
بات من المرجح , والطبيعى جدا في ذات الوقت , العودة الى نظام الحكم المحلي الذى عرفه السودان بعيد السودنة…حيث كانت للبلديات شخصيتها الإعتبارية وذمتها المالية ووجودها الفعلي بين الناس ,,وهى تمثل التجربة التطبيقية الحقيقية لفلسفة الحكم المحلي أينما وجد والتي تهدف الى تمكين الإدارات المحلية في إدارة شئونها المحلية بنفسها بما يكفل لها حرية إتخاذ القراروالتنفيذ ضمن ضوابط تراعى المصالح القومية العليا بما فيها الأمن القومى ,غير أن هذا الحال لم يستمر طويلا وكانت بداية إنهياره مع العام 1971 بعقد مؤتمر تطوير الحكم المحلي بترتيب و رعاية الدكتور جعفر محمد على بخيت بصدور قانون الحكم الشعبي المحلي … ومن يومها لم تقم للحكم المحلي فى السودان قائمةتلبى طموحات وإحتياجات المواطن السودانى كما فشلت كل محاولات تطوير وإعادة هيكلة الحكم المحلي في السودان لأنها كانت دائما أسيرة الهاجس الأمني ولم تتم برؤية وطنبة مجردة وبعد إستراتيجى قائم على العلم والمعرفة ويعد قانون الحكم المحلي من أكثر القوانين التي تعرضت للتغيير والتعديل منذ فجر الإستقلال .وكذلك إسم الوزارةالتى ترعى شئون الحكم المحلي من وزارة الحكومة المحلية الى وزارة الحكم الشعبى المحلي الى وزارة الحكم الإتحادى وديوان الحكم اللامركزى…كل ذلك ليس من أجل البلديات أو حتى المحليات التي جاءوا بها بل من أجل تمكين القبضة الأمنية وتحلل المركز من الألتزامات المالية نحو الأقاليم .
وتلزمنا (رحلة العودة والهجرة الى البلديات أيضا) رجعة الى تأريخ نشأة البلديات في العالم العربى والإسلامى وكيف إستفاد السودان من تلك التجارب خلال الحقبة الإستعمارية أو ما بعدها الى حين.
فقد كانت بلدية ( سلفيت ) الفلسطينية (في الضفة الغربية) أول من أسس نظام المجلس البلدى عام 1882
وفى العالم اللإسلامى فقد كانت مدينة ( أستانبول ) أول بلدية في الدولة العثمانيةعام 1857 ثم كانت بلدية مدينة ( دير القمر ) في لبنان عام 1862.
وأرتبط بأعمال هذه المدن وغيرها من البلديات أسماء شخصيات عربية ومسلمة. متعددة. فقد منحت مؤسسة
( كوميونتىز إن بلووم ) الكندية (communities in bloom )بلدية انطاليا التركية جائزة أفضل بلدية في العالم
كما نال رئيس بلدية ( كالغاري ) الكندية السيد / ناهيد نانستي المسلم من الإصول الأفريقية ( تنزانيا ) جائزة أفضل رئيس بلدية في العالم … كما تم تكريم السيدة / زهية قارة من الجزائر بإعتبارها أول امرأة
عربية تنتخب رئيسة بلدية في الجزائر …كذلك إحتفلت الجاليات العربية في فرنسا بفوز السيد / رشيد سعيد أول فرنسي سوداني الأصل بفوزه برئاسة بلدية ( فونتينى أون روز ) الفرنسية من الدورة الأولى .
والسيد /رشيد دبلوماسيا في وزارة الخارجية السودانية وفصل من وظيفته في عهد حكومة الإنقاذ
وهاجر بإسرته الى فرنسا…كل ذلك يؤكد أهمية ودور البلديات في عالمنا المعاصر … نقول ذلك وفى الذاكرة أسماء شخصيات وبلديات عظيمة في العالم …مثل بلدية لندن ,,,بلدية نيويورك…بلدية باريس …بلدية إستانبول … ومعها نذكر مدي القوة والإستقلالية والتفرد الذى يحكم مسارها في خدمة مواطنيها.
وفى تقديرنا فإن العودة أو الهجرة الى نظام البلديات السابق لا يعتبر ( ردة )بل هو قفزة وإنطلاقة
حداثية بما يسمى بالأصالة والمعاصرة ..بمعني أن تأخذ بأجمل ما في الماضى من إيجابيات وتضيف عليه من الحاضرالمعاصر بأحدث ما توصل اليه العالم من تحديث وتطوير في المجال المستهدف ..
وبطبيعة الحال لا يعنى ذلك عودة البلديات بتركيبتها القديمة التي تجاوزها الزمن حيث كان يشكل فيها الضابط الإداري حجر الرحي فهو سكرتير المجلس البلدى ومستشاره الإداري والقائم بتنفيذ قراراته وأمين خزينة البلدية ورئيس الخدمة المدنية وأدوار أخري كثيرة تخلقها الوظيفة بحكم أنه يمثل السلطة المركزية وينوب عنها في المنطقة أو البلدية …هذا التداخل المالي والإداري والتنفيذى والإستشاري لم يعد ممكنا في عالمنا المعاصر حيث العولمة والحوكمة والشفافية والمشاركة الشعبية الحقيقية وعالم التكنلوجيا والتخصصات الدقيقة في المجال الواحد ..
هذا الدور الذى كان يقوم به الضابط الإداري لم يعد ممكننا ونحن نلج بوابة الألفية الثالثة والمدن الذكية والإدارة الإستراتيجية …
مدينة وبلدية المعرفة تتطلب فهما جديدا وإدارة حديثة ولاعبين جدد لهم تخصصاتهم وإمكانياتهم ليست الوظيفية فقط بل ومرئياتهم الشاملة نحو قضايا البلدية والعالم من حولها والشخصية القيادية وتقبلها خاصة وظيفة مدير البلدية والمدير التنفيذي للبلدية فهذه وظائف قيادية متميزة يتم الترشيح لها بالإختيار وليس بالتدرج الوظيفى … أما الضابط الإداري الحالي فيستطيع إداء دوره الوظيفى من خلال تخصصه العلمى في الإدارة الداخلية أو المالية أو الموارد البشرية ولكنه قطعا لن يكون مسئولا عن قطاعات التربية والتعليم مثلا ولا الشئون الهندسية ولا الشئون الصحية ولا الإدارة البيئية وغيرها من التخصصات الوظيفية فهذه مجالات لها أيضا من يحسنون إدارتها وفقا لتخصصاتهم العلمية وخططهم وبرامجهم المستقبلية التي يتم تناولها داخل الإطار الذى يجمعهم جميعا وهو البلدية ..
د.فراج الفزارى
هذا المقال الرائع هو في الاساس تبشير بالحكم اللامركزي وهو الافضل للسودان و بغيابه جرت كل المشاكل الراهنة التي نعاني منها