الوتر المشدود بالإنسانية: نصف قرن والكمان يتكئ على الكتف الأيسر والقوس يعلو ويهبط بالقرب من القلب الكبير

الخرطوم : الزين عثمان، درية منير
ابتسامة الرجل الجالس خلف الموسيقار محمد الأمين، حركة الفرح في أيادي الزول الضاحك خلف الإمبراطور محمد وردي، المتمدد في فرح خلف العاقب محمد الحسن، الممسك بقيثارة إبداعه خلف عائشة الفلاتية، الوسيم القاعد مع فرقة أحمد المصطفى، المحتضن كمانه وأبوته خلف شباب نجوم الغد قائدا للأوركسترا..
وحين يأتيك صوت هنا أمدرمان الملحق به أوركسترا الأذاعة تأكد أن ثمة رجلا تخرج ابتسامته من صندوق الراديو أو عبر سماعتك الهاتفية يخبرك فقط أن الإبداع أصله سوداني وهو معزوف على نغمة الاسم محمد عبدالله أبكر محمدية..
الرجل وكمانه حكاية في زمان السودانيين مرسومة بحب ومعزوفة بخصوصية قدرات الرجل الأسمر من فوق عينيه (النظارة) التي نحاول أن نرى من خلالها تجربة السنوات (لزول) شابه إبداعه ذاته ورسم صورته في قلوب الجميع لدرجة أن الجميع يحاول جاهداً أن يتجاوز الفنان الواقف في المسرح ليتزود بنظرة إلى محمدية وكمانه.
واحد من الناس
هناك في ديم جابر وعلى شؤاطئ البحر وفي عروسه بورتسودان خرج محمدية إلى الحياة، وتابع الصغير كرة شرابه مع أقرانه وهو يجيد ركلها بصورة مميزة ويحرز أهدافه على طريقته المميزة في ركل الكرة، والصغير ينتظر القمر ليبحث مع الآخرين عن (شليله) وهو يقول إن حياة السودانيين وطفولتهم تتشابه، فقط المختلف هو من يضع اسمه في سجل الخالدين بإبداعه وبروحه السمحة.. هكذا هو محمدية.
يحكي محمدية عن تفاصيل طفولته والتي يقول إنها تشابه طفولة كل السودانيين وألعابهم المعروفة كشليل وعسكر وحرامية مضيفاً توصيفات أخرى هو أنه كان يعمل كعامل بناء ويستطيع بناء (حيطة) كاملة إلا أن عامل البناء بنى جدارا خاصا له في قلوب السودانيين، فقط من خلال كمانه وروحه.
الرجل والكمان
من استاد بورتسودان بدأت الانطلاقة.. حين يحكي محمدية عن وصوله إلى الخرطوم وجلوسه خلف الفنانين يبتدرها ببساطته وبشاشته وهو يقول: كنت لاعب كرة قدم مميزا ولكني حسبتها بالمنطق فإن عملية شد عضلي يمكنها أن تضع نهاية لمسيرتك في الملاعب الخضراء وتعني خروجك من قلوب الناس ومن ذاكرتهم، لذلك اتجهت نحو الموسيقى.. معادلة الكفر والوتر انتهت بانتصار الثاني على الأول وإن كان الرجل أولاً في مجال ممارسة الكرة بل يقول إنه كان منافساً خطيراً للطاهر حسيب موسيقار الكرة في الشرق الماهل لإبداع ناسه، بل إن خياره المغادرة جعل أهل (الثغر) يفارقون ابتسامتهم فمحمدية يغادرهم إلى أراض أخرى وواقع جديد، وهي الرحلة التي وجدت اعتراضات كبيرة من إدارة نادي الثغر.. والمدهش أن محمدية غادر من الاستاد إلى محطة القطار في اتجاه الخرطوم وكأنه يستعيد نغمة أخرى اسمها نغمة (قوون القطر) وعند محمدية الهدف هو الكمان والعزف عليه.
وهروباً من لعنة إصابات الملاعب يذهب محمدية ليدهش من يقف خلفهم أو يدهش من يستمعون إليه في وقت واحد.
محمدية والصفارة
يقول محمد عن لقب محمدية إنه لقب استلمه دون أن يعرف من الذي أطلقه عليه، فقد تكون أطلقته عليه إحدى الحبوبات في طفولته الباكرة كغيره من الصغار في سعي الكبار لإيجاد اسم لتدليلهم.. ولكن تدليل محمدية لم يقف عند محطة حبوبته، بل شاركها في الأمر رفاقه في الحي حين سماعهم له وهو يعزف على (الصفارة) فالجميع كان يثني على أداء محمدية وهو الثناء الذي قال إنه يتجاوز حده ليصل إلى درجة المبالغة أو (التوريط)؛ وهو ما حدث بالفعل لاحقاً..
ومن العزف على الصفارة يواصل الفتي بحثه للوصول إلى هدفه وهو ممارسة العزف عبر آلة الكمان حاكياً قصته أيضاً معه والتي يقول فيها إنني كنت أقصد العود وحين عز علي الحصول عليه اتجهت نحو الكمان وتحصلت على أول كمان في حياتي عبر الحظ حيث جاء أحد الموظفين إلى مدينة بورتسودان ليعمل في بنك الخرطوم “باركليز سابقا”، ووقتها كانت معظم الأندية وتجمعات الموظفين من مظاهرها أن يكون هناك عود ومطرب لتلك الجوقة، فكنت أتردد على تلك التجمعات، وتعرفت على الأخ مدني محمد طاهر، وهو بالأضافة لهواية الموسيقى لاعب كورة قدم ماهر، وأيضا أنا كنت عاشقا لكرة القدم ولاعبا بالدرجة الأولى بفريق المريخ.. وأهداني الأخ مدني آلة كمان كانت هي ضربة البداية، وكان ذلك سبب انحيازي للموسيقى على حساب كرة القدم، وأعتقد أنني اخترت الطريق الصحيح..
طريق الأشواك
لم يكن طريق الرجل نحو تحقيق أهدافه مفروشاً بالورود في الخرطوم التي وصلها راغباً في العزف عند ستينيات القرن الماضي، ويحكي عن أول شوكة غرستها في قدمه (عائشة الفلاتية) التي لم تكن آنذاك في المرتبة الأولى في الغناء وحين جاء للصعود عازفاً من خلفها تساءلت: (دة منو؟) وحين لم تأت الإجابة بأن الصاعد معروف لديها طالبته بعدم الصعود والعزف من خلفها.. لم يجد الشاب ما يفعله سوى النزول والبحث عن طريق آخر للصعود نحو حلمه غير المؤجل.. لم يعتبر محمدية ما فعلته عائشة آنذاك انتقاصاً من مقدراته بل هو اعتراف بمسؤوليتها تجاه فنها، قائلاً: لو لم تفعل ذلك لم تكن لتصبح عائشة الفلاتية.. بل بالعكس كان دافعي لي لتجويد عملي مستقبلاً، معتبراً أن ما حدث كان هو الرسالة الأولى في صعوبة الطريق الذي عليه أن يقطعه من أجل الوصول..
ومضى محمدية في رحلته تجاه شارع النيل حيث مبنى الإذاعة بصعوبة تلك الخطوة في زمان العمالقة.. ممارسة الفن وقتها كان لابد أن تكون من خلال النقابة، والنقابة كانت محاطة بهيبة نظراً لعمالقة الفن “الكاشف”، و”أحمد المصطفى”، و”عثمان حسين”، يقول: ظللت ثلاثة أيام أدور حول النقابة إلى أن جاء الفنان “وردي” ووجدني خارج النقابة فاصطحبني معه ودخلت، ثم من بعد ذلك فكرت في دخول الإذاعة والتقيت بعلاء الدين حمزة، وكان رئيس الفرقة الموسيقية وقابلت أيضاً “مصطفى كامل” عازف القانون، فقال لي: تريد العمل بالإذاعة؟ فأجبته بنعم، فقال لي يجب أن تقابل اللجنة بالإذاعة، وبالفعل قابلت اللجنة واعتمدتني على الفور وحددت لي مبلغاً..
ودخل الرجل ليسجل عمله الأول من خلف عثمان حسين (حارمني وصلك مالك) ويتصل مشهد صناعة المبدع لذاته فترة تدريبية في القاهرة من الإذاعة السودانية استغلها ليبقى هناك ويواصل الدراسة قبل أن يعود إلى السودان ويمضي في ذات خط صقل موهبته بالدراسة في المعهد العالي للموسيقى والمسرح ويبقى أستاذاً فيه يعلم الصغار فك حرف (الصولات) الموسيقية لطلابه وهو الموقن بأن الإبداع منحة قبل أن يكون دراسة.
شيخ الكمان
هكذا ولد الرجل وكأنه لا يمشي إلا والكمان معه تجدهما اثنين لا يفترقان.. والرجل يخبر عن نفسه أنه يقضي كل أسبوعه في التمرن على إنجاز مهمته في نثر عبير الدهشة على مخيلات السودانيين وكل منا لمحمدية عليه فضل ليس في الاستماع فحسب بل حتي في الذائقة السماعية فحركات وجه محمدية عبوساً وابتساماً تخبرك عن إجادة الفنان من عدمها فهو من الذين خبروا الصنعة وعجنوها كما يريد لنا الإبداع أن نكون.
انكسار “القوس”
محمدية الذي جاهد للهروب من إصابة الملاعب في الكرة وجدها من دون أن يمارس فضيلة الركض، فالجلوس يأتيك أيضاً بالمرض فما بالك حين يتجاوز نصف قرن من الزمان، وكأن الكمان يحني ظهر عاشقه..
تأتيك الأخبار بأن محمدية يرقد يرافقه ألمه، يمارس صمته المهيب وشجاعته الضاحكة على كل شيء، ينتظر أن تهل على الجسد موسيقى الراحة، يعجزه الأمر ليمارس الانتظار بمهابة..
يتحرك عارفو فضله، أولئك الذين وهبهم لحظة للابتسامة وشعورا بالارتياح بحركة من قوسه المدهش في رحلة ذهاب يده وعودتها إلى مكمن الإبداع، ينادون أن أنقذوا محمدية الجالس يترنم بمقطوعة (عشت يا سوداني وأنا أمدرمان). فمثله لا تليق بوجهه الصبوح مسحة الحزن وهو الذي يمحو من عيون الجميع العذاب..
الضحكة المجلجلة في نادي الفنانين اعلم أنه إن لم يكن أمامها فمن خلفها يجلس محمدية، تجمع الوجوه الصبوحة هو تجمع ينتظر محمدية.. القهقهات العالية مضبوطة أيضاً على كمان محمدية الخاص.
المتفق حوله
الرئاسة تعلن تبنيها لمشروع علاج محمدية على حساب الدولة في زمان الانهيار الاقتصادي.. أمر يمكنك أن تقرأه مع تصريح منسوب لرئيس الجمهورية في أحد التجمعات وهو يطالب الآخرين بأن يسمحوا له برؤية محمدية “فالرجل شوفتو شفاء” هكذا يمضي الكثيرون حين سؤالهم عن محمدية دون أن يكون بينهم رابط سوى ابتسامة الرجل وقوسه وكمانه وقدرته في إنجاز عمله بما يليق به باعتراف الجميع.. الرجل يمثل نسيج وحده من الإنسانية ومن السودانية الحقة، لذا لم يكن غريباً أن يتحرك الجميع للوقوف معه في محنته، فالرجل يجعل من نفسه تلميذا في مدرسة القيم السودانية وهو يحكي عمن عاصرهم: “أنا أعتبر معاصرا، إذ عاصرت الكاشف وأحمد المصطفى وعثمان حسين وعبد الحميد يوسف، وكنت سعيدا بمشاركتي في العزف مع هؤلاء العمالقة، كذلك عزفت مع العمالقة الخواض وعربي وعبد الفتاح الله جابو، وعندما تشترك مع هؤلاء فإنك تسمع الدرر من الألحان من تلك الأنامل الذهبية التي تعلمنا منها احترام الفنان والتعامل مع النغمة بجدية واحترام المواعيد والافتخار بالموسيقى السودانية، فكل واحد من الذين ذكرت كتاب نتعلم منه كل القيم الاجتماعية والفنية”..
العزف بمقطوعة الحب
الخرطوم التي تختصم على تشكيلها الوزاري، وتتباين وجهات نظرها حول المعالجات الاقتصادية وينقسم سكانها بين الهلال والمريخ وتتنازع آذانها بين وردي وود الامين والآخرين، ويختلف مثقفوها حول الأغاني القديمة وجيل الأغاني الهابطة؛ هي نفسها الخرطوم المتنازعة حول التطبيع مع أمريكا وجدلية الحفل الراقص في قاعة الصداقة..
هي نفسها الخرطوم التي اتفقت مجمل قطاعاتها على محمدية وعلى كمانه.. تراجع الجدل حول جدوى الحفل الراقص من عدمه، فقط لم تجد المدينة سوى أن تطبع قبلة اتفاقها على جبين محمدية وتعمل من أجل استعادة جلسته خلف الفرقة الموسيقية لأي من الفنانين.. فجأة تراجع كل ذلك الجدل لصالح علاج محمدية وإعادة الحياة لكمانه وابتسامته..
خطوة لم تجد احتجاجاً بل قبولاً منقطع النظير.. البلاد يحركها محمدية والمشهد يعيدك لإحدى الحكاوي لواحد من غمار الناس التقى بمحمدية صدفة وفي بروفة.. انتهت البروفة ليظل بعدها الرجل مغنيا في صداقة الصدفة وحتى الآن.
على بوابة الخروج
نصف قرن والكمان يتكئ على الكتف الأيسر والقوس يعلو ويهبط بالقرب من القلب الكبير، وابتسامة محمدية كفرحنا به في مكانها لا تتغير ولا تتبدل، ولاعب الكرة يركلها بعيدا ويتمسك بآلته التي عرفها وعرفناه من خلالها، يعزف كل الأناشيد والأغنيات، يمارس القفشات، يتحرك في الدرب البطابق فيه خطوه صوت حوافر الإبداع، لا يتوقف ولا يمارس الغياب، تتابع الأسماء للفنانين والفنانات الصغار والكبار ويظل الاسم كبيراً.
صبي النجار يتمسك بوصية معلمه في بورتسودان أن: (قيس ألف مرة واقطع مرة واحدة).. يفعلها وهو يقيس بنا في مشاويره كل شعاب البلد ويقطع نفس خيل قدرتنا على كتم آهة الإعجاب بإعجاب جديد ليكون عند حلول أوان أي تشكيل وزاري أن محمد منتخب في قلوب الكل حباً وإنسانية وفي أياديهم المرفوعة: رب اغفر له وارحمه وارض عنه وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب.. اللهم نقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
نغم يجري
محمدية نغم يجري في قلوب الجميع ودمائهم، يعزي الجميع.. محمدية الذي شكل نغما ومزاجا لنا، يفكر الكل في أوركسترا الموسيقى السودانية الذي كسر عمودها الفقري وغاب صامتا رغم الأصوات الشجية التي كان يملأ بها الساحة الفنية لحنا وطربا. في الفترة الأخيرة تعرض روح الموسيقى لنكسة مرضية وظل يتابع الفن من على البعد لأن تقريره الطبي أجبره أن يحافظ على صحته.
زورق للألحان
كلمات حق قالها الفنان عبد القادر سالم في حقه ناثرا عبارات رثاء لا توفيه حقه في مسيرته الطويلة التي زامل فيها العديد من المبدعين والتي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي إلى أن وصل (أغاني وأغاني) مع الفنانين الشباب، بحسرة رسمها الفنان عبد القادر والعبرة تسد حلقه ذارفا دموعا تبلل الأذقان فقال: كان رحمه الله شخصية فريدة لن تتكرر أبدا، سجل آلاف الأغاني والمقطوعات الموسيقية لمكتبة الموسيقى السودانية بالإذاعة، كما تبوأ عددا من المناصب باتحاد المهن الموسيقية، فشغل منصب نائب الرئيس لعدد من الدورات، كما ساهم أيضا في صياغة ووضع الألحان لكبار الفنانين مثل عثمان حسين والكاشف ووردي وغيرهم.. ببراعته وحرفيته العالية وحبه للفن والموسيقى نال وسام التلحين في أواخر القرن الماضي، وليأتي مجددا بذات الموهبة التطريبية العالية وبجدارته لينال شهادة (الوايبو) عام 2000، كلمات تأبى أن تخرج لتوصف مسيرته العامرة بالنجاح ومكللة بالخبرة التراكمية التي يتوارثها الأجيال من بعده، هذا جانب ومن جانب آخر يتمتع رحمه الله بإنسانية عالية وإبتسامة لها دلالات وأبعاد كثيرة، فكان بارا بمن حوله وحريصا على صلاته، وفي ختام قوله: حتما فقدنا مدرسة وجيل موسيقى بأكمله، فمحمدية لم يكن عازفا فقط، بل أخا ورفيق درب وعالم من الموسيقي متمرس ومحترف، لأنه نال تعليمه من المدارس الغربية والشرقية الأخرى التي أنتجت مبدعا وهرما مثله.
اليوم التالي
اللهم ارحمه اغفر له
رحم الله محمدية
وبفقدة ضاعت الكمانة……
العمالقة يرحلون..بدون وداع
العمالقة..يذهبون بدون تكريم…
نبكي العمالقة ….
وسوف نظل نبكي….كثبرا…..
ونستمر في النحيب ……..
ألا رحم الله محمدية. ..الي جنات النعيم
لك الرحمة يا ساحر الكمنجة..