خربشة على جدار الوطن

في هذه اللحظة تحديداً تعربد بي الذكرى ، وتثور بداخلي براكين من الذكريات الهادرة ، وتجيش بخاطري أطياف وخيالات رائعة لوطن جميل ، وتهب بداخلي عواصف عاتية دافقة بالشوق والحنين للاهل والاحبة والوطن ، وقتها تذكرت أن الاشجار الصلبة لاتهزها الرياح ، وان البشر الاصيل لاتغيره ولاتبدله المواقف ، وإن الظروف لاتسلب الناس احساسها بالحرية وضرورة الانعتاق ، وان الوطن يظل هو الوطن رغم كل شي (بلادي وان جارت علي عزيزة واهلي وان ضنوا علي كرام) (وللاوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق) (وتخيل كيف يكون الحال لو ماكنت سوداني وأهل الحارة ديل أهلي)
عند هذه اللحظة تحديدا توقف كل شي الاحساس والادراك والعقل العمل والالتزامات ورهق ومعاناة المهاجر ذات الارصفة الباردة والحضارة فاقدة الروح والجوهر ، وقلت في سري لانتهزها سانحة بزيارة خاطفة قصيرة للوطن تعيد للروح بعض اتزانها المفقود وتشفي قليلا من رهق وعناء الغربة ، وماهي الا لحظات قليلة وكنت في وكالة السفر القريبة من منزلي مطلقا العنان لخواطري في هذه اللحظة فقط لكي ترسم لوحة سرمدية لعشق ابدي للوطن ، وحب لامتناهي لاهله الكرام ، ممنيا النفس بوطن قادم بقوة ليعتلي عرش الصدارة وهامات السحب.
وانا مسترسل في خيالاتي وتصوراتي الزاهية بادرني موظف الحجز في تلك الوكالة وهو من أصدقائنا في شمال الوادي ممن يتميزون بخفة الدم والروح (المرة دي على فين يااستاذ طارق ؟)فأنا بالنسبة له عميل معروف لكثرة مااقوم بشرائه من تذاكر سفر منهم سواء لي شخصيا او لابنائي في جولاتهم المكوكية المتكررة خروج وعودة من بلد الدراسة الى بلد الاقامة ، وبتلقائية وعفوية مفرطة كانت الاجابة أريد حجزا الى الخرطوم ، إجابة صدرت تلقائية وبعفوية مفرطة شعرت فيها بأطنان من الراحة النفسية العميقة ، وأخرجتني في السياق ذاته من لفح هجير جحيم غربة قاسية لايطيقها الا الاقوياء المؤمنين بمبادئهم وأهدافهم في الحياة ومثلهم العليا.
في أمسية شتوية قارصة البرد ، ونسيمات شتوية مصحوبة بلسعة برد قارسة ودرجة الحرارة دون ال14 درجة مئوية مصحوبة بسحب رعدية تراكمية كما يقول الخبراء في الارصاد الجوي غادرت منزلي متجها الى مطار الملك فهد الدولي بالدمام وفي الطريق الى المطار تبدى لي مدى حرص أهل هذه البلاد وحبهم للبداوة ومدى فخرهم واعتزازهم بانتمائهم لجزيرة العرب وأنهم قوم يفخرون بالبادية وطقوسها وأعرافها برغم مظاهر الحضارة العظيمة التي وصلوا اليها بعد ثورة النفط
وقد سرني ماشاهدته وتلك الحزم من حطب التدفئة والوقود وعمل شاي الكرك المميز قد سدت جنبات الطريق للمطار في انتظار وصول عشاق التخييم ومرتادي البراري ومااكثرهم بعيدا عن صخب وضوضاء وملوثات المدن حبا في الهواء الطلق وللاستمتاع بالصحراء والقمر ومطالعة النجوم، وجلسات السمر والشواء اللذيد ، والاستمتاع ببرد الشتاء المنعش .
انزلقت بهدوء على مدرج مطار الملك فهد الدولي بالدمام عجلات طائرة الخطوط السعودية في رحلتها رقم 123 المتجهة بمشيئة الله الى عروس العواصم وزينة المدن مقرن النيلين في رحلة تستغرق زهاء الثلاثة ساعات نقطع فيها فيافي بلاد الحرمين الشريفين الشاسعة مرورا بالبحر الاحمر انتهاء بسدرة المنتهي عند ملتقى النيلين الابيض والازرق
بداخل الطائرة اختلطت المشاعر سودانيون وسودانيات وأطفال وشباب عائدون الى جامعاتهم القاسم المشترك بينهم جميعا انهم سعداء في تلك اللحظة وتحدوهم الامال العراض والتطلعات وفي طريقهم الى وطن عزة ومهيرة وطن الاباء والاجداد ومن هنا وهناك تستمع أنا ساكن في الثورة ، وانا من بري ، وانا من كوستي ذاهب في اجازة للزواج، وهناك من استغرق في التأمل راسما صورة مشرقة لحبيب طال انتظاره، ووالدة فاض بها الشوق، ووالد اضناه التعب واشقاه السهر وعاوده الحنين ، وطفل جديد رأى الدنيا وماجدة من حرائر وطني تنتظر العودة الغالية ، وفوق كل ذلك كانت نظرات طاقم الضيافة المتلئة بالاعجاب والتقدير لهذه الكوكبة المتميزة من البشر تكاد تنطق من بين عيونهم .
اقلاع رائع من كابتن الطائرة ومساعده لم يشعر به اي راكب ينم عن خبرة عميقة وتمرس في الطيران ودعاء السفر الله اكبر الله اكبر سبحان الذي سخر لنا هذا وماكنا له مقرنين اللهم ، انا نسالك في سفرنا هذا —–الخ ) دقائق معدودة وقد استقر وضع الطائرة في الاجواء ، وعاد الهرج والمرج والفرح من جديد ، بين براءة الاطفال ، واشواق وأمنيات الكبار ، بعضهم استغرق في النوم بعد عناء يوم حافل بالتعب والارهاق ، واصوات حبيبة من أطفال وطني وكأنهم على موعد مع الاباء والاجداد ، وحركة مستمرة لطاقم الطائرة عرضا لمنتجاتهم الجوية ، كان الجو العام داخل الطائرة وقتها مشوبا بالترقب ودقائق الانتظار والخدر اللذيذ ويوحي ب الثقة والفرح ، لم يعد للمهجر في تلك اللحظة اي ارتباط باي من المسافرين في تلك الرحلة رغم ثقل التركة التي خلفوها وراء ظهرهم ورغم مرارة التجربة التي يحملها كل مسافر –
نقطع الان البحر الاحمر بعد أن تجاوزنا المجال الجوي السعودي ونتوسط البحر العالي السوداني ——- نواصل غدا
[email][email protected][/email]