
البَحْثُ عَنْ زُغْبيرْ!
الإثنين
في 27 سبتمبر 2014م نشرت مقالة بعنوان: «الهُروبُ إلى الأَمام مِن .. حَلايب»! وفي ما يلي أستعيد نصَّها، بتصرُّف، قبل أن أضيف في ذيلها ما يقتضيه التَّحديث:
[أوجز الفاروق (رض) مفهوم «السُّلطة السِّياسيَّة» في الإسلام، بقوله: «ولاَّنا اللهعلى الأمـَّة لنسـدَّ لهم جوعتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم»،لكن حسبو، نائب رئيس الجُّمهوريَّة، صدم المسلمين بمفارقته لمداركهم الدِّينيَّة، حينصعد المنبر، لا ليعترف بأنهم حقَّ عليهم «اعتزال» الأمَّة بعد أن «أعجزهم» سـدُّجوعتها، وتوفير حرفتها، لكن ليقول بالفم الملآن: «ما جئنا لنطعم الناس،ونسقيهم، ونوفر لهم الكهرباء، والزلط، وإنما لنرسِّخ المعاني التي نؤمن بها .. فنظامنا صمد لأنه ربط قيم السَّماء بالأرض!» (المجهر ـ ألوان؛ 13 سبتمبر2014م). ولئن كان النِّظام يهرب، هكذا، إلى الأمام من القضايا «الاجتماعيَّة»،فليس لأحد أن يستغرب هروبه للإمام من القضايا «الوطنيَّة»، وأبرزها «مثلثحلايب» الذي عاد إلى الواجهة، بمناسبة انتخابات 2015م.
الانتخابات وحدها، إذن، هي التي يتذكَّر النِّظام، في موسمها، مثلث “حلايب ـشلاتين ـ أبو رماد“، على حدودنا الشَّماليَّة الشَّرقيَّة مع البحر الأحمر، والذي تبلغمساحته 20,580 كيلو متر مربَّع، ويقطنه 200.000 نسمة من البشاريِّينوالعبابدة السُّودانيِّين، وظلَّ، إلى أواسط التِّسعينات، يرفرف عليه علم السُّودان،ويُتعامل فيه بالعملة السُّودانيَّة، ويحرسه الجَّيش السُّوداني، ويمثل دائرة انتخابيَّةسودانيَّة تبعث بنائبها إلى برلمانات السُّودان المتعاقبة، قبل أن تضع «الشَّقيقة» يدها عليه، وتحتله، وتجلي عنه القوَّة السُّودانيَّة عام 1992م، ثمَّ تضمُّه إليها، نهائيَّاً،عام 1995م، جزاء تورُّط إسلامويِّي الخرطوم في محاولة اغتيال حسني مبارك!
وهكذا، ما أن يحلَّ موسم الانتخابات، حتَّى يفيق «نيام أميَّة»، يمضمضونشفاههم بكلمتين ظاهرهما الحدب على أرض الوطن، وباطنهما الهروب من مسؤوليَّتهم التَّاريخيَّة عن استعادتها! ثمَّ ما أن ينقضي الموسـم، وتُلملَم زكائبالقصاصات، وورق الدِّعاية، والصَّناديق «المخجوجة»، حتى يديروا ظهورهم للقضيَّةبرمتها، وتعود ريمة لعادتها القديمة!
قبل ذلك اعترضت مصر على شمول انتخابات 2010م السُّودانيَّة للمثلث، باعتبار تبعيَّته لـ «السَّيادة المصريَّة» .. كذا (!) فما كان من الحكومة السُّودانيَّة إلا أن رضخت، وقرَّرت استتباعه لدائرة «أوسيف»، بدلاً من أن يظلَّ دائرة منفردة! لكنعندما طعن مؤتمر البجا في ذلك الإجراء، اكتفت مفوَّضيَّة الانتخابات بإعلان عودةالمثلث كدائرة مفردة، تاركة التَّنفيذ للحكومة! غير أن مصرعادت لإقامة الدُّنيا،رافضة إجراء أيِّ انتخابات سودانيَّة في المثلث، لا ملحقاً بأوسيف، ولا كدائرةمفردة، فتراجعت الحكومة، ولزمت الصَّمت! ثمَّ عقد موسى محمد احمد، رئيسمؤتمر البجا وجبهة الشَّرق، ومساعد رئيس الجُّمهوريَّة، مؤتمراً صحفيَّاً، في الذِّكرىالثَّالثة لإبرام «اتفاق الشَّرق بأسمرا ـ 2006م»، وجدَّد مطالبتهم بإحالة ملفحلايب إلى التَّحكيم الدَّولي بلاهاي، معلناً نيَّته تناول القضيَّة مع الحكومة المصريَّةلدى زيارة كان يعتزمها للقاهرة مطلع نوفمبر 2009م. لكن السُّلطات السُّودانيَّة سارعت إلى منعه من السَّفر، بتاتاً، لا بصفته الرَّسميَّة، ولا الحزبيَّة، ولا الجِّهويَّة، ولاحتى للعلاج!
الشَّاهد أن إعلان المفوَّضيَّة عودة المثلث دائرة منفردة في انتخابات 2010م كانالمهماز الذي أيقظ «أمَيَّة» من سُباتهم، فانطلقوا، كالعادة، يهربون إلى الأمام! أعلن أمين حسن عمر، كمن يدفع في اللاوعي اتِّهاماً عن نفسه: «حلايب سودانيَّةدون نقاش»! لكنه انقلب، مع ذلك، يتلجلج بأن «هذا من اختصاص المفوَّضيَّة، لاالحكومة!» (سودانايل عن “الشروق” القاهريَّة، 15 أكتوبر 2009م)؛ فانظر كيفتستحيل «السَّيادة» إلى مسألة «فنيَّة» ُتحمَّل للمفوَّضيَّة المسكينة! أمَّا إبراهيمغندور فقد «دعا» مصر لـ «تمكين» مواطني المثلث من «المشاركة فيالانتخابات!» (المصدر نفسه)؛ فلكأنَّ «تمكين» المواطنين من وطنهم المغتصب مِمَّايكون بمحض «مناشدة» الغاصب! وأمَّا مصطفى عثمان فقد أبدع في الهروب،بقوله: «لا نريد أن تكون حلايب (قضيَّة خلافيَّةّ!) مع مصر!» (سودانايل ـ نقلاً عن“الشـروق” القاهريَّة، 16 أكتوبر 2009م)؛ وأعجـب لحاكم «لا يريد أن يكون«احتلال!» بلده «محلَّ خلاف!» مع «المحتل»!
على أن القاهرة واصلت تشديدها، بأقوى نبرة، على أن قضيَّة حلايب «محسومةنهائيَّاً!» كونها «أرضاً مصريَّة!» (المصري اليوم، 17 يوليو 2010م). وبالنَّتيجةانعقدت انتخابات 2010م بدون حلايب! ولم يستشعر كمال حسن علي، سفيرالسُّودان بالقاهرة، ذرَّة حياء، وحلايب بين مخالب الجَّيش المصري، ليحجم عن إعلان سعي حكومته «لجعلها منطقة تكامل بين الشَّعبين!» (شبكة الشُّروق؛ 25 مايو 2013م).
وكنوع من الهروب المفضوح إلى الأمام، والذي غالباً ما يتَّخذ شكل “الحنجوري“، لم تجد السَّفارة بالقاهرة ما تعلق به على اعتزام مصر تفويج وفد شعبي مصري إلى حلايب لعقد مؤتمر هناك، سوى أن علاقات البلدين «مبنيَّة على التَّعاون!» (حريَّات؛ 22 يناير 2014م). أمَّا السَّفير محيي الدِّين سالم، فقد قال إن مشكلة حلايب موجودة منذ «القِدَم!»، لكنها لم توقف علاقة البلدين، حيث أن قيادتهما واعـية بمصـالح الشـَّعبين!» (إس إم سي، 1 سبتمبر 2014م). وبينما كانت الخارجيَّةالمصريَّة تجدِّد إعلانها الصَّارم بأن المثلث جزء مـن مصـر، ولا تفاوض حوله معالسُّودان (أخبار الواقع؛ 9 سبتمبر 2014م)، لم يفُت الإعلام المصري أن يتخذ مكانه في مقدِّمة ركب ذلك العداء، فاتَّهمت صحيفة «الوفد» الخرطوم بـ «استفزاز!» القاهرة «بإثارتها قضيَّة حلايب!» (9 سبتمبر 2014م)، ونعى عمرو أديب على الرَّئيس المعزول مرسي، أنه هو الذي «أعطى حلايب للسُّودان (!) لأنه غير وطني، وإرهابي، وجاسوس!» (شبكة محيط، 9 سبتمبر 2014م). وفي سياق نفس الحنجوري أكَّد بعض أعضاء المجلس التَّشريعي لولاية البحر الأحمر «استحالة!» التَّنازل عن أيِّ شبر من حلايب! كما أعلنت لجنة الانتخابات بالولاية اكتمال ترسيم «حلايب» كدائرة معتمدة منذ العام 1953م (سودانايل ـ الشروق؛ 10 سبتمبر 2014م). وفي الأثناء لم يجد مالك حسين، رئيس لجنة الدِّفاع ببرلمانالسُّودان، ما يعلق به على تعيين القاهرة رئيساً لـ «محليَّة» حلايب، سوى أن«الحكومة ستتَّخذ حيال ذلك ما يلزم من إجراءات!» (سودان تريبيون، 22 سبتمبر2014م).
هكذا ضاع وقت طويل في الجُّبن، والخَوَر، والانكسار، والتَّعامي، و«الحنجوري»، والهُروب إلى الأمام، حتَّى ربَّما نحتاج، غداً، لما لم نكن لنحتاجه، بالأمس، من جهدووقت لإثبات أن «حلايب» سودانيَّة، أو أنها كانت تمثِّل، بالفعل، دائرة مفردة فيالانتخابات الأولى، في نوفمبر 1953م، وكان اسمها، آنذاك، «الدَّائرة/70 ـ الأمرأروالبشاريِّين»، وفاز بها محمد كرار كجر؛ أو في الانتخابات الثَّانية، في فبراير ـمارس 1958م، عندما تغيَّر اسمها إلى “الدَّائرة/97 ـ البشاريِّين“، وفاز بها حامدكرار، دَع الوقائع المتراكمة منذ ما بعد اتفاقيَّة الحكم الثُّنائي للسُّودان بين بريطانياومصر في 1899م. غير أننا ينبغي ألا نغفل عن أمرين أساسيَّين: أولهما أنالمطلوب هو فعلٌ ملموس يعيد حلايب إلى حضن الوطن، فتطاوُلُ الأمد يكرِّس الأمرالواقع؛ وثانيهما أن التَّاريخ لن يكتفي بمساءلة الحزب الحاكم، والأحزاب المتواليةمعه، وحدهم، بل وكلِّ أحزاب المعارضة، ومؤسَّسات المجتمع المدني، والعمال، والمزارعين، والمثقَّفين الوطنيِّين الدِّيموقراطيِّين كافَّة.
ونعيد التَّذكير، هنا، بالمقترحات التي طرحها سلمان محمَّد احمد، وهي إحياءفريق عمل كان تشكَّل في منتصف التِّسعينات، ودعمِه بشباب مدرَّب على المناهجالحديثة، كي يحضِّر ملفَّاً متكاملاً للقضيَّة بغرض الحفاظ على الذَّاكرة العلميَّةوالوثائقيَّة، مع الحرص على إبقاء شكوى السُّودان التي رفعها منذ 20 فبراير1958م حيَّة أمام مجلس الأمن الدَّولي، وعدم اليأس من اجتذاب مصر إلى طاولةالتَّفاوض التي كانت اقترحتها بنفسها في21 فبراير 1958م (الرَّاكوبة؛ 3 فبراير2014م).
مهما يكن من أمر فإن هذه القضيَّة لن تُحلَّ بغير الدِّبلوماسيَّة، أو التَّحكيم والعدالةالدَّوليَّة، وكلاهما لا يمكن تأسيسه إلا على قاعدة صلبة من الحقائق، والوثائق،والمعرفة العلميَّة، والإرادة السِّياسيَّة، سائلين الله ألا يضطرَّنا للطريق الثَّالث .. العسكري!]
إنتهت مقالة 2014م. وبالطبع لم يكن لنا أن نتوقَّع، وقتها، من النِّظام البائد، غيرالمزيد من الجُّبن، والخوَر، والمواقف المخجلة. لكن حكومة الثَّورة، الآن، قمينة بعكسذلك تماماً، رغم المصاعب، والعوائق، وأرتال المشكلات؛ فالقضيَّة «الوطنيَّة» لا تقلُّأهمِّيَّة عن القضيَّة «الاجتماعيَّة»، فلا تحتمل التَّأجيل، خاصَّة وأن الشَّبكةالعنكبوتيَّة حملت، مؤخَّراً، خبراً غاية في الخطورة، فحواه أن الحكومة المصريَّةاكتشفت كميَّة من الذَّهب لا تقلُّ عن ثلاثين طنَّاً، بنسبة استخلاص تبلغ 95%،بمنطقة «جبل إيقات» في مربع شلاتين، وأعلنت أنها ستشرع في ضخِّالاستثمارات لاستخراجها!
الأرض ستعود، حتماً، إنْ بالدِّبلوماسيَّة، أو القانون الدَّولي، أو القوَّة المادِّيَّة، لكنالثَّروة الوطنيَّة، إذا ضاعت، فستصعب استعادتها، حتَّى لو كان وزنها جراماًواحداً، هذا إنْ لم تصبح هذه الاستعادة، بمضيِّ الوقت، مستحيلة تماماً! لذا ينبغي على حكومة الثَّورة التَّحرُّك بأسرع ما يمكن لمنع هذا الضياع. ولنكن واثقين من أن العالم، جله، كما ثبت في مؤتمر الشُّركاء، على أهبة الاستعداد لمناصرتنا كأصحاب حقٍّ لا جدال فيه. أما الملايين التي ثقبت عين الشَّيطان في الثَّلاثين من يونيوالمنصرم، فستقف بصلابة، دون أدنى شكٍّ، خلف حمدوك ووزارته، داعمة بالكثير،والكثير جدَّاً من كلِّ مرتخصٍ وغالٍ، مِمَّا لا يمكن أن يخطر على ذهنيَّة الفتوَّات،والبلطجيَّة، وقطَّاع الطرُق!
الثُلاثَاء
ساءني كثيراً أن الحدائق المنبسطة شمال هيلتون الخرطوم، والتي كان اسمها، سابقاً، «حدائق مايو»، قبل أن تطلق عليها الجَّماهير المنتصرة في انتفاضة 1985م اسم «حدائق 6أبريل»، تسلط عليها معتمد الخرطوم في النِّظام البائد، اللواء أبو شنب، فمنح حقَّ استثمارها لرأسمالي إسلاموي تركي إسمه «بوماني»، ومنحه، فوق الاستثمار، حقَّ إطلاق اسمه على المكان ليصبح، حاليَّاً، «حدائق بوماني» .. فتأمَّل!
الأربعاء
في كتابه «الحزب الشِّيوعي السُّوداني: نحروه أم انتحر»، والصَّادر في عقابيل مجزرة يوليو 1971م، أوان لم يكن أحد ليصدِّق أن الحزب سيعود بعدها يخوض نضاله عبر مسالك الحياة السِّياسيَّة في البلاد، تحدَّث فؤاد مطر بتقدير عالٍ عمَّن أسماهم «الماركسيِّين بالموهبة» داخل الحزب، وأبدى، بوجه مخصوص، انبهاراً شديداً بالكوادر الميدانيَّة التي لم يتمكَّن الحزب من محو أميَّتها، وإن عمل على تأهيلها بمستوى مدهش من التَّعليم الماركسي، سماعياً وبالممارسة! من بين هؤلاء أفرد مطر مساحة خاصَّة للحديث، بإعجاب منقطع النَّظير، عن سليمان، كادر الحزب بالموهبة الذي التقى به على ضفَّة نهر الجُّور بمدينة واو، عاصمة مديريَّة بحر الغزال في جنوب السُّودان، وقتها، حيث فوجئ بإنسان غاية في البساطة، ومع ذلك يجيد طرح آرائه العميقة بمنطق الماركسي المتمكِّن من ماركسيَّته! وكم كانت دهشة فؤاد عظيمة، لمَّا أزف موعد مغادرته، فعرض على سليمان أن يبقيا على اتِّصال بالمراسلة، فإذا بالذي كان لسانه منطلقاً، قبل قليل، كأفضل ما يكون المثقَّف، يفاجئه بما لم يخطر، قط، على باله، قائلاً إنه لا يستطيع مراسلته، للأسف، لأنه .. أمِّي! وعلق مطر على ذلك بأن الشِّيوعيِّين المؤسِّسين لم يتمكَّنوا من تعليم سليمان القراءة والكتابة، وإنْ علموه النَّظريَّة! وضاهى الكاتب، في السِّياق، بين تجربة الشِّيوعيِّين السُّودانيِّبن، وبين تجربة فيدل كاسترو الذي استطاع القضاء على الأمِّيَّة في كوبا خلال خمس سنوات! لكن الكاتب سرعان ما استدرك بما يعني أن كاسترو حين أنجز ذلك كان في قمَّة السُّلطة، بينما لا يزال الشِّيوعيُّون السُّودانيُّون يصارعون أقسى الظروف وهم بعيدين عن السُّلطة بمراحل!
ذكَّرني هذا الجَّانب من حديث مطر بحكاية النِّسوة اللائي سمعن، على أيَّام يوليو 1971م، في بلدة سودانيَّة على ضفاف النِّيل، بأن البوليس قد ألقى القبض على شيوعيِّين مختفين، فهرولن لرؤية تلك المخلوقات الأسطوريَّة، لكنهنَّ، عندما عدن، وسُئلن عمَّا رأين، عبَّرن عن خيبة أملهنَّ بقولهنَّ: «هَيْ بِسْ .. وحات الله سواق البنطون ذاتو معاهم»!
الخميس
أضحى خيار الحكم اللامركزي، منذ زمن بعيد، أحد مسائلنا الدُّستوريَّة المحسومة تقريباً، فلم يعُد ثمَّة من يجادل الآن، بجدِّيَّة، في مزاياه كأنسب ما يناسب بلادنا. وكنَّا اعتمدنا هذا النِّظام، أواخر 2004م، في «مؤتمر الخبراء الدُّستوريِّين» الذي انعقد بالعاصمة اليوغنديَّة، تحت إشراف «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان»، بالاشتراك مع منظمة «أفريقيا العدالة Africa Justice»، وأنتج ما ظلَّ يُعرف، منذ ذلك الحين، بـ «إعلان كمبالا». ولعلَّ أحدث توافق على هذا النِّظام هو ما تمَّ، مؤخَّراً، خلال مفاوضات السَّلام الجَّارية، على علاتها، حيث أقرَّت جميع الأطراف مبدأ العمل بنظام الحكم الإقليمي الفيدرالي.
وحول مزايا هذا النِّظام قطعت دراسة أوربِّيَّة حديثة بأن البلدان القائمة علىاللامركزيَّة، وتتمتَّع أقاليمها بصلاحيَّات أكبر، خصوصاً على صعيد الضَّرائب،والتَّشريع، والسِّياسة التَّعليميَّة، يكون أداؤها الاقتصادي أفضل بكثير من تلكالقائمة على المركزيَّة. الدِّراسة تمَّت تحت رعاية مركز «باك» للبحوث بسويسرا، بمشاركة شبكة الأقاليم الأوربِّيَّة، واستندت إلى قياسات مردود اللامركزيَّة على الاقتصاد، كما وعلى مستويات التَّعليم والاختراعات في 26 بلداً، بما فيها بلدان خارج عضويَّة الاتِّحاد الأوربِّي، وذلك من خلال مقاربة مجموعتين من الدُّول،مركزيَّة ولامركزيَّة، مع مراعاة عوامل شتَّى، منها، على سبيل المثال، ما إنْ كان تعيينالموظفين العموميين يتمُّ على أسس اتِّحاديَّة أم إقليميَّة، وما إنّْ كانت السِّياسةالتَّعليميَّة تُوضع في العواصم أم في الأقاليم، وما إن كانت الضَّرائب تحدَّد علىنطاق الدَّولة، فقط، أم على المستويات المحليَّة أيضاً. وبالنَّتيجة لاحظت الدِّراسة أنلللامركزيَّة مردوداً إيجابيَّاً على كلٍّ من نصيب الفرد في النَّاتج المحلي الإجمالي،وفي النُّموِّ الاقتصادي. ولاحظت، كذلك، أنه، حتَّى الدُّول التي ظلت تتمتَّع، خلالالسَّنوات العشر الأخيرة، بمستويات عالية من النُّمو، رغم أنها مركزيَّة، كانبمستطاعها تحقيق تقدُّم أكثر في ما لو كانت لأقاليمها وسلطاتها المحليَّة صلاحيَّاتأكبر. كما لاحظت الدِّراسة أن الجَّامعات، في البلدان اللامركزيَّة، تمتاز بمستويات أعلى، كلما كان لدى الأقاليم التي تنتمي إليها صلاحيَّات أوسع للتَّقرير بشأن السِّياسة التَّعليميَّة، خصوصاً في مجال العلوم التَّطبيقيَّة. وأبرزت الدِّراسة، بوجه عام، ميزة تركيز السَّاسة الإقليميِّين على معالجة القضايا المحليَّة، أكثر من صانعي القرارات الاتِّحاديَّة. وعلى هذا الصَّعيد ساق عدد من المتحدِّثين، خلال الاحتفال بتدشين الدِّراسة، بعض النَّماذج، كافتتاح خط القطار السَّريع، مثلاً، بين باريس وستراسبورج، تتويجاً لجهود السُّلطات المحليَّة في إقليم الألزاس.
ومع أن نتائج الدِّراسة لم تكن غير متوقَّعة لدعاة الفيدراليَّة، وللاقتصاديِّين الذين بحَّت حناجرهم من تكرار التَّأكيد على أن تفويض الصَّلاحيَّات من المركز إلى السُّلطات الإقليميَّة والمحليَّة يرتقي بكفاءة الأداء الاقتصادي للدَّولة، فإنه لم يفت الأكاديميِّين السّويسريِّين، بالذَّات، التَّذكير بأنهم كانوا أوَّل من أثبت ذلك علميَّاً.
أهميَّة اللامركزيَّة لتحقيق التَّنمية، والازدهار الاقتصادي، قضيَّة يجدر أن نوليها، في السُّودان، الاعتبار اللازم، خلال المؤتمر الدُّستوري المنتظر.
الجُّمعة
يبدو أن شعار «المصالحة» المجرَّدة من أيِّ مستلزمات، أو قيود، أو شروط، ما زال يستهوي البعض؛ يغطس، حيناً، ويطفو، أحياناً، من بين الأمواج المتلاطمة للأحداث الثَّوريَّة في الشَّارع، ولو بمحض التَّفكير الرَّغائبي، المعبَّر عنه بأشكال مختلفة تراوح بين الخفوت والخفوت!