حكومة ملح وشطة

بسم الله الرحمن الرحيم

حكومة ملح وشطة

محمد عبد المجيد أمين ( عمر براق)
[email protected]

لم يعد بالإمكان غض الطرف أو مواربة الوقائع واستبدالها بتحليلات سياسية تطعن في ظل الفيل- كما يقولون – ولا تطعن في الفيل نفسه ، فالكل يعلم علم اليقين أن هذا النظام ، منذ استيلاءه علي السلطة بدل توجهاته أكثر من مرة ، حتى انتهت فيما انتهت، إلي توجه عنصري بحت قائم علي أساس حكم قبلي مزدوج ، مغلف بشعارات لا تنطلي حتى علي العامة من الناس وأصبح ينظر ويتعامل مع هذا البلد المنهك بأعين قبلية سلطوية ، واحدة جعلية ، والأخرى شايقية. ليس ذلك فحسب، فالأمور تنذر بالخطر وتتوالي المشاكل وتزداد يوما بعد يوما والفساد يحيطنا من كل جانب وليس هناك من بارقة أمل نحو الانفراج والتوجه نحو الإصلاح الشامل وكأن هذا البلد ينجر جرا نحو هاوية سحيقة ونحن نتفرج عليها من داخل العربة ولا نستطيع كبح جماح “الحصين” التي تقودها.
سنتجاوز عن ثورة الإنقاذ ومآلها وما انبثق عنها لاحقا بما يعرف بحزب المؤتمر الوطني وسنقفز مباشرة الي القيادة السياسية لهذا الحزب والتي تكونت أساسا من نفر من قبليتي الجعليين والشايقية وبدون ذكر اسماء ، نراها موزعة كالآتي : الجعليين 12 عضوا ، الشوايقة 11عضوا. أما باقي التشكيلة نجد أنها مجرد أعداد رمزية لا تذكر ولا تشكل أي ثقل سياسي داخل القيادة ولا تؤثر علي قراراتها ( دناقلة2،دارفور2،كردفان1،الجنوب2) والواضح أنها أضيفت فقط لإضفاء صفة التنوع ” الوطني” عليها . أما الأذرع التنفيذية المساعدة الأخرى فتراها موزعة أيضا وبكثافة ملحوظة بين هاتين القبليتين ، تحديدا في الجيش والأمن والشرطة وجهاز الدولة والخدمة المدنية وحتى السوق.
يمكن أن يقال ودون أي مواربة أن السودان واقع تحت سيطرة الحكم القبلي وأنه ليس هناك دستور أو قانون أو حتى ما يحتكم إليه ، لأن كل ذلك مختزل في عرف القبيلة ومتجاوز عنه ، بل ومحصن بدفاعات قبلية تتغاضي عن الحقائق وحتى الجرائم وأن الأمور تسير فعلا وفقا للأهواء والمصالح الخاصة وإذا كان هناك ثمة احتكاك ، ظاهر أو خفي، فانه تتم معالجته ، كما رأينا في الفترة الأخيرة ، إما بالمواربة ( السترة)أو بالمجاهرة علنا (الاقالة).
بالرغم من وجود صلة قربي مدعاة بين هاتين القبيلتين( أبناء عمومة) إلا أن الأحداث التاريخية في القرون الماضية بينت أنه كانت هناك حروبا تشن بينهما بين الفينة والأخرى علي السلطة والثروة . وبالرغم من أن أجداد هؤلاء لم ينادوا في زمنهم بقيام دولة عربية إسلامية، ربما لعلمهم التام بمدي حجم التنوع العرقي والقبلي الغير قابل للسيطرة، إلا أنهم أكتفوا بعقد تحالفات مع القبائل المحلية الأخرى لأسباب مصلحية وليس باسم العروبة.
حاشا لله ، أن نتعرض هنا الي قبليتي الجعليين والشايقية بعمومهما ، فهما من أفضل القبائل السودانية شرفا وعزة ومنعة ومنهما وطنيون أكفاء خلص ،قائمين علي الحق ما بقوا ، يحيطون بما هو جار ، وربما يستهجنونه أكثر منا ، لأن التعدي علي الحرمات ، جهارا نهار ، تحت اسم القبيلة ، عار ليس من شيمهم بقدر ما هو حالة “شاذة” عن القاعدة . كل ما في الأمر أننا نرصد وقائع ومواقف معروفة لدرجة تستوجب النظر ، أتت بها تواتر الأحداث السياسية السالبة في البلاد . وبطريقة ما ، وجدنا هذين التكتلين في مقدمة العربة في شكل ” نفر” من هاتين القبيلتين لدرجة أنه لم يقاطعهما أو ينافسهما داخل الحكم أي تكتل قبلي آخر وبذلك أرسيا دعائم أول حكومة قبلية في تاريخ السودان المعاصر .
في المقابل ، ظهرت تكتلات قبلية أخري مناوئة لهذا التغول والاستئثار والفساد ، نراها بوضوح في شكل معارضة قبلية مسلحة ، سواء في الشرق أو في الغرب. أما التكتل الجنوبي فقد كانت مشكلته الأساس عرقية أيضا ، وجدها عصية الحل ، خاصة في ظل هذا النظام فاضطر في النهاية إلي حسمها من خلال المنافذ السياسية عبر اتفاقية ” مخارجة” ذكية انتهت بالانفصال.
ربما كانت هذه هي البداية فقط ، أن تكشر باقي القبائل عن أنيابها وتعلن التمرد والعصيان علي تشكيلة الحكم ” الشاذة ” هذه وتطالب بإرثها المشروع في السلطة والثروة. وستكون مجرد ردود أفعال طبيعية مضادة للدعوة العنصرية التي ما برح يطلقها ، في كل سانحة ، نفر محسوب علي النظام الحاكم بتعميم العروبة علي بلد متعدد الأعراق واللهجات والملل والسحن. بلد لم تستطع أي حكومة أن تقييمه وتقدره أو حتى توصفه بصورة صحيحة وتستفد منه كثروة قومية جامعة .
في هذا الصدد ، لابد أن أستعير ذلك المثل الذي ضربه لنا اليوم عمنا الفاضل الأستاذ جبارة (وهو من الرعيل الأول في حقل التعليم بولاية النيل الأزرق اذ عمل معلما بمدارس الروصيرص منذ العام 1952) إذ قال : أن الملح والزيت والبصل والشمار والشطة عناصر لا غني عنها في إعداد أي” طبخة” مثالية وكذلك هي سياسة الحكم في السودان .
ليت كان هذا الحكم القبلي مثاليا ، يلتزم بالعهود ويصون الشرف ويحافظ علي الحقوق ويؤدي الأمانة ويعتمد الإيثار والتجرد والزهد منهجا ولكنا للأسف ، نري عكس ذلك تماما والحمد لله الذي أرانا رأي العين كيف أن ” حاميها…حراميها” هنا وفي دول الجوار. إنها تجربة مريرة بالفعل نسأل الله ألا تتكرر أبدا.
نحن نعاني من مشاكل قبلية واضحة سببها في الأساس سوء فهم تاريخي وتغول غير مبرر علي الآخر مع التغاضي عن قواعد وأسس دينية وأخلاقية تكفل حقوق المسلمين وغير المسلمين وتحميهم كافة ولم يعد هناك من مناص إلا أن تسوي هذه المشاكل وتضع الجميع باختلاف أعراقهم وألوانهم ولهجاتهم علي قاعدة وطنية واحدة متساوية يحكمها دستور ملزم ، يرضي الجميع ، تماما كتلك ” الطبخة ” المثالية المستساغة الطعم يشارك في إعدادها كل الناس.
حتى اللحظة ، لا توجد هناك رؤى واضحة للخروج من أزمة الحكم هذه ويبدو أننا سنظل نكتوي بتلك الطبخة اللاذعة الحارقة ، التي تحتوي فقط علي ملح وشطة إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

الدمازين في : 2011/05/16م.
محمد عبد المجيد أمين(عمر براق)
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..