أخبار السودان

العشوائيات بأم درمان.. حياة أقرب إلى الموت السكان يعانون من الدرن وسوء التغذية والإسهالات

ضعف النظر والربو قاسم مشترك بين أبناء الأسر

العمارات المهجورة أوكار للصوص ومرتكبي الجرائم

أم درمان: إنتصار فضل الله

حليمة الحاج امرأة متقدمة في السن حياتها شاهدة على ما فعلته العشوائيات بالمواطنين على مر الزمان، فكل ما تمتلكه بضعة أمتار أشبه بالقبر في واحدة من المناطق العشوائية الواقعة غرب أمدرمان والتي تفتقر لكل الخدمات.. منذ الصباح الباكر تجدها تراجع تثبيت أعمدة منزلها الآيلة للسقوط وبقربها ابنتها التي تعمل على صناعة (الكسرة) في العراء استعدادًا لبيعها للسكان من حولها، فقدت حليمة العام الماضي منزلها الذي جرفته مياه الأمطار فانتقلت إلى مكان آخر لكنه لم يسعها وأسرتها، فعادت لتبني ركائز المنزل ذي الحوائط المتساقطة مجددًا ليأويها فهي تقيم في العشوائيات منذ تسعينات القرن الماضي، ولم يحدث لها أن شاهدت يوماً زيارة مسؤول لهذه المناطق التي تعتبر خارج خريطة العالم..

يحكي وضعها معاناة السكان الذين يعيشون في الأحياء البدائية ذات المباني المصنوعة من (الخيش) والمتداخلة في بعضها البعض .

تمدد سكني

تزايد عدد ساكني العشوائيات بتزايد المشاكل، بل هناك تمدد سكني واسع على حساب الأزقة والشوارع، ولم تكن حليمة التي تعمل في المنازل وحدها التي تعاني الألم داخل مثلث العشوائيات بالمربعات (34 ـ 43) وجنوب شرق الـ(27) الواقعة غرب مدينة أبو سعد بأمدرمان.. فهناك أناس آخرون يتقاسمون (الرغيفة) الواحدة فيما بينهم، يعيشون أوضاعاً صعبة لا تتوفر لهم الخدمات الأساسية التي تخفف المعاناة، حيث تعيش حوالي أربعة آلاف أسرة داخل منازل بنيانها هش مصنوعة من عيدان القنا ومعروشة بالخيش وبعضها (بيوت طينية) متآكلة وجميعهم بسطاء يعملون برزق اليوم، ويبلغ حجم الوفيات بسبب الغياب الصحي فيها نسبة كبيرة حيث تنتشر فيها أمراض (سوء التغذية والسل والإسهالات).

واقع هؤلاء البسطاء يقول إنهم (بر الدنيا)، يعيشون حرماناً من كافة الخدمات، يدمر الخريف منازلهم كل عام ويبقيهم في العراء لا حول لهم ولا قوة، وبحسب حديثهم لـ(الصيحة ) أن مياه الأمطار القادمة من جهة مناطق (ود البشير ) جنوب محلية أمبدة عبر شارع المربعات تستقر عند أراضيهم وتكون مستنقعات يتوالد فيها الذباب والبعوض والضفادع ، فتتحول الشوارع إلى برك كبيرة يصعب المرورعبرها، وتنعدم في تلك المربعات الخدمات (الصحية والبيئة والتعليمية) وغيرها، وفي موسم المدارس يقطع الأبناء الفيافي مشياً على الأقدام لتلقي التعليم بالمدارس المنتشرة بالمناطق الشرقية، أغلب الطلاب مستواهم التعليمي متراجع جدًا بل يكاد لا ينجح أحد لأنهم يقضون اليوم بكامله في طريق العودة من (المدرسة)، وبسبب انعدام الكهرباء فإن بعضهم أصيب بضعف النظر لأنهم يستخدمون (البطاريات) للقراءة والكتابة، وتشكل مياه الشرب هاجساً كبيراً جداً فمع قدوم شهر رمضان ترتفع أسعار الجركانة الواحدة من (5 ـ 8) جنيهات، والأسر لا تملك ما يكفيها يومها، فأغلبهم يعتمد على الجهد البدني المتمثل في البناء، لكن هذه الأعمال لا تفي متطلبات الأسر على حد قولهم، ومع كل هذا فقد قبلوا بهذا الوضع، إلا أن هناك مشاكل أخرى زادت من هذه المعاناة تمثلت في غياب النظافة وانتشارالنفايات.. يظل سكان العشوائي هكذا تمرعليهم كل فصول السنة دون تغيير .

أماكن لبيع (الخرشة)

أفاد محمد صالح البالغ من العمر (45) سنة وهو من سكان مربع (34) بأن أغلب قاطني المربع لم يجدوا أماكن أفضل من العشوائيات ليعيشوا فيها، فالظروف الاقتصادية التي تحيط بهم تعوق استئجار منزل في مكان أفضل لذلك يتزاحمون في مساحات ضيغة تبنى فيها (العشش) يهدد حياتهم الانتشار الواسع (للصوص) ومتعاطي المخدرات بالمربع، وأشار إلى وجود فئات من الشباب يقومون بتسويق حبوب (الخرشة) علناً وبيعها للأطفال مما دفع بعض الأسر الانتقال إلى أماكن أخرى حفاظاً على ابنائهم، يدعو صالح المسؤولين لتوفير الحماية للأسر المقيمة في مثل هذه المناطق، وكذلك توفير ولو القليل من الخدمات التي تعينهم على مجابهة الظروف. واتفق عثمان إبراهيم وهو أستاذ بمرحلة الأساس مع الرأي السابق فيما يتعلق بأهمية توفير الحماية للمواطنين، وبدوره من مخاطر المباني الجديدة والخالية من السكان بالمربع والتي تمثل هاجساً كبيراً بالنسبة لهم لأنها تحولت إلى مخابئ للمجرمين وقطاع الطرق الذين يأتون من مناطق أخرى يهددون أمن واستقرار المواطنين، ولفت إلى أن الخطر يمتد إلى المربعات السكنية الأخرى، وكشف عن ظاهرة السرقات النهارية التي زادت بشكل غريب الآونة الأخيرة من جانب بعض الفتيات اللاتي يدخلن المنازل القليلة المقامة وسط العشوائيات بحجة العطش مستغلات وجود النساء فقط بالمنازل ودائمًا تتم السرقات في أيام (الأحد والخميس). ولقد طالت السرقات عدداً من (عشش ورواكيب) السكان البسطاء ، واعتبر أن مشكلة العشوائيات ليست في السكن غير الملائم وإنما هي بيئات مثالية لتوليد الجريمة بالتفاعل مع انتشار الفقر والمرض وغيرها بل الناس فيها يعيشون في وادٍ آخر ..

من الواقع

واصلت (الصيحة ) جولتها بمثلث (العشوائيات)، ودلفت إلى داخل واحدة من (العشش) المصنوعة من الصفيح بمربع (43) حيث تسكن أسرة يعاني أبناؤها الثلاثة من أمراض متنوعة يعيشون على تناول وجبتين في اليوم (الكسرة) المجففة بعد خلطها بماء دافئ وإضافة القليل من السكر عند الإفطار، ووجبة مسائية عبارة عن (سخينة) مصنوعة من (الثوم)، تقول والدتهم آمنة عباس: كان هناك دعم من ديوان الزكاة يتم توزيعه على الأسر المحتاجة بالمربع، ولكن الآن مضت ثلاث سنوات ولا أحد يرى هذا الدعم ولا يعرف لماذا توقف؟ وتضيف محدثتي: الآن شهر رمضان على الأبواب و(90%) من السكان يعيشون ظروفاً سيئة يحتاجون إلى وقفة من الجهات المختصة لانتشالهم من هذا الوضع وتوزيع (كرتونة) رمضان بعدالة دون انحياز، واشتكت من وضع أبنائها الثلاثة فأحدهم مصاب بالعمى واثنان يعانيان من (الربو) بشكل مستمر، ولا يوجد مركز علاجي قريب يمكن اللجوء إليه عندما تنتابهم نوبة مفاجئة، لذلك تقوم بصنع دواء من الأعشاب والثمار البلدية ليتناولونه والآن تسوء حالتهم بسبب حرارة الشمس التي تؤثر على صحتهم، ولفتت أن المنطقة تفتقد الماء والكهرباء وتنتشر فيها الكلاب الضالة والنفايات ما ينعكس سلباً على الصحة عموماً.

مياه بطعم المبيدات

لم يكن الوضع بمربع (27) أفضل من غيره، فقد دلفت إلى حيث يتحلق عدد من المواطنين حول عربة (كارو) يتجادلون مع صاحبها حول سعر الماء المرتفع والطعم الغريب الذي يشعرون به عند تذوقها إلى جانب رائحتها وكأنهم يتناولون مبيد (حشرات أو كلور)، أحدهم اسمه عباس الطيب أخبر (الصيحة) بأن مياه (الكارو) تسببت في حدوث إسهالات لكثير من الأسر ولا يجدون بديلاً لها فقد ظلوا يشترون الماء بسعر مرتفع طوال السنوات الماضية وإلى اليوم، يناشد المختصين الإسراع بتوصيل الإمداد المائي للحزام الذي يفتقر لهذه الخدمة منذ سنوات، وأشار إلى أن كل المناطق الواقعة في الحدود الغربية للنيل سكانها (عطشانين) متهماً اللجان الشعبية بالتلاعب بالأراضي والتباطؤ في إدخال الخدمات.

طلبات وردود

ومن ذات المنطقة، قال إبراهيم آدم عضو باللجنة الشعبية إنهم تقدموا بطلبات وشكاوى عديدة للجهات المختصة بخصوص الخدمات، ولكن لا حياة لمن تنادي، فمسألة عدم إنارة الشوارع تزيد من خطورة الوضع لأنه بعد الثامنة مساء لا يستطيع أحد المرور بشوارع العشوائيات أو غيرها من المناطق الواقعة في أطراف أبو سعد وبات الأمر بحاجة لمعالجات سريعة وتخطيط المناطق فبمربع (34) وحده يوجد عدد لا يستهان به من المباني العشوائية وهي مهدد أمني واقتصادي واجتماعي، وناشد المسؤولين بالسعي لتوفير الخدمات الأساسية التي تضمن استقرار المواطن، إلى جانب التخطيط وتوزيع السكن للمستحقين بعدالة .

آفة المجتمع

لم تخف دكتورة منال حسن أحمد استشاري علم النفس والاجتماع بمجلس الأشخاص ذوي الإعاقة ولاية الخرطوم قلقها بشأن الانعكاسات النفسية التي تهدد سكان العشوائيات الذين يشعرون بعدم اهتمام الدولة وبالظلم نتيجة الفقر فتتولد بداخلهم حالات الغبن والانتقام من المجتمع الآخر ومطاهر العنف التي تنعكس على مستقبلهم، وأشارت إلى عدد من أسباب تولُّد الظاهرة منها ظهور الزيادة السكانية والهجرة غير المنظمة وغير المخططة من الريف إلى المدينة إلى جانب عدم قدرة الدولة على تخصيص استثمارات كافية لإنشاء وحدات سكنية لمحدودي الدخل بالإضافة إلى قصور التشريعات والقوانين المنظمة لتقسيم الأراضي، ولهذه المشكلة آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على درجة كبيرة من الخطورة، منها التعدي على الأراضي وانتشار الجرائم والإرهاب وما أفرزته المناطق العشوائية من أخطار على الأمن القومي مما يؤثر على حياة المواطن وتطور المجتمع، وحسب د. منال لـ(الصيحة ) أن الأمر بات يتطلب حصر وتصنيف العشوائيات ليس في غرب أمدرمان فحسب بل في كل ولاية الخرطوم، ووضع خطط لتطوير هذه المناطق، ولا بد أن تكون سياسة تتخطى الحكومات وأن تكون مستمرة لا تتوقف حتى يتمكن سكانها من تغيير أوضاعهم والمضي إلى الأمام فتلك العشوائيات أصبحت آفة تعيق تنمية المجتمع.

ووفقاً لحديث اللواء عمر نمر وزير البيئة والتنمية الحضرية لـ(الصيحة ) أن الاهتمام بالعشوائيات ومعالجتها من ناحية حضارية وتحسين البيئة والمظهر العام للمناطق السكنية موجود بالفعل، وهناك جهود ودراسات لتقنين الأوضاع التي لم تراع التخطيط العمراني وذلك بالتعاون مع الجهات المختصة بوزارة التخطيط وغيرها من الجهات.

بعد العرض

العشوائيات من الظواهر التي فرضت نفسها بقوة واكتسحت الأراضي بغرب أمدرمان، عدم توفر الخدمات الأساسية أصاب المواطنين بحالة استياء فهم لا يأملون في الكثير فقط يريدون القليل من الاهتمام، وتعزيز مساكنهم بالحماية وزيارة المسؤولين لهم للوقوف على معاناتهم عسى ولعل يتمكنوا من تغيير أي شيء .. مثل تخطيط أو توزيع للأراضي الشاسعة بغرب أمدرمان المهددة بزيادة رقعة العشوائيات فيها ..

ما خرجت به الصيحة خلال جولتها وضع بائس وحياة غير كريمة تعيشها أسر محتاجة بالفعل لمن أن يمد لها يد العون ويخرجها إلى بر الأمان، وإلى حين تحقيق حلم هؤلاء البسطاء إلى متى ستظل الدولة تغض الطرف عن المشاكل التي تعوق حياتهم ؟ وهل الأسباب وراء خلق هذا الوضع تقصير حكومي أم لسوء تدبير.

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..