نونو الفونس (1)

كنت أؤدي الخدمة الوطنية في معسكر (قبر الكلب) في التسعينات من القرن الماضي .. أمر قائد المعسكر المجندين بإحصاء الجنوبيين الوافدين على معسكر جبل اولياء .. في نفس اليوم كنت محجوزا داخل الكركون بتهمة قد السلك (الهروب من المعسكر) .. عندما علمت من الحراس بمهمة إحصاء النازحين بجبل اولياء هربت من الكركون وتسللت الى عربات الاحصاء خلسة.. وفي معسكر جبل أولياء بدأ المجندون مهمة الإحصاء .. كان لدي مهمتى الخاصة .. تولد لدي إحساس عميق بملاقاة نونو الفونس في منطقة ما من المعسكر وستكون لحظة عظيمة عندما الاقي فتاة شكلت حضورا مهما في طفولةالعبد لله ..وملأت فراغا عريضا في شهور الاجازات المدرسية .. وحظيت باحترام وتوقير قلما امنحه لصديق أو زميل .. خاصة اذا كانت هذه الفتاة تملك روحا ندية كروح زوديتو ..
في معسكر النازحين تسربت الى تجمعات الاستوائيين أهلنا الطيبين .. سأبحث عن زوديتو الخاصة بي .. سأفتش عن الفتاة الاكثر حركة ونشاطا وألقا في مدينة جوبا قاطبة .. سأبحث عن الفتاة التى إذا تكلمت صمت الاخرون.. واذا رفعت يدها أطاع العشاق .. وإذا ابتسمت خر الناس ضحكا وقهقهة ..
كنت أسأل هنا وهناك .. بعض النازحين أكدوا لي أنها مازالت في جوبا وثلة اخري قالت انها سافرت الى يوغندا وفيئة قليلة ذكرت انها في كينيا .. بعد عناء يوم كامل أنتهت عملية الاحصاء و لم أجدها عدت خالي الوفاض .. وعدت ثانية الى الكركون وبعقوبة مضاعفة ..
من مثل زوديتو ؟ حينما تسآءلت اُم عمر .. وهي تطرح مشروع سفر إبنها من جدة الى أسمرا في سبيل البحث عن رفيقتها الضالة ..
من مثل نونو الفونس .. حينما تسآءلت .. وأنا اطرح مشروع البحث عن نونو في كل مكان .. و بجهد لا يكل وعزيمة لا تفتر ..
هذه فتاة بالذات هيمنت على (ذاكرة السمكة) .. مرت أحداث بعضها رسخ وبعضها ولى لغير رجعة .. لكنها ظلت ثابتة مثل شجرة طلح عنيدة مغروسة وسط الصخور والحجارة تأبى الاستسلام والخنوع .. وإستطاعت أن تجد لنفسها موطيء قدم دون أن تتَزحزح أو تتلاشي .. هكذا ظلت عالقة بالمخيلة طيلة سنوات عديده .. حتى اليوم لا أزال أتذكر ذات المشية المهيبة التائهة .. وذات الكلام المغنوج الناعم ,. وذات الرشاقه المعهودة كأنها أرنب بري يتقافز مرحا أو خوفا وجزعا .. وذات الهزار والمرح مع سبت لوقوروقو .. وذات الصيحات النافرة في وجه دانيال مدرب الكارتيه ..
وفي لفافات الذاكرة أيضا مداعبتها لأمونة كباسي .. تحديها لنياتقا .. كرهها لفيانوك .. إصطيادها للسمك قبالة جزيرة كوندوكورو .. مقاطعتها لصالة فرقة الرجاف (RNC) .. وصوتها الرقيق الناعم ينساب بسلاسة عبر المكرفون سياداتي انسات تدعوكم مرشدات الكشافة لمعرضها الشامل بمركز شباب نمرة 3 ..
منذ أن وطأت قدمي الخرطوم في أواخر الثمنينات من القرن الماضي هاربا من ويلات حرب الجنوب نازحا على أرض يختلف عبيرها عن أرض المنشأ .. وبعدما رتَّبَت الاسرة اٌمورها على نحو ما .. شرعت أبحث عن أصدقائي ومعارفي وأصحابي الذين تفرقت بهم السبل .. وتشتت بهم الطرق .. وتبعثروا في بقاع الشمال المختلفة ..
كان علي البحث عن نونو الفونس وأخرين مثلما فعل عمر تماما .. لكن عمر كان أوفر حظا حيث أن رحلة بحثه محصورة في فتاة واحدة إسمها زوديتو .. لكن تحتم علي البحث عن مجموعات متناثرة من الاصدقاء والمعارف والزملاء ..
اما أنا لم تكن لدي سمراويت لتلهيني عن نونو الفونس .. ظللت أبحث عنها باستمرار و بكد ونشاط وهمة لا تلين.. قلبت المناطق الفقيرة البائسة التى يطلق عليها الان باتون بـ (شانتي تاون) .. إلتمست تجمعات أبناء الجنوب الهاربون من اٌتون الحرب وفظائع القتال.. إلتمست تجمعاتهم في المناطق البسيطة التى لايتوفر فيها الا الماء العكر والاكل البسيط المفقر الجاف ربما اغلبه جمع من بقايا المطاعم .. إتلمست نونو الفونس وسط بيوت الوهن والعذاب .. بيوت هزيلة معظمها رواكيب بائسة وضامرة لا تقيهم قيظ الصيف أو زمهرير الشتاء ..
في التسعينات من القرن الماضي وعلى أرض القاهرة وفي معرض الكتاب الدولي .. وقعت عيني على رواية (رسائل من طاحونتي) إشتريتها على الفور لان المؤلف فقط يحمل اسم (الفونس دوديه).. فاسم الفونس له وقع خاص في طفولتي فهو والد الفتاة المملوءة بالحيوية والهيبة والوقار .. وهي الفتاة التى تعلق قبلها بمركز شباب نمرة 3 .. تأتيه صباحا ولا تخرج منه الا بعد صلاة العشاء .. حيث انها كانت ضمن فريق مرشدات الكشافة ..رغما عن ذلك ظلت تمارس نشاطات متعددة .. رياضية واجتماعية وثقافية ..
مع مرور الزمن صرت أتوقف كثيرا أمام إسم الفونس كأنه اثر من اثار القدماء .. الفونس كار مؤلف .. الفونس دوديه الروائي.. وفي دراسة القانون كان لي موعد مضروب مع الفونس العاشر .. والفقيه الفونس بواتيل فقيه فلسفة القانون .. وفي احد شهور رمضان تابعت عبر المذياع مسلسل الفونس السادس الذي واجه يوسف بن تاشافين في معركة الزلاقة ..
قرية ليخينا في اليونان التى دلني عليها إبن جنوب السودان البار الاغريقي كوستاكي قابلت مجموعة من الجنوبيين الباحثين عن العمل والهجرة الى أقصى القارة العجوز .. يتقدهم رجل دينكاوي ساخر إسمه جون ماكير .. وياتي بعده دينكاوي اسمه ميان كان رجلا هاديئا كأبل الير .. من حسن طالعى انه عاش في جوبا وكان يسكن حي نمرة 3 .. سألته نونو الفونس .. قال لى انه يعرفها منذ ان كان في جوبا.. لكن الان لايدري أين هى .. لكنه سمع من بعيد لبيعد انها سافرت الى كينيا .. وفي لالوكاس قابلت زانداوي ضخم الجثة مفتول العضلات ذهب إسمه من على صفحة (ذاكرة السمكة) .. حدثني أن نونو وردت شمال السودان فهي في الحاج يوسف .. ولكن عندما تخامر الخمرة راسه يذكر لي نواحي اخري مشتتة ذهبت اليها .. أحسست انه لايعرف اين هي .. يتكلم فقط من باب المجاملة ..
عبارة (كل الرجال يحبون نونو) لم تصدر عن فراغ .. حيث انها عبارة متداولة خاصة في حى نمرة 3 .. ربما تنسب العبارة الى سبت لوقوروقو الكشاف الاعظم كما يلقبه صديقنا وابن الجنوب عبد الكريم .. فهي الانثي الاكثر عشقا على نطاق واسع .. متيمة الرجال .. وقاتلة المحبين ..
لكنها مع ذلك لم تعشق احد .. تجاهلتهم وتصدتهم دون ان تجرح كرامتهم .. كانت طاهرة في تعاملها وعفيفة في صداقتها ودودة في تصرفاتها .. فتجمع حولها أطياف متعددة دينكا وشلك واستوائيين وشماليين ونوير .. لها صداقات ممتدة .. ومعارف كثر .. كان لها صيت في مركز الشباب قلما تجد مثله .. تجدها في روضة الاطفال صباحا .. وتوزع وقتها مع المرشدات عصرا .. وتلعب الطائرة مع الرجال .. يتبع
[email][email protected][/email]
انا معجب جدا بكتاباتك لانك تكتب ادبا يعرفه القله مع اهميته . لك تحياتى
انا معجب جدا بكتاباتك لانك تكتب ادبا يعرفه القله مع اهميته . لك تحياتى