في مُرادِها الأجسامُ
وكذلك الحال للمجتمعات والدول، إذا كانت عالية الهمة كبيرة الطموحات، فإن العمل والتعب مكتوب عليها لا محالة لمواجهة التحديات، وتحويلها إلى فرص.
قد يضربون لك الأمثال باستقرار بعض الدول المجاورة في المنظومتين العربية والأفريقية، مثل مصر ودول الخليج، على سبيل المثال، التي تخلو تواريخها من الثورات والاضطرابات السياسية، إلا فيما ندر. ويأخذون على السودان والسودانيين بالمقابل، كثرة صفحات تاريخهم المليئة صفحاته بالانتفاضات والثورات.
فمنذ الاستقلال في منتصف العقد الأول من الخمسينات (1956)، اشتعلت في السودان ثلاث “ثورات” شعبية أطاحت بأنظمة ديكتاتورية قوية، وبعدد من الانتفاضات الشعبية والفئوية تزيد عن الثورات الثلاث.
بينما لم “ينتفض” الشعب المصري سوى مرة واحدة في 1919 ولم تكن “ثورة” تستهدف تغيير النظام.
بينما “ثار” مرة واحدة في عام 2011، وأدت ثورته إلى اسقاط النظام الذي ظل يحكم مصر منذ عام 1952.
أما استيلاء حركة الضباط الأحرار على الحكم في مصر 1952، وإلى حين ثورة 2011، فلم تكن ثورة كما يطلق عليها، وإنما كانت انقلاباً عسكرياً مثلها مثل انقلابات الفريق عبود (1958)، وانقلاب العقيد جعفر نميري (1969) وانقلاب العميد عمر البشير (1989) في السودان.
فهل حالة الاستقرار السياسي في مصر دليل عافية، أكثر من حالة الثورات والاضطرابات والانتفاضات المتتالية في السودان؟.
يقول بهذا من يظن بأن الأسد المستكين والمستسلم في قفصه، مكتفياً بما يجود به حارس القفص من لحوم وماء. أفضل حالاً من الأسد العصي على الحبس.
والحيوان يعرف – أو يستشعر على الأصح – قيمة الحرية أكثر من بعض الناس. ومعروف أن الصقر الحر يموت إذا تم حبسه في قفص، مهما بذلت له من أطايب اللحوم.
(2)
لقد شهد السودان في عهد الفريق ابراهيم عبود، وخلال ست سنوات فقط، تنمية لم يشهد السودان مثلها بعده، وبلغت فيه الرفاهية أن العمال في تشييد طريق الخرطوم – مدني كانوا يقاومون حر الصيف بالبيرة المثلجة، وليس بالماء الفاتر، كما في بعض الدول العربية الغنيّة اليوم. ورغم هذا ثار الشعب وأسقط حكومة (نوفمبر) العسكرية، لأن كفة الحرية كانت تنخفض لصالح ارتفاع كفة “لقمة العيش”.
فطالما هناك قمع للحرية وإذلال وظلم ..إذن لا مجال للحديث عن الاستقرار. ولا بد من أن يتجه الحديث والعمل حول الثورة والانتفاض.
وإذا وجد استقرار مع الظلم وكبت الحريات والتجريد من الكرامة والكبرياء، فهو إذن استقرار مزيف وغير حقيقي.
هو حالة موات.

(3)
إن حاجتنا للقلق والتعب والمعاناة، تفوق حاجتنا للراحة والاسترخاء والاستقرار.
هذا هو الوقود الذي يمدنا بالطاقة على الحركة، والجرأة على التغيير والتطور.
ما يعني أن الثورة ليست مناسبة اجتماعية تنتهي بفض الكراسي وانصراف الضيوف، كما قلنا من قبل. أو بمجرد نزع الرئيس عن كرسيه وإحلال رئيس مكانه.
وكل الأمم التي نجحت في تشييد حضارتها نهضت وفقاً لهذا: لا استرخاء، لا راحة ولا استقرار.
وعلى كل: ما الذي يعنيه الاستقرار؟.
في الفهم العام وحتى بين النخب، يُترجم الاستقرار كحالة من السكون والهدوء وعدم الاضطراب، وانعدام الحركة. وهذه من علامات الموت في التشخيص السريري.
هذا هو قانون الكون كله.
الكون كله: من الخلايا الحية التي يتكون منها جسدك، إلى المجرات والنجوم والكواكب والأقمار والزمن، كلها تقوم على الحركة.
لو توقفت حركة الخلايا داخلك، أو داخل أي شجرة، ما بين موت خلايا، ومولد خلايا أخرى جديدة.. يتربص الموت بالكائن الحي.
ولو توقفت أي مجرة أو شمس أو كوكب أو قمر عن الحركة لثانية لاختل نظامها، وحل بها الدمار.. ورغم هذا لن تفنى. ستتحول إلى غازات وطاقة تدخل في منظومة خلق جديد.
وإذن فإن استقرارها الظاهري وانتظام حركتها ، إنما يتم وفق معادلات محددة تضمن انتظام حركتها.
فـ”الحركة” إذن – إذا صحت العبارة – هي “الثابت” الوحيد.

(4)
وكذلك هي المجتمعات.
هي في حركة دائبة، لا تتوقف ولا تهدأ، بحثاً عن استقرار حركتها وفق معادلة تحفظ توازنها.
والمجتمعات تستقر في “حركتها”، وفق معادلة العدل والحرية والسلام.
والأخير – السلام – هو نتيجة تحقق الشرطين الأولين في الواقع.
وهو بذلك، المؤشر الذي يدل على ما إذا كانت معادلة الحركة متوازنة أم مختلة.
فإذا ما أختل التوازن بغياب أحد العاملين اختلت المعادلة.
وإقامة هذا التوازن هو همّ البشرية الذي لم يتحقق منذ أن خلق الله آدم.
وما الثورات سوى هذه المحاولات المتكررة العنيدة من الشعوب لإقامة هذا التوازن. وهذا ما حفظ المجتمعات والدول من الاندثار والفناء.
هذا هو قدر الانسان في الأرض.
وهل الأديان في جوهرها سوى ثورات لإقامة هذا التوازن على أرض الواقع، بتنزيل هذه القيم وتحقيقها في حياة الأفراد والمجتمعات اليومية!.
إذن الثورة في مفهومها الذي ينبغي أن تُفهم به: هي فعل دائم ومستمر، لا يهدأ ولا يتوقف لحظة في حياة المجتمعات الحيّة.
هي فعل تغيير مستمر.
وهي سلم لصعود المجتمعات والأفراد إلى مراقٍ أعلى وأرفع.
وطالما هناك ظلم، أو قمع، أو قبح .. فالميزان مختل.
ولا بد أن تواجِه اختلالهُ حركة مضادة تستهدف: تثبيت العدل، والحرية، والجمال (بمعنى الاتساق والانسجام). ليعتدل الميزان بالقسط.
وهذا جهد جهيد، وجهاد فرض عين على كل القوى الاجتماعية التي يخدم اعتدال الميزان مصالحها.
وهو جهد وجهاد يومي لا يفتر ولا يهدأ.
يجب أن نتسلح بطموح لا سقف له، فالتوازن المطلوب سلم لولبي نهايته مفتوحة على اللانهاية، حيث اللامنتهى.
فمبادئ الثورة: حرية، سلام وعدالة، أقدامها في الأرض سياسياً .. ورأسها في السماء كقيم عليا.
والسؤال هنا هو: كيف يتم ذلك على مدار الساعة؟.
كيف نكون ثواراً في حركة حياتنا اليومية لنحافظ على توازن مجتمعنا/ دولتنا المتحرك بلا توقف؟.
بأن نعيش “الحالة” ديسمبر الآن/ هنا .. إلى الأبد.

حكمة اليوم:
“الأمة التي تفضِّل التغيير وهي في السرير، لن يغيروا لها إلا.. البامبرز!”
أمير الساخرين
جلال عامر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..