تبديل الحقائب الدبلوماسية في السودان، رياح المصالح الإقليمية تعصف بالخرطوم وتُعيد رسم التحالفات

محمد هاشم محمد الحسن
في خضم أتون الحرب المستعرة وتداخل الأجندات الإقليمية والدولية، تبرز قرارات الفريق أول عبد الفتاح البرهان الأخيرة بتعيين وزير خارجية جديد وإقالة سلفه كشاهد حي على تعقيدات المشهد السوداني وتشابك خيوط المصالح المتنافسة. فبينما سعى البعض لتفسير الإقالة برواية مغلوطة تربطها بحديث الوزير السابق عن انسحاب قوات الدعم السريع، تكشف الحقائق عن دوافع أعمق وأكثر ارتباطًا بتوازنات القوى الإقليمية الطاحنة التي تسعى لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة.
لقد أثبتت الأيام زيف الادعاءات بانسحاب الدعم السريع من الخرطوم بموجب اتفاق أو تحت وطأة الهزيمة. فالحقيقة المرة التي تجلت بوضوح هي أن الانسحاب كان تكتيكيًا بحتًا، يهدف إلى إعادة التموضع وتنظيم الصفوف استعدادًا لجولات قتال أخرى. أما السبب الحقيقي وراء إزاحة وزير الخارجية السابق فيكمن، كما يبدو، في معادلة إقليمية دقيقة ترسم خطوطها الرياض، حيث تتداخل دوافع استراتيجية أعمق تتجاوز مجرد رد الفعل على تصريح.
فمع دخول المملكة العربية السعودية كلاعب محوري وداعم قوي للجيش السوداني، بدأت تتبلور شروط ومصالح جديدة. ولم يكن الدعم السعودي مجرد منحة بلا ثمن، بل حمل في طياته رؤية استراتيجية للمنطقة، تتجاوز حدود السودان لتشمل أمن البحر الأحمر الحيوي، ومواجهة تصاعد النفوذ الإيراني وحلفائه في الإقليم، وضمان استقرار منطقة تعتبرها الرياض عمقًا استراتيجيًا واقتصاديًا هامًا، لما تحتويه من استثمارات ومصالح اقتصادية سعودية قد تتضرر من استمرار الصراع. ويبدو أن تقليص النفوذ المصري المتنامي في حكومة بورتسودان كان أحد أبرز هذه الشروط، خاصة وأن وزير الخارجية المقال كان يُنظر إليه على أنه مقرب من القاهرة، مما أثار تساؤلات حول ولاءات الحكومة الجديدة في نظر الرياض. هنا يتضح جليًا أن المنافسة على النفوذ والسيطرة الإقليمية تمثل أحد المحركات الخفية للتدخل السعودي في الشأن السوداني، وتحويل الخرطوم إلى ساحة لتنافس خفي بين قوى إقليمية تسعى لترسيخ أقدامها.
وفي هذا السياق، يأتي تعيين وزير الخارجية الحالي ليطرح تساؤلات ودلالات جديدة حول مستقبل التحالفات الإقليمية وتأثيرها على مسار الحرب والسلام. فتاريخ الرجل وعمله السابق كسفير في الصين خلال فترة عمل البرهان كملحق عسكري هناك، بالإضافة إلى تجربته كسفير للسودان في الأمم المتحدة، تشير ربما إلى تقارب في وجهات النظر أو على الأقل إلى ثقة متبادلة مع القيادة الحالية. والأهم من ذلك، أن هذه الخلفية قد تجعله أكثر قربًا من التوجهات السعودية، وهو ما قد ينسف سردية انتمائه الفعلي للحركة الإسلامية، التي تتعارض استراتيجياتها غالبًا مع توجهات الرياض، مما يطرح تساؤلات حول مدى استعداد البرهان للموازنة بين الحفاظ على علاقاته الداخلية وتلبية متطلبات الداعم الإقليمي الجديد.
لكن هذا التقارب الظاهري مع السعودية لا يعني بالضرورة أن الرياض تضغط على البرهان لقطع علاقته بالإسلاميين بشكل كامل. ففي هذه الحالة، قد يجد البرهان نفسه مدفوعًا نحو أحضان قوى إقليمية أخرى مثل مصر وتركيا، وهو ما لا يخدم بالضرورة المصالح السعودية التي تسعى لترسيخ نفوذها دون إحداث فراغ استراتيجي قد تستغله قوى منافسة. ويبقى السؤال معلقًا حول كيف سترد القاهرة على هذا التحول في ميزان القوى، وهل ستلجأ إلى استراتيجيات بديلة للحفاظ على نفوذها في السودان الذي يمثل عمقًا استراتيجيًا لها أيضًا.
ويبدو أن البرهان ببراغماتية معهودة، استغل هذا التدخل السعودي واجندته وشروطه لتعيين شخصيات يثق بها وقادرة على تمرير رؤيته وسياساته، وبالتالي إحكام قبضته على الحكومة في هذا الظرف الدقيق، ضامنًا بذلك تماشي السياسة الخارجية مع أولوياته وتوجهاته. هذا التعيين يرسل أيضًا إشارات مبكرة حول طبيعة المفاوضات المحتملة مع قوات الدعم السريع، واحتمالية تغيير الوسطاء أو الشروط المطروحة، مما يلقي بظلال من الشك على المسار المستقبلي للسلام.
ختامًا، يمكن القول إن تبديل الحقائب الدبلوماسية في السودان ليس مجرد تغيير روتيني في المناصب، بل يعكس صراعًا معقدًا على النفوذ والمصالح الإقليمية، حيث تجد الخرطوم نفسها في قلب عاصفة من التجاذبات التي ترسم مستقبل البلاد بفرشاة من المصالح المتضاربة، وتُعيد تشكيل التحالفات الإقليمية في منطقة تشهد تحولات جيوسياسية متسارعة.