
كنت مستلقياً عصر ذلك اليوم داخل غرفة النوم شبه الخالية!
تخلّصتُ من معظم أثاث الشقة. أتذكر أنني وهبت بعضاً منه لمنفيين من نواحي كردستان العراق كانوا قد قدموا إلى وينبيك للتو من مكان ما في محافظة كويبيك. رميت بالبعض الآخر داخل صندوق حديدي كبير مخصّص للقمامة والمخلّفات الأخرى إلى يسار مدخل البناية الخلفي. ألقيت بلوحتي فان جوخ ورينوار إلى سلّة القمامة ضمن أشياء أخرى لا تني تذكرني بأماندا. منحت المُشرِف على المبنى الحقَّ في التصرف بتلك الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحبّ أحياناً. كانت لا تزال بحالة جيدة. قلت له بابتسامة مغتصبة وكان رجلاً طيباً من جماعة شهود يهوا: “يا راندي: على هذه الكنبة كان فردوسي وعليها كان جحيمي”. ابتسم راندي. لعله ظنّ وقتها أنني أمزح، أو كنت أدعو الله من عليها في مثل تلك الأوقات التي تغلق فيها أمام المرء كل أبواب الخلاص. الشيطان ماغ وحده يعلم ما دار بذهن راندي لحظتها.
لم يعد لدي الكثير على بعد ثلاث ليال من رحيلي إلى أتوا. علاقتي بالمتاع لا تدوم طويلاً في بلاد الآخرين. على نحو ما وجد ذهني في خضم كل ما أواجهه متسعاً للتفكير في أحوال شكر الأقرع في القاهرة. لم يعد على صلة منذ أشهر. نفسي لم تطاوعني في الذهاب للسؤال عن أسباب توقفه عن التواصل معي عبر غرفة الدردشة في موقع ياهو. “إنني أغرق يا صديقي”. تلك آخر عبارة كتبها لي خلال آخر لقاء جمعنا معاً في غرفة الدردشة. شممت فيها رائحة رسالة، مفادها: “إنني في حاجة ماسة أخرى إلى المال”. الدعابة بدت قارب إنقاذي الرخيص. كتبتُ أرد عليه: “هل تغرق في فنجان”؟
اختفى. لم يعد يظهر تالياً في غرفة الدردشة. دون أن ندري نتفوّه أحياناً بكلمات أشبه في فتكها بقذائف مدفع. وأنا محاط في رقدتي تلك هكذا بالفراغ والذكريات والأسى في غرفة نوم شبه خالية، رنّ جرس الهاتف، فجأة. ترددت للحظة في رفع السماعة. خشيتُ أن تكون هي نفسها على الطرف الآخر من الخطّ. أماندا ماران بون. كانت مكالمة من كنترول شركة أمن الحراسات الخاصّة في مدينة ادمنتون. طُلب مني أن أعمل خلال وردية الليل في مستشفى جامعية تدعى مركز علوم الصحة ناحية شارعي شيربرووك ونتردام. كان عليَّ أن أقوم بتدريب حارس بديل للقيام بمهامتي في ذلك المجمع التجاري الضخم قبل نحو ثلاثة أسابيع. حتى أتفرغ خلال ساعات النهار لمسائل الرحيل ومعالجة آثار غدر أماندا المدمر ذاك بالحركة. ما يصعب تقبله “حتى الآن” أن العاهر دمرتني في لحظة من الأمان التامّ. على أي حال، أخبرتهم في المكتب الرئيس في شارع برادووي برغبتي الملحة تلك في العمل ليلاً في أي موقع إلى أن يحين موعد سفري المرتقب إلى أتوا. كنت خائفاً من الوقوع فريسة سائغة لأشباح “هذا الماضي”. أشباح “لا تزول رغم المحاولة بالخمر أو النوم أو الصلاة”. لم أعد باختصار شديد أحتمل سماع المزيد من أصوات الذكريات الصادرة من غير مكان داخل “هذه الشقة”. كل شبر ظلّ يذكرني بها. كل شيء. مناشف الحمام، الملاءات، موضع رأسها على السرير، رائحة اللافندر العالقة داخل الحمام. بدأت أدرك بصورة غامضة في البدء هول ما دار في القاهرة داخل مها الخاتم من مرارات لا تحتمل لغدري، أو غدر جمال جعفر بها، والأمر سيّان. شجاعة مها الخاتم سعيد، كانت بمثابة الشيء الوحيد الذي ينقصني. لا، الأمر لم يكن كذلك. ذلك أن الشيء الوحيد الذي ظلّ غائباً عن محيط دائرة تفكير مها الخاتم حتى النهاية هو الرغبة في إمعان النظر في ملامح وجه القبح دون إشمئزاز. التأفف يتيح للقبح وقتاً لتبديل صورته. جنبني النظر حتى الآن بثبات وجرأة في جملة تلك التفاصيل الدقيقة لقسمات وجه القبح ولا يزال مسألة السقوط في براثن اليأس، أو الإنتحار.
كانت تشير إلى الحادية عشرة ليلاً وثلاثين دقيقة بالتمام، لحظة أن تجاوزت البوابة الرئيسية للمستشفى، واتجهت إلى مكتب الأمن الداخلي، حيث سيتم توجيهي وتزويدي برقم الوحدة والمهام المناطة بي خلال الوردية. هناك، طُلب مني أن أذهب إلى عنبر الأمراض العصبية والنفسية لمساعدتهم في السيطرة على أحد المرضى “الخطرين”. لكأن المهنة ترغب في وداعي على نحو مختلف. كان تم تدريبي في بداية الخدمة على السيطرة جسدياً على أفراد في حال من الهياج العصابي الحاد. لم أكن متأكداً من مدى قدرتي الجسمانية الخاصّة على تنفيذ مثل تلك الدروس النظرية في فن القتال. زاد من مخاوفي، بينما أقوم بتسجيل نفسي عند ديسك الاستقبال عند مدخل العنبر، أن ممرضة من أصل فلبيني أسرَّت إليَّ مناصحة أنني سأتعامل هذه الليلة مع مريض شديد المراس. قالت: “هو الآن في نوبة من الهدوء العميق الشامل بسبب الجرعة الكثيفة من الدواء”. لعلها تمعن في تعذيبي هذه الفلبينية من وراء لهجتها المناصحة تلك. قالت “الأسبوع الماضي، أصاب هذا المريض الخارج عن حدود السيطرة أحد زملائك الحرّاس بلكمة على فكه الأسفل أسقطته أرضاً”!
بطيئاً، مرت الساعة الأولى من عمر “هذه الوردية” المشحونة تماماً بالقلق. مع ذلك، لم يحدث بعد أي أمر ذي بال هناك.
كانت ممرضة أخرى طلبت مني في البداية أن أجلس على أحد المقاعد وأترقب. بعد منتصف الساعة الثانية من الوردية عنّ لي ومخاوفي هدأت قليلاً أن أخرج من حقيبتي كتاب سلاطين باشا: السيف والنار في السودان، وأبدأ في إعادة قراءة سيرة ذلك الأسير الذي ألقاه حظّه العاثر قبل أكثر من قرن في قبضة التعايشي خليفة الإمام محمد أحمد المهدي: “”كان أخي هنري في الهرسك فقضيت ثمانية أيام في فينا أودع أفراد أسرتي ثم ذهبت إلى تريستا في 21 ديسمبر سنة 1878 وأنا أجهل تماماً أنه سيمضي عليَّ 17 سنة أرى فيها الأهوال والغرائب قبل أن أرى بلادي ثانيا. وكان عمري إذ ذاك 22 سنة”.
مضت ساعة أخرى. الأمن الشامل لا يزال مستتباً تماماً داخل العنبر. تابعت قراءة كتاب سلاطين باشا لكن بتركيز شبه تامّ خلال هذه المرة: “كانت جنود المهدي قد كثر عددها فكان العرض يحتاج إلى ميدان كبير جداً مفتوح من ناحية واحدة يدخل منها المهدي ومعه صحابته. ويقول آخر إنه سمع أصواتاً من السماء تبارك في أنصار المهدي وتعدهم بالنصر. بل بعضهم يقول ويؤكد أنه رأى الملائكة تبسط أجنحتها وتؤلف سحابة تقي الجيش وهج الشمس”. حين وصلت إلى نهاية تلك الفقرة، فكرت: “إنهم يقولون في الخرطوم الآن أن السحابة نفسها تظلل جيش أحفاد هذا المهدي أثناء ما أسموه بعمليات صيف العبور جنوب البلاد”. كان للمهدي وقتها حصان. لديهم الآن دبابة. ما لبث أن حدث أمر غير عادي. أربعة أشخاص ضخام الجتة كما لو أنهم حيطان يقفون قبالة الممرضات وراء ديسك الاستقبال في حال قصوى من التأهب. صدرت جلبة أقدام، تنادت أصوات، كان من بينها صوت قام بتوجيه الأمر لي شخصيّاً بالاستعداد. كنت أجر قدميّ إلى جانبهم متوجساً صوب ذلك القسم الخاص من العنبر. كانت غرفه قليلة متقابلة. في صدر كل باب من أبواب تلك الغرف لاحت كوة زجاجية سميكة تسمح بمراقبة المريض داخل حجرته الخالية من أثاث أو فرش قد تساعد على إنهاء حياته في لحظة تدهور عقلي مباغت. كانت الغرف مضاءة بقوة. “ذلك هو المريض”، همستْ في أذني الممرضة الفلبينية اللعينة نفسها بيقينِ أن السلام بيد “الحرّاس أمثالك”. كان بعضهم يحمل في يده بعض الأدوية والآخر كوباً من الماء. لا ضوضاء تتناهى من داخل الغرفة المغلقة. كدتُ أسقط بغتة من هول الصدمة لحظة أن فُتح الباب ورأيت ما رأيت. كما لو أنه لم يشعر بمقدمنا. كان المريض هادئاً تماماً، وهو يجلس، هكذا، منطوياً على نفسه عند أحد الأركان البعيدة. لم يلتفتْ حتى إلى وجودي بينهم. فقط، أخذ الأدوية. تناولها عن طواعية. وأخلد إلى عالمه الخاصّ. قال أحدهم يخاطب المريض: “أنت ولد طيب يا هذا”. كان يعرب بذلك عن نظافة المهمة. كان المريض يدعى “عمر الخزين”، صديقي!
في حوالي الثامنة صباحاً، حضر الحارس البديل، الذي سيحلّ في مكاني، حتى الرابعة عصراً، حيث موعد بدء وردية المساء.
كان شاباً في نحو الثالثة والعشرين. تمنيتُ له وردية دون مصاعب. هممت بالرحيل لما استبقاني لدقائق. أخذ يتساءل كمن يتأكد من صحة أمر ما تم توضيحه له من قبل بعناية تامّة ودقة، قائلاً: “يقال إنه مريض خطير جداً. لا أكتمك أنني أكره العمل هنا أو في أي موقع آخر مثل هذا الموقع. لكن قل لي هل هذا المريض حقاً على تلك الدرجة من الخطر”؟
كنت على وشك أن أخبره لسبب ما أن المريض المعني كان في مراهقته يضاجع إناث الحمير، لما بدا لي وكأن صوتاً مكتوماً أشبه بصرخة الموت أو الحياة يتناهى من داخل غرفة الأستاذ السابق عمر الخزين، قائلاً هذه المرة بلغة عربية قح:
“هذه كندا”.
“كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلاتان في الميزان”.
“هذه كندا”.
وهذه كندا!
كل ما تبقى لي من تراث أمي الموغل في “البعد والعدم” مجرد عبارة لم أفهم مغزاها إلا مؤخرا “الكلمة أطول من العمر يا ولدي”.
الكلمة الكلمة. الكلمة، يتلفظها الإنسان، يكتبها، ما تلبث أن تستقل بذاتها، بوجودها الخاصّ، كي تحيا في ذاتها ولذاتها وبذاتها، تظل أحياناً تثرثر حتى من بعد مرور قرون على موت صاحبها وفنائه. الكلمة خالق ومخلوق في آن. الكلمة وسيلة وغاية. الكلمة الشاهد الوحيد الذي لا تعلو وجهه التجاعيد. المحيطات تنوء بأعبائها منذ آلاف السنوات، الجبال يرهق كاهلها نشاط البشر المتراكم عبر الحقب الطوال أو القرون. الكلمة وحدها ظلّت تحمل صليبها بلا شكاية، ولا تذمر. لعلي أشعر بشيء من الراحة إذا ما قمت في يوم من الأيام بوضع بعض أحمال هذا المنفى على وعاء الكلمة العتيق. ذلك صوت فرناندو بيسوا: “إذا كان بإمكان ما تركته مكتوباً في كتاب المسافرين، أن يسلي آخرين، مقروءا من جديد أثناء عبورهم، سيكون ذلك أمراً طيباً، إما إذا لم يقدر لهم أن يقرؤوه ولا أن يتسلّوا به فسيكون ذلك طيباً أيضاً”.
بدا الصباح صحواً خارج أسوار المستشفى. بعد أيام قليلة سينتشر نبأ مصاب صديقي عمر وسط مجالس أولئك المنفيين الغرباء المتعطشة لأخبار الكوارث أو السقوط. كنت بالكاد أغالب النعاس داخل الباص. كان وجها ديفيد مور وزوجته دون فيشر يطلان أثناء مغادرتي لبوابة المستشفى من نافذة الذاكرة مثل نغمتين منسيتين من نشيد الأسى، بينما شرعتُ لحظة أن هممت بالصعود إلى الباص في تذكر قصة لكاتب ما لا يحضرني الآن اسمه. قال الابن لقاتل أبيه بعد أن عثر عليه أخيراً “كنا وقتها صغاراً، فارقنا المهد للتو، لهذا لم يخبروننا بما حدث، بيد أننا لم نكفّ نسأل عنه خلال كل تلك السنوات، ليس من العدل أن نعلم في عمر متقدّم أن ما قد كنا نبحث عنه طوال هذه المدة لم يكن له هناك من وجود”.
جميل كالعادة البرنس .
طولنا من مهد الجمال .
روعة