الحاجة الماسّة إلى إميل زولا آخر الزمن المقبل لن يكون إلا عنصرياً؟

واسيني الأعرج

الزمن المقبل لن يكون إلاّ عنصرياً، إذا ما استمر الوضع على الحالة التي نعيشها، وإذا استمرت النظرة للإرهاب البغيض، على صورتها القصيرة التي نعيشها اليوم. نحتاج إلى إميل زولا يخترق مختلف الغشاوات ويقف مع الحقيقة في صفائها حتى ولو دفع ثمنها غالياً. كلنا نعرف عظمة هذا الكاتب القدير الذي غير وجه عالم ظل صامتاً على الظلم. ونعرف أيضا ما قدمته أعماله للإنسانية الباحثة دوماً عن منقذ يخرجها من آلامها ودمها.
ليس مهماً أن تكون بعض أعماله التصقت بالواقع بشدة، على حساب الجهد الفني، كما يلومه منتقدوه، فالأهم من كل هذا، الحياة التي تنبض بقوة في كل أعماله. لقد ناصر، باستماتة، المسحوقين في رواياته ووقف مدافعاً عن حقهم في الحياة. كم يشبهون وضعنا اليوم، ونحن نواجه غطرسة الزمن الظالم. وربما تعتبر روايته «جيرمينال»، واحدة من أهم الروايات التي وضعت الإنسان في أعلى مراتب الدفاع. الإنسان كقيمة أولاً وأخيراً. عندما دافع عن عمال المناجم في الشمال الفرنسي، وبين الظلم والفقر والاغتصاب وجريمة المالك، كان يدافع عن قيمة الحق بمعناها الشمولي، الذي يجب أن يستمتع به الجميع وليس عينة قليلة.
أما عظمة إميل زولا فقد تجلت بشكل واضح في رسالته التي وجهها إلى رئيس الجمهورية الفرنسية بعنوان: «إني أتهم» التي دافع فيها باستماتة عن دريفوس المتهم بالخيانة العظمى، أو ما سمي وقتها بقضية دريفوس التي يمكن تلخيصها في أسطر قليلة. بعد هزيمة الجيش الفرنسي أمام الجيش الألماني كان لا بد من إيجاد كبش فداء. في ظل معاداة السامية التي كانت تحتاج فرنسا في القرن التاسع عشر، والتي مست كتاباً كباراً مثل بول فاليري ومارسيل بروست وغرهما، لم يجد جنرالات الجيش الفرنسي أفضل من متهم يهودي هو الضابط دريفوس، من خلال ما سمي بقضية البردورو le bordereau أو القصاصة التي وجدت في السفارة الألمانية وفيها ما يدل على تورط وخيانة دريفوس، على الرغم من أن التحريات أثبتت لاحقاً أنّ الخطّ ليس له. مما اضطر إميل زولا إلى التدخل لدى رئيس الجمهورية برسالة «إني أتهم» j?accuse للدفاع عن الحق، على الرغم من الشتائم والتهديدات التي تعرض لها، مما دفع بالمؤسسة القضائية التي طعن فيها، إلى الحكم عليه بالسجن، فهرب زولا إلى لندن بعد أن كان قد فجر قضية دريفوس وأصبحت تحتل واجهة الصحف المناصرة له والمعادية أيضاً. وتنتهي القصة بتبرئة دريفوس من تهمة ظالمة في ظل مناخ معادٍ للسامية.
ها هي اليوم معاداة السامية تعود من جديد، لكن ضحيتها هذه المرة المسلم، والعربي وليس اليهودي. صحيح أن هناك وضعاً دعم هذا المناخ، مرتبطاً بالعمليات الإرهابية التي مست أبرياء كثيرين في فرنسا من شارلي هبدو، إلى جادة الإنجليز في نيس، مروراً بمسرح البتاكلون وباريس عموماً. لكن هؤلاء الإرهابيين فرنسيون بامتياز. لم يأتوا من فراغ. هم ثمرة تكوين غير متوازن تجب إعادة النظر فيه، بدل اتهام دين او قومية أو مجموعة بشرية بكاملها. فهم يشكلون نسبة مئوية محدودة بالنظر إلى الغالبية الساحقة التي تعيش دينها ومواطنتها الفرنسية، بسلام، كانت هي أيضاً من بين ضحايا الإرهاب الذي مسّ فرنسا. للأسف، منذ الرئيس ساركوزي الذي حرّر الغول العنصري من قمقمه، وفي ظل اتساع رقعة الخطاب اليميني المتطرف، انتقل الموضوع إلى العداوة ليس ضد الإرهابي، ولكن ضد المسلم وضد العربي. في ظل صمت أو تواطؤ الكثير من النخب الفرنسية. عندما نقرأ نهايات القرن التاسع عشر نجد المناخ نفسه الذي كان يحمّل اليهود كل أمراض العصر. بدأت معاداة السامية باتهامات مرت عادية، حاقدة على اليهود بتحميلهم أزمات العصر، قبل أن تتبناها الصحافة وتحولها إلى مؤسسة معادية وظيفتها إذلال اليهودي. قبل أن تتحول المعاداة إلى مؤسسة قائمة بذاتها.
في ظل ذلك الغليان خرج الروائي إميل زولا من المجموعة وقال ما كان يجب عليه قوله بوصفه كاتباً حياً وعظيماً وصوتاً جامعاً. كم نحتاج إليه اليوم، برؤية واضحة أكثر، ويجبر الرئاسة والحكومة تحديداً على الخروج من فكرة ربط إخفاقاتها بالمسلم لدرجة ان ذهبت نحو مساحات لا تخفي عنصريتها: تجريد المواطنين الفرنسيين من حملة الجنسية المزدوجة، من جنسيتهم الفرنسية في حالة ثبوت تورطهم بالإرهاب.
فقضية البرقع التي كان يمكن أن تحل بقانون صارم وبلا ضجيج ما دام ذلك يعرض الأمن للمخاطر. التجريد من الجنسية رفضها البرلمان، وحسناً فعل. ونزل الأمر إلى الحضيض عندما تورطت الحكومة في قبول قرارات غير قانونية في مجتمع جمهوري، أصدرتها البلديات ضد اللواتي يرتدين «البوركيني» على السواحل. طبعاً مجلس الدولة رفض أيضاً هذه القوانين لأنها مضادة لحرية الأفراد.
في فرنسا تياران يتقاتلان. تيار بائس ومنهزم وفيه من اليمين واليسار، وتيار حي ما يزال مرتبطاً بالتقاليد الفرنسية بثالوثها المقدس من الحرية، المساواة، والأخوة. لكنه للأسف بدأ يتآكل أمام ضربات الإرهاب والتيارات المتطرفة. الإرهاب يجب أن يحارَب بلا هوادة. تحتاج فرنسا اليوم إلى تكتل جمهوري واسع يمكن المواطنين الفرنسيين بمن فيهم المسلمون، من أن يكونوا فاعلين فيه بدل تجريمهم وهم كثيراً ما كانوا ضحاياه.
طريق فرنسا اليوم خطير أولاً لأن الدولة ضعيفة ونسيت الأولويات، ولأن الإرهاب مهد الأرضية للعنصرية التي أصبحت شديدة الوضوح وابتذلت في فترة ساركوزي حتى أصبحت لا حدث، بالخصوص عندما نعرف أن بعض وزرائه جاهروا بعنصريتهم في وقت تمنع فيه قوانين الجمهورية ذلك بل تعاقب عليه. زولا اليوم يجب أن يكون صوته مسموعاً وواضحاً وأن يكون قريباً من جوهر الأشياء ويخاف على فرنسا من السقوط في مدارات هي في غنى عنها، المواطنة مكسب حضاري يتساوى فيه الجميع أمام القانون. من أجرم يعاقَب بلا هوادة وفق إملاءات القانون. الديانات في المجتمع العلماني تهم الأشخاص بالدرجة الأولى ويبقى المجتمع للجميع. حذار. علامات الكارثة العنصرية ترتسم في الأفق، إذا لم ينطق زولا المتخفي بين ملايين المدافعين عن حق الإنسان، فالزمن المقبل لن يكون إلا عنصرياً.

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..