العودة إلى برلين…

ذكريات وخواطر: العودة إلى برلين
شهاب الدين محمد علي/ برلين
كان ذلك قبل ما يزيد على خمس وعشرين عاما ياسادتى عندما وطأت قدماي الشقيتان أرض برلين. أتيتها أطلب علما وأنا لا أعلم عنها أكثر من أنها كانت عاصمة أدولف هتلر وأن بها سورا عاتيا يقسمها إلى نصفين: شرقي وغربي وأن بها مسجدا يقال له ال(نور موشيه) عنوانه هو المبنى رقم عشرة في شارع يقال له كوبنيكر أشتراسا. هذا يارعاك الله كل ما جمعته عن برلين في ذلك الوقت من عام 1989.
أتيتها أحمل حقيبة صغيرة وقدرا من المال يسيرا وملفحة من الصوف الأبيض أعطانيه المرحوم والدى رحمه الله وصورا وذكريات عزيزة و…..آمالا عريضة.
بقيت فى تلك البلاد ما شاء الله لي أن أبقى ، ثم حزمت حقيبتى وغادرتها إلى بلاد حسبتها أرحب أرضا وأكثر أكراما للضيف وحفاوة بالغريب ، ولم يخب ظنى والحمد لله أولا وأخيرا.
ثم، عدت إلى برلين بعد هذه السنين الطويلة، تماما كما جئتها أول مرة ، أطلب علما . ولا تسلنى يارعاك الله أين كنت كل هذه المدة الطويلة ، فهذه قصة أخرى ، يطول شرحها، كما يقول أديبنا وحبيبنا الراحل المقيم الطيب صالح ، أسبغ الله شآبيب رحمته على قبره. أليس طلب العلم من المهد إلى اللحد؟ لما الإستغراب إذن؟
المهم أننى عدت إلى برلين وبى شوق عظيم إلى أخوة أعزاء تقاسمت معهم لقمة العيش وشاركتهم سكنى المسجد المذكور ثم سكنى بص مهجور . لدهشتى وجدت أن أكثر الأصحاب مازالوا يعيشون هنا . حيث تركتهم. في عطلة نهاية الأسبوع إلتقيتهم في دارهم العامرة . موسيقى سودانية تنساب من جهاز التلفاز الكبير في أحد الأركان . البعض تحلق حول طاولة مستديرة يلعبون الورق، تعلو أصواتهم أحيانا حتى تطغى على صوت التلفاز. ينبرى أحدهم بأن الجيرات قد أشتكوا من إرتفاع أصواتهم. يتصدى له آخر بأن اليوم هو عطلة نهاية الأسبوع . أكواب الشاي الأحمر تدور بين الفينة والأخرى مع بعض قطع الكيك والحلوى.
بدأت أسأل عن زملائى وأصدقائى القدامى واحدا تلو الآخر: كيف بالله أخبار فلان؟ هو بخير. أكمل دراسته وتزوج من من أهل البلاد ورزق ببتين ويعمل في شركة كبيرة. وفلان ؟ هو بخير . أولاده في السودان يأتونه في الصيف وهو يعمل هنا. وما ذا عن فلان؟ والله هذا الشخص رأيته مصادفة آخر مرة في مترو الأنفاق منذ مدة طويلة، فوق الخمسة عشرة عاما تقريبا ولم أره بعد ذلك أو أسمع عنه. عندما إستغربت من حديثه قال أن مثله كثيرون هنا في برلين. كل واحد في حاله. ليس كما تركتهم. كل واحد مشغول بعمله وأسرته. هذه سنة الحياة، خاصة في هذه البلاد التى لا ترحم المتقاعسين. وافقته الرأي مع بعض التحفظ. وكيف أخبار فلان؟ آه فلان ! والله سمعت أنه عاد إلى السودان وإنقطعت أخباره .
فجأة ، سألنى أحدهم ألا تعلم ان اليوم يصادف مرور الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط سور برلين ؟ لماذا لا تخرج لتحتفل مع أصحابك الألمان بهذه المناسبة وتستعيد الذكريات؟
كان صاحبى محقا فيما قال إذ كان يشير إلى أننى أقتطع من السور قطعا صغيرة أبيعها للسواح. نعم، كنت أبيعها اما قطعا عارية أو في أكياس بلاستيكية مع كروت بوستال تصور إقتحام الجدار من قبل الألمان الشرقيين. كنت إبيعها بالمارك الواحد والإثنين والثلاثة، عملة ألمانيا وقتها، حسب السوق، وعشت على ريعها عاما كاملا .
ألا ما أسرع مر الأيام! خمسة وعشرين عاما بالتمام والكمال. عدت بذاكرتي بعيدا إلى الوراء. في تلك الأيام كان السور مازال ماثلا، يقف عاتيا عنيدا بليدا ، يتحدى سنن الكون في غرور وصلف. يقال أن أهل برلين ذهبوا إلى مضاجعهم ذات ليلة هانئين وأصبحوا يوم نحس من شهر أغسطس 1961 ليجدوا أن الأرض قد إنشقت ليلا وأنبتت سورا شيطانيا يمنع تدفق الشرقيين إلى الشق الغربي. من شرفة مسجد النور في الطابق الرابع، حيث كنا نقيم، كنت اشاهد الحرس الشرقي فوق السور في كامل سلاحه وعتاده، يتبختر جيئة وذهابا ، يتحدى إرادة شعب كامل تضطرب من خلفه أمواج هادرة من الشعوب المقهورة.
قبل أن أنسى ، دعنى أفضى إليك بسر خطير ، إذ أنه بعد ميلاد هذا السور بشهرين فقط، شهدت قرية صغيرة على ضفاف النيل الخالد بشمال الوطن الحبيب ميلادا آخر، لا يقل خطرا عن ميلاد السور نفسه ، على الأقل في نظر أبى وأمى ، عليهما رحمة الله ورضوانه، حيث جاء إلى الوجود كاتب هذه السطور .
المهم في الأمر هنا ، أنه بعد أقامة قصيرة في برلين الغربية وقتذاك عدت إلى أرض الوطن ريثما ينسلخ عنها الشتاء وأعيد ترتيب أوراقى وأوضاعى، لأعاود الكرَة من جديد. وفي ليلة ليست كسائر الليالى كنت أشاهد نشرة الأخبار في التلفاز في دار إبن خالتى العامرة بعاصمة البلاد . رأيت ما لم يكن يخطر على بال أجمح الناس خيالا، إذ فتح الشرقيون كوة صغيرة في جسم السور العاتي المنيع ، وتدفقوا منها صوب الغرب ذرافات ووحدانا. أذكر منظرهم تماما كانى أراهم الآن أمامى. كان شبابهم يصرخون في نشوة هستيرية بقهر السور العنيد . وأذكر أننى قلت وقتها لمن كان بجوارى أن هذا الحدث له ما وراؤه وكنت أعنى أن إنهيار ذلك السور وبتلك الطريقة الدرامية يعنى إنيهار المنظومة الإشتراكية برمتها.
قيل أن مايزيد على الثلاثة ملايين ونصف من الألمان الشرقيين قد هربوا من برلين الشرقيه إلى الغربية قبل بناء السور العازل أو الفاصل ، سمه كما شئت. وقيل إن اكثر من مائة من الشرقيين الذين حاولوا الهرب إلى الغرب قد لقوا حتفهم أثناء محاولات عبور السور . الله ورسوله أعلم.
لايهم كثيرا كم أفلح وكم مات ممن تحدوا السور، المهم ان السور العنيد قد أذعن أخيرا لسنن الكون فإنهار امام إرادة شعب أعزل رفض العزل والتقسيم. إرادة الشعوب يارعاك الله، هي تماما مثل إرادة الماء المتدفق، قد توقفه عند حده وتطوعه لحين ولكنها لاتستسلم إلى الأبد. عرفت هذا عندما بدأت فلاحة الآرض وسقى الماء بقليل من الخبرة وكثير من الحماس في بواكيرالشباب. ألا ماأجمل الشباب. وقتها، لم أفهم أبسط سنن الطبيعة ولا قوانين الماء ولم أكن أدر قوة رأسه ، فأعطانى دروسا لا أنساها، إذ جعلنى أحمل صفيحة التراب على كتفى طول الوقت ، أحاول أن أسد هذا الخلل في الحوض أو أدعم جزءا ظهر فيه الوهن أو أوقف تسرب الماء في مكان ما. كل ذلك من غير طائل، إذ تداخلت أحواضى الصغيرة في بعضها وصارت كلها حوضا واحدا ، أو قل مثل بحيرة صغيرة ، تعمها الفوضى والهرج والمرج. هل قلت لك قبل قليل أن إرادة الشعوب هى تماما مثل أرادة الماء حين يتدفق؟ ألا يدرك القائمون على أمر بلادى هذه الحقيقة البسيطة؟ لكن ، مرة أخرى هذه قصة أخرى .
يقال أن الشرقيين عندما كانت تعييهم الحيلة في عبور السور العاتى ، كانوا يعبَرون عن سخطهم واحباطهم بكتابة شعارات الحرية ورفض التقسيم وكراهية ذلك السور على صفحات السور نفسه. وغالبا ماكانت الكتابة والرسومات بالالوان الأحمر والأسود والأصفر، حتى غطى على لون الجدار الأصلى الذى كان باللون الكريمى الفاتح.
عقب سقوط السور وتحويل معظم كتله الخرسانية العملاقة إلى أماكن نائية في برلين نفسها، كنا نقتفى آثار هذه الكتل ، مثل صيادين مهرة يقتفون أثر صيد ثمين، نقطتع منها قطعا نبيعه للسواح. بالمارك أو الماركين أو الثلاثة ، حسب السوق كما قلت لك منذ قليل. بعد حين ، انتهت القطع التى كانت ملونة بلاحمر والأسود والأصفر وصارت بعيدة المنال. فما العمل؟ وبيع قطع السور قد صار مصدر الرزق لنا ولكثير من إخواننا الأتراك وقليل من أهل البلاد الألمان؟ قديما قيل أن الحاجة أم الإختراع. نعم يارعاك الله، هذا تماما هو ماحدث. صرنا نشترى نفس ألوان الجدار ونلونه بها ثم نكسر منها قطعا نبيعه ، بالمارك أو الماركين .
أذكر جيدا ذلك اليوم البارد من أيام السبت، عطلة نهاية الأسبوع وهو أفضل أيام البيع أطلاقا. خرجت ببضاعتى من قطع الجدار التى لونتها بيدي هاتين وسط سخرية رفاقى في السكن وضحكاتهم ونظراتهم. كان الجو باردا غائما اول اليوم .فرشت بضاعتى على طاولتى وبعضها على كتل الجليد المردوم بجانبى عند موقع براندنبرقرتور، حيث يقف مبنى البرلمان القديم على مرمى حجر منى. كانت حركة الناس من حولي جيدة وكذلك كانت حركة البيع. فجأة أطلت الشمس بوجهها من خلف الغيوم وسقطت اشعتها دافئة بعض الشيء على بضاعتى المتواضعة . لاحظت أن الناس قد توقفوا عن شراء أحجارى الكريمة من بقايا الجدار.بعدها، لاحظت نظرات السخرية تطل من عيون السواح وهم ينظرون إلى بضاعتى ، أقصد حجارتى. نظرت إلى حجارتى ويا لهول مارأيت. رأيتها تتصبب عرقا وهي في أكياسها البلاستيكية من فعل أشعة الشمس إذ لم تكن قد جفت تماما من أثر التلوين. تصببت عرقا بدوري من فرط خجلى وإنكسافي وهوانى على الناس . أحسست أن رقبتى تغوص بين أكتافى وصارت “زي السمسمة” على رأي أخواننا في شمال الوادى. يا إلهى، ياللفضيحة.ما العمل؟ لم تترك لي أشعة الشمس غير خيار واحد: لملمت ما بقي من حجارتى وخاطرى المكسور ، حملتها جميعا على ظهرى وعدت إلى المنزل مهيض الجناح.
ألا ترى عزيزى القارئ أن لى علاقة خاصة مع سور برلين؟ فنحن مولودان في عام واحد، يفصل بيننا شهران فقط . عندما حاولت زيارتها أول مرة ، إنهار من غير سابق إنذار، ثم ، عندما عدت إلى برلين بعد ربع قرن بالتمام والكمال ، وجدت الناس يحتفلون فيها بذكرى سقوطه الخامس والعشرين .
يالها من صدف غريبة. أليس كذلك؟
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..