لغتنا الحية الميتة

العرب حينما يفسرون كلمة أو بيت شعر
يقولون : ( يقال ) كذا وكذا .. وقد يفسرون كلمة بقصة تاريخية تتفق معها .. فالوضع ليس في اللغة وحدها وإنما كذلك في التاريخ القصصي وفي التفسير . ومن أجل خلق وجهات نظر من أساس لغوي يصنعون من اللفظ الواحد عدة ألفاظ ليشرحوا علاقة النحو بالمعنى .
? أكثر ما ثبت الأساطير الأدبية والتاريخية في الشعر كقصص حروب داحس والغبراء وغيرها أن الشعراء الذين خلقوها وفصلوا فيها كانوا يتناقلونها في قصائدهم ويكررونها في أبياتهم كجزء من ميراث عقلي ولغوي ودراسي مرجعي .
? التاريخ في معظمه بما فيه من المبادئ الأخلاقية وملامح الشعب الذي يتحدث عنه إنما هو تفسير ( الشعر ) الذي وضعت فيه المئات بل الآلاف من الكتب .. فوضع التاريخ العربي ساعد فيه ( الشعر ) والشراح لهذا الشعر .
? حينما يقول الخطيب التبريزي : نقد الشعر أصعب من نظمه فإنما يعني تتبع الشعر تاريخيا ولغويا وأسطوريا وتحرير الاختلافات فيه .. فقد كان الشعر هو ( المركز ) العقلي للثقافة العربية القديمة .. هو النص الذي يقوم عليه النقاش والجدل والاختلاق الذي كان ضروريا للحرية العقلية التي لا تعرف البحث العلمي ولا التجريب . فالبديل للعلمية هو الاختلاق . فالشعر بوصفه عمل بشري غير مقدس نمى حاسة التزييف والابتداع في العقل العربي وعزز من رغبة العمل الأسطوري بداخله .
? خرجت اللغة العربية من وسط ( الإبل ) والرعاة والبادية .. خرجت من المساحات الشاسعة بلا تحديد ولذلك هي فضفاضة وحمالة أوجه وبلا معنى .. وكلما تقدمت تاريخيا وجغرافيا تحددت وانضبطت وصارت ذات وجهة محددة ومتفق عليها ولذلك فكل معاني اللغة العربية معان خلقها التاريخ وكل الفكر تقدم مع تقدم اللغة البسيطة وليس نابعا منها فاللغة مع التقدم التاريخي تحمل المعاني بسهولة كما يحمل المغنطيس الحديد ما كانت هناك فسحة لذلك
? علينا ألا نبحث عن حقيقتنا العقلية في اللغة وإنما في التاريخ وأن ننظر إلى المستقبل كأداة تغيير وليس إيمان أو يقين . لغتنا الحديثة لغة زراعة ومصانع وشركات وجامعات ولذلك فهي ( مقدسة ) أكثر من اللغة القديمة لأنها تحمل حقائق موجودة و يمكن أن تتغير .
? الشاعر في الزمن القديم ( لغوي ) وصاحب مهارات معجزة وباب لاستعمال الغريب من الألفاظ والمعاني خاصة معاني الرعاة ومسميات الإبل والترحال .. هو لغوي أكثر من شراحه العديدين على مر التاريخ المتغير لغويا وأكثر من المفسر والناقد الذي تصعب عليه المعاني ولذلك كثيرا ما يستعينون بشعر شاعر لتفسير كلمة عند شاعر آخر أو بشعره لشرح المعاني .. ولذلك انعدمت المسؤولية الشخصية والعلمية .. فشعر الشاعر المحدد كان أيضا قاموسا لغويا . وهذا ما جعل الشعراء العرب لقرون يدورون في نفس المعاني ويستعملون نفس الألفاظ ونفس الأفكار حتى مطالع العصر الحديث .
? البادية كانت هي البداية .. ولكن معظم اللغة العربية وضعها الشراح والنحويون كالفراء والأخفش والأصمعي وغيرهم .. فهي ليست لغة محكية حيث حذفت الشعوب كعامل من عوامل تصنيع اللغات منذ أمد بعيد فابتعد اللغة الفصيحة من الدارجيات والوجدان الشعبي من المكتوب .. كانت لغة مكاتب وكتبة وخطاطين ووراقين وخلفاء وأمراء يمدحون ويعطون .. ولذا ركدت وعجزت عن المسايرة ولقوة اللغة المحكية كان الشراح يستعينون بها أحيانا تحت عنوان ( قالت العامة ) وعلى استحياء .. ومع بروز حركة العصر الحديث والتعليم الأوربي والترجمة والطباعة سقطت لغة المعلقات ولغة الشعراء الإسلاميين والشعر العربي القديم كله .. سقطت من التاريخ المعاصر بعد أن تغيرت كذلك الأغراض من الشعر .. وما أن تتغير الأغراض فلابد أن تتغير اللغة ومع الفنون الحديثة سقطت أجزاء كبيرة من الوجدان المصاحب لهذه اللغة بل تغير هذا الوجدان مع جنوح اللغة إلى أن تكون لغة شعب ولغة ( عامة ) في التعليم .
? مع أن بعض علماء العربية يميلون إلى التخفيف في الألفاظ مسايرة للمحكي إلا أن أعمالهم مليئة باللفظ القديم الغليظ لأن الشعراء كانوا يضطرونهم إلى هذا الميل في محاولاتهم العنترية لاقتفاء اللفظ القديم والمعاني المصاحبة له من لغة البادية والسرى والعيس والمطايا العرمس الوجناء …. إلخ
? لتقديس اللغة المفسرة ومحاولات استعمالها كلغة علم رأينا شراح الشعر يقفون في بيت واحد لشرح اختلافاته ووجهاته لقرون من الزمن . فصارت لغة الشرح أدق من لغة الشعر وبهذا انفرط عقده وصار أداة من أدوات الكهانة والغموض لذا نقدس شعراء أمثال المتنبئ والمعري … وذلك أيضا لتقديس اللغة التي يتكلمون بها في الشعر .. اللغة المقتضبة التي تحتاج إلى من يشرحها تلك اللغة التي تجسدت بعد ذلك في القرآن النثري .. فالشعر القديم لقيوده الكثيرة وبهذه الطبيعة التي تجعله منكمشا أو واسعا فضفاضا فإنه لا يعبر عن الوضوح وإنما عن السر دائما .
? من أغرب ما اعتقده الشعراء في الزمن القديم ذاك المعنى الذي صرح به الشاعر الطائي أبو تمام قائلا وهو يتحدث عن شعره :
ويزيدُها مرُّ اللَّيالِي جِدَّةً وتقادُمُ الأيامِ حُسنَ شباب ِ
? أي أن تقادم الزمن ومرور الأجيال يحسن من الشعر ويجعله جميلا في عيون من يرونه في أجيال لاحقة .. ولكن نلاحظ أن عصرنا قتل العصور السابقة وتفوق عليها في كثير من الأنحاء وأصبح الشعر القديم خارج الخارطة الذهنية والنفسية لعصرنا فانتهى شعر المعري إلى بعض أبيات من الفلسفة والتمرد وشعر المتنبئ إلى بعض قصائد من الحكمة والفروسية .. وإذا كان أبو تمام في عصره يرى ثبوت الشعر وزيادة فاعليته فما ذاك إلا لثبوت وركود القاموس الشعري والوجدان الناقل له والمتنقل عبره ولثبوت الحركة التاريخية الاجتماعية بما فيها من وعي وحاسة جمالية .. ولثبوت النظرة الكونية إلى العالم التي عززت من ثبوتها السلطة فالتناقل والتكرار والإيمان الأعمى بالجودة والجمال وتأثير السلطة العقلية من علماء وكتب هو سبب رؤية ( أبو تمام ) لجمال الشعر كلما مرت به الأزمان والحقب . ولذلك تراهم يذكرون نفس الأماكن في الشعر ( رامة ? ملحوب ? ذي أثل ) فتتجرد من صفتها الجغرافية كي تصير على مرور الزمن موضعا شعريا وأداة لنقل المعنى .
? كان للشعراء قدرة هائلة على التصرف في اللغة وخلق الألفاظ كسلطة لغوية تشابه عندنا ( مجامع اللغة ) فكانوا يغيرون شكل الكلمات كما يشاءون كي تعبر عن المعنى المقصود ويساعدهم في ذلك رواة شعرهم الذين كانوا يخضعون هذا الشعر للتبديل والفجور اللغوي والاختلاق في معناه وفي ألفاظه فكانوا بابا من أبواب خلق اللغة ووضعها وتوسيعها ولذلك تجد اللغة تتطور في نواحي بيئاتهم الجغرافية وأزمانهم التي عاشوا فيها فتجد أسماء السفر والأفعال المشتقة منه وأسماء الإبل وحيوانات الصحراء والأفعال والصفات المشتقة منها هي أساس الجذور اللغوية لمعظم لغتنا نحن أهل المدن
? الشعر العربي القديم أصبح شعرا تاريخيا لا يعبر عن العصر الراهن اليوم .. ولا عن لغة الشعر اليوم وذلك لتغير أوجه الحياة وخلق الأسماء الجديدة التي أحيت اللغة وجددتها . الزمن أسقط شعر المتنبئ إلا قليلا منه وشعر المعري وشعر ( أبو تمام ) الذي لم تبق منه سوى استعارات باهتة من قبيل ( قلوب الأيام ? خد الشمس ? كٌثب الموت … )
? الوضع في الحديث النبوي الشريف كان أيضا وضعا للغة .. لإدخال الحديث في قضايا أخرى أحدثتها الأزمان ولذلك كان لابد من التفنن في خلق اللغة عن طريق التأليف والأشعار وربما كان الرفض القرآني للشعر والشعراء هو من هذا الباب.. حذف الشعراء كأداة خطيرة في تطوير اللغة وخلقها وتنويع الواقع . فلولا الشعراء ما ظهر الرواة ولولا الرواة ما ظهر الشراح ولولا الشراح ما ظهرت لغتنا اليوم . إنها نقيض لكل اللغة القديمة التي كافحت طويلا من أجل إسدال ستار التخلف على كل العصور في المستقبل .
? التقديس هو آفة حياتنا العقلية فقدسنا كل شيء حتى (كثير عزة) و (أبو نواس ) و (جميل بن معمر ) و (عمر بن أبي ربيعة ) كشعراء يناقضون التقديس كما هو مشابه للطهارة والعفة وقدسنا اللغة العربية مع أنها تخضع ككل اللغات لكل حياة اللغة وازدهارها وموتها .. وحتى في الأزمان القديمة كانت اللغة العربية تموت وكان المتمردون كالشعراء والشراح والمتدثرون بقداسة الكهان وغموضهم يبتدعون اللغة الجديدة باسم المديح الذي كان يوجه للخلفاء والأمراء .. ومن أمثلة الألفاظ الميتة في اللغة العربية لفظ ( اسحنكك ) على وزن افعنلل ويقول عنه التبريزي : ” ذلك اللفظ ممات ولم يحك أحد من الثقات فيما أعلم ( السحك ) في معنى السواد ” وورد اللفظ في شعر( أبو تمام ). ولكن اللغة التي تموت مازلنا نقدسها كلغة آتية من السماء وخالدة ولغة آلهة .
? والراجح عندي أن هذا اللفظ غير ( ممات ) وأن اللغة العربية لا تعرف الموت اللغوي إلا نادرا .. لأنها لغة تحفظ في الكتب ويقرأ الطالب ما يكتبه أستاذه وينقله كما هو لجيل لاحق ولذلك تحنطت اللغة في كل علم فلا يعرف الموت ما هو أصلا يعيش في حالة موات .. كان الشعراء يبتدعون الألفاظ ويعطونها المعاني والمسميات ويأتي من بعدهم الرواة الذين هم غالبا شعراء في طور التكوين فيضعون نظائر لها في ما يبتدعونه من ( رجز ) أو يقومون بصياغتها كما هي في كلمات قصيرة موزونة سهلة الحفظ وأكاد أقول أن هذه النزعة في تثبيت ألفاظ الشعراء الجديدة التي يحتاجونها في شعرهم لضرورات المنافسة أو الوزن أو القافية هو ما طور الرجز كأداة تنظيم وحفظ وإقناع بأن ما يكتبونه له مرجعية قديمة .. فمرجعيتهم دائما كانت هي الأجداد وليس الاستعمال أو الضرورة أو الجمال اللغوي أو خلافه .. وفي حالة اسحنكك ربما نسي الرواة هذه الكلمة أو قاموا بتجاوزها لموسيقاها القبيحة ولظهور الوضع فيها وتركوها على حالها كحالة فريدة في شعر أبو تمام من أجل إبراز ربما فرادته وتبحره في الغريب والبعيد واللا معروف .
? القرآن في لغته كتاب مثالي صوفي مفارق لا يعبر عن البيئة العربية كما يعبر عنها الشعر .. لغته لغة الكهانة التي نضجت في ذلك الوقت بفعل ترجمات التوراة والإنجيل وعزلة العباد في الكهوف الذين مارسوا الأدعية وتناقلوا قصص الأنبياء وهي لغة ناضجة لأنها محدودة ومفارقة ومتناقلة كلغة طائفية ومذهبية ومنحصرة في نقاء لا يختلط بما سواه من لغة التعامل اليومي . لغة التدين عند العرب ليست هي لغة التطور العقلي التاريخي بل هي لغة ثابتة جامدة لها حدودها كلغة حساسية دينية وليست حياة اجتماعية .
? أبو تمام بلغته الشعرية الصورية يعبر عن البيئة العربية في زمنه الذي تلا عهودا من العهود الإسلامية أفضل من نصوص القرآن وهو يريك أن البيئة العربية في لغتها مازالت فجة وقريبة العهد بجذور اللغة وبطرق استعمالاتها المرتبطة بالبيئة حيث لم تدخل معظم الألفاظ والعبارات في استعمالات جديدة ولم تخرج من حيز البادية والاستعمالات البسيطة التي تساعد في الصور الشعرية المستمدة من ذات البيئة ..
? الصورية التي جسدها الشعر العربي وبعض الشعراء العرب وعلى رأسهم أبو تمام هي التي كشفت عن مدى تطور البيئة العربية وعن أن الكتب الدينية الرئيسية كانت بعيدة جدا عن هذه البيئة التي لم تظهر إلا في الأحاديث والخطب النبوية التي كانت ألصق وأكثر تعبيرا عن مرحلتها التاريخية وعن شخوصها وعن بيئتها لأنها في كثير من الأحيان تعرضت للوضع والاختلاق الظاهر الذي جسد زمنيتها وضرورتها لأن الحديث يسمح باللفظ دون المعنى وبأداة التعبير دون الفكرة .
? لغة نصوصنا الدينية كانت صافية وتجاوزت الواقع وفرضت نفسها عليه ولكن الواقع لقوته التاريخية ولضروراته الاجتماعية والاقتصادية وتحولاته الخاضعة لقوانينه الخاصة كان يلفظ النصوص الدينية باستمرار ويتجاوزها ويبني نفسه بعيدا عن تأثيراتها ومحدداتها ويتطور من لغته الداخلية التي ساعد في كشفها واستعمالها والالتصاق بها ذاك الشعر البدوي الذي صاحبته الصور والمبادئ الصحراوية والريفية . لذا عندما نقرأ القرآن اليوم نجده متعارضا مع أبنية وبيئات الشعر العربي تماما .
? زمننا هذا قضى على الشعر القديم لفظيا وصوريا ومعنويا لتطوره حياتيا وعلميا ولغويا بفضل المناهج الدراسية والترجمة وصعود اللهجات العربية المحلية كالمصرية والسورية والخليجية واستبدل الشعر القديم بشعر حديث ولكن ظل النص الديني بتعدد أشكاله كما في مبتدئه كهنوتيا وبعيدا عن الحاسة الشعبية والتصورات اليومية التي تتقلب وتزداد وتنقص مما يدل على أن اللغة أيضا ستتجاوزه في يوم من الأيام فتصبح العربية لغة أخرى غير الموجودة في القرآن الكريم . ولذلك نحن مجبرون دائما بفضل الاندفاع التاريخي الحديث على صناعة لغة تظهر في الأفلام والمسلسلات والروايات والقصص والشعر الحديث والمجلات وفنون المقالة التي تعددت أنواعها ولغاتها مما سينتج عنه روافد جديدة لانزياحات لغوية كبيرة تجعل كتبنا الدينية تحتاج لترجمة في يوم من الأيام لعله قريب أكثر مما نعتقد .
[email][email protected][/email]
الأستاذ خالد تحياتي
مقال جميل و أظنه فكري بقدر ما هو لغوي، و لقد وضعته في نقاط كان يمكن التفصيل فيها بإسهاب أكثرو واضح أن لك القدرة على هذا التفصيل لكن لربما هو الوقت أو الضيق بالتفصيل و الاسهاب لا أدري. و أرى أن هذا العمل يحمل في داخله مشاريع لعدة مقالات فكثير من نقاطك يمكن تحويلها لمقالات منفصلة، فلا تبخل علينا و نرجو العودة بالتفصيل… لك الشكر