نظام الحكم الديموقراطي: المقومات و المعوقات

بحسبانه الركن الركين و الأرضية الصلبة للحكم الراشد المستند إلی قيم الحرية و العدالة الاجتماعية و إحترام حقوق الانسان في ظل دولة القانون، يعد نظام الحكم الديموقراطي النظام الأمثل بالسودان. ذلك أن التعددية العرقية و الثقافية و الدينية التي تسم الواقع السوداني و كذا الإرث التاريخي الحافل بالنزاعات و الصراعات و الحروب فضلا عن الظلامات التي طالت هوامش البلاد المختلفة عبر مختلف حقب الحكم الوطني تجعل من النظام الديموقراطي النظام الأمثل المؤهل لحكم السودان في ظل هكذا واقع. ليس هذا فحسب بل إن التجارب السياسية الدولية أكدت عملياً، عبر مسيرتها الطويلة، أن الديموقراطية تعد نظام الحكم الأفضل، مقارنة بما عداها من نظم.
و إستنادا إلى هذه الحقيقة يُعول علی النظام الديموقراطي في انتشال السودان من وهدته الراهنة التي أقعدته طويلاً ثم يعول عليه، من بعد، في تحقيق التطور الذي من شأنه أن يؤسس للقفزات الحضارية المرتجاة الكفيلة بتعبيد الطريق أمام بلادنا كي تلحق بركب التطور الدولي الذي بلغ شأوا حضاريا غير مسبوق في شتی المجالات و أدی إلی خلق فجوة حضارية مهولة بين الدول المتخلفة و الدول المتقدمة.
و نظراً لإسهامها الكبير في إرساء دعائم الاستقرار السياسي و تحقيق التطور و الرفاه للشعوب بل و تمهيد الطريق نحو الآفاق الجديدة في العديد من حقول العلم و التقنية التي تمثل العامل الحاسم “Crucial Factor” في رقي الشعوب و تقدمها، فقد أصبحت الديموقراطية مطلباً دولياً ملحاً و اتجاهاً عالمياً حيوياً. و قد قاد التوجه الدولي العام نحو الديموقراطية إلی إضطراد تطور نظم الحكم الديموقراطي في الدول الديموقراطية كما أدى إلى توطين و ترسيخ الديموقراطية في العدبد من دول العالم الثاني و الثالث التي آلت على نفسها تبني هذا النظام و تطبيقه سعياً وراء إحداث التحولات الحضارية الضرورية الهادفة إلى كل ما من شأنه تحقيق أهداف شعوبها. و قد قاد هذا بدوره الی تبوأ العديد من الدول مكانة دولية مرموقة بل و فتح الباب علی مصراعيه للتنافس الحضاري الواسع في شتی المجالات.
و تتمظهر المفارقة الصارخة، هنا، في أن هذا الإتجاه الديموقراطي الدولي تقابله ردة ديموقراطية بالسودان تجعل بلادنا تسبح عكس تيار العصر. و يتجلی ذلك من خلال توطين و إرساء دعائم الدكتاتورية و الأوتوقراطية القابضة التي خلقت بيئة حكم ظلت تعمل علی تقويض الجهود ذات الصلة ببناء النظام الديموقراطي و ترسيخه. و قد أفرزت هذه التجربة التي تجلت في أبشع صورها في عهد النظم الشمولية بالسودان و بالذات في عهد الإنقاذ الحالي وضعاً مأساوياً طال كل مناحي الحياة بالبلاد و أورد الوطن موارد التدهور العام ثم أدی إلی تراجع الجهود التراكمية الرامية إلى تطوير و ترسيخ تجربة الحكم الديمقراطي، في ظل انسداد الأفق السياسي و الإنكفاء السياسي غير المهيأ للتعاطي مع الواقع الدولي و معطيات العصر. و إذا حاولنا أن ندلف، بعد هذه التقدمة الضرورية، إلی إستعراض مقومات النظام الديموقراطي بالسودان نجدها تتمثل، إجمالا، في إرث ديموقراطي تراكمي يُعتد به، يتجلی في تجارب حكم ديموقراطي سابقة إستطاعت، رغم قصر فترات حكمها المتقطعة و العقبات الكثر التي إعتورت مسيرتها، إستطاعت أن توفر أدباً ديموقراطيا لا يستهان به في تأسيس بنية تحتية و بنية فوقية لديموقراطية واعدة تؤسس لحكم معافى مكتمل الأركان. فبالرغم من إستحواذ فترات الحكم الشمولي بالسودان علی غالب الفترة الزمنية التي أعقبت الاستقلال و كذا العسكرتاريا السودانية الصارخة، و الراديكالية النافية للآخر و التي ظلت تعلي من قيم الحكم الشمولي و تسبح عكس تيار الديموقراطية، إلا أن الأحزاب السودانية العريقة التي صنعت استقلال السودان تمكنت، في إطار سعيها لإقامة نظام حكم ديموقراطي راسخ، من تعبيد طريق الديموقراطية فضلا عن إشاعة الثقافة الديموقراطية في أوساط الجماهير. و لا شك أن هذا الإرث يمثل ضمانة أكيدة للمضي قدماً في طريق الديموقراطية برغم المتاريس الكثر التي تعتوره و التي تحتاج الی إرادة حقة و جهود جبارة من قبل القوی الحزبية ذات التوجه الديموقراطي.
كما أن من مقومات نظام الحكم الديموقراطي توافر كوادر حزبية مقدرة بهذه الأحزاب، تمثل مختلف الأجيال، تمتلك خبرات متراكمة Accumulated Experiences?” و مهارات و قدرات معتبرة يمكنها رفد العمل الحزبي و التجربة الديموقراطية بالبلاد على النحو الذي يرتقي بهما.
و يمكننا أن نضيف إلى مقومات النظام الديموقراطي قناعة الشعب السوداني بأفضلية هذا النظام، بعد تجارب شمولية فاشلة و قاسية و مريرة عاشها الشعب و أكتوى بنارها، مضافاً إليها التجارب الديموقراطية المطبقة في بعض الدول، و التي وقف هذا الشعب من خلالها على إسهام الديموقراطية في بناء هذه الدول و في إحداث التطور و الرفاه بها حيث ظلت تجنى ثمارها و تحقق الكثير مما تتطلع إليه.
بيد أنه قد يقول قائل أن الأحزاب السياسية، و برغم ما توافر لها من إرث (ديموقراطي) واعد، إلا أنها تعاني من خلافات و إنقسامات مزمنة أقعدتها طويلاً، كما أن الممارسة الديموقراطية الفعلية داخل مؤسساتها لا تزال في حاجة إلى تطوير يرتقى بها حتى تستطيع رفد العملية الديموقراطية بكل ما من شأنه أن يعززها ويثبت أركانها. و في رأيي أن هذا الخلل يجب ألا يكون مدعاة لوصم هذه الأحزاب بالفشل و عدم الأهلية غير القابلين للعلاج بقدر ما يتعين علاجه من قبل الأحزاب نفسها في إطار ممارسة النقد الذاتي و من خلال “وقفة مع الذات” تستهدف الإصلاح الحزبي الجاد. و يعد هذا العلاج، دون ريب، ضرورة تقتضيها الإستفادة من إرث هذه الأحزاب و من تجاربها السياسية في ترسيخ التجربة الديموقراطية.
أما معوقات الديموقراطية فتتمثل في عدم تطوير الأحزاب لمؤسساتها لأسباب ذاتية و أخری خارجة عن إرادتها و عدم إشاعة المزيد من الممارسة الديموقراطية داخل هذه المؤسسات عبر القيام بإصلاحات بنيوية جذرية “Deeply-rooted Structural Reforms”، من شأنها صيانة البيئة الحزبية و ضخ الدم في شرايين المؤسسات الحزبية بغية مضاعفة فعاليتها التي تعمل على الإرتقاء بالديموقراطية داخل الحزب مع علاج الأزمات التي تعترض سبيل الممارسة الديموقراطية. كما أن من معوقات الديموقراطية تفشي الأمية بالبلاد و عدم إيلاء التعليم الأهمية المطلوبة بالرغم من أنه يمثل حجر الزاوية Corner Stone?” في عملية التحول الديموقراطي بإعتباره يعد عاملاً مفتاحياً في إستنارة و توعية الشعوب و كذا تفتح مداركها، ما يوفر لها الوعي اللازم لممارسة حقها الديموقراطي و تعاطيها مع الديموقراطية. و يحتاج التعليم، حقيقةً، إلى “ثورة واعية” نبيلة المقاصد و مبرأة من التسييس المفسد الذي يتقاطع مع أهداف التعليم الأساسية و ذلك من خلال رسم إستراتيجية واضحة المعالم تستهدف توسيع قاعدة التعليم و تطويره مع القضاء على الأمية. و من المعوقات أيضاً التصدي للإنقلابات العسكرية التي عادةً ما تقطع الطريق على مسيرة الحكم الديموقراطي.
و مما يجدر ذكره أن العسكر يلجأون، عادةً، للإنقلابات العسكرية بذريعة فشل تجربة الحكم الديموقراطي، حسب زعمهم، إلا أنه بعد أن تؤول إليهم السلطة يكرسون الديكتاتورية و يعملون على قمع القوى السياسية المناوئة لهم و إقصائها ثم ينتهي حكمهم إلى فشل ذريع يخلف وراءه تركة مثقلة بل و آثار مدمرة على أكثر من صعيد. يقول السيد/ محمد أحمد المحجوب في كتابه “الديموقراطية في الميزان” أن علاج أزمات الديموقراطية يتمثل في المزيد من الديموقراطية و هو ما يتعارض مع اللجوء للإنقلابات العسكرية بحسبانها حلاً لأزمة الحكم.
الجدير بالاشارة أن الانتكاسة الكبيرة لتجربة الحكم الديموقراطي بالسودان و البيئة السياسية الراهنة غير المؤاتية و تجذر الشمولية بالسودان تجعل من مضاعفة الجهود الجمعية الصادقة و المخلصة للقوی السياسية أمراً ملحاً لإقالة عثرة الديموقراطية.