محاكم الكاوبويات

بشفافية

محاكم الكاوبويات

حيدر المكاشفي

أنا لا أعرف ما إذا كان من الجائز «قضائياً» محاكمة شخص أو معاقبته مرتين على نفس الجريمة التي كان قد صدر فيها حكم نهائي ونال المجرم عقابه، ولكن الذي أذكره أن صديقنا ابن حلتنا الذي يكبرنا كان قد دخل في نقاشٍ حامٍ مع رئيس وأعضاء المحكمة الشعبية التي يطلق عليها الساخرون محكمة الكابويات لغرابة الكثير من أحكامها المفارقة للقانون والعرف والمتعارف عليه، أحكام كانوا ينجرونها ويهندسونها ويتواطأوا عليها بعد أن «يتوالسوا» ويوسوسوا فيما بينهم ثم ينطق بها كبيرهم، ولفائدة من ليس لهم سابق علم أو معرفة بهذا النوع من المحاكم الأهلية الشعبية أو لم يسمعوا بها فهي محاكم كانت قد سادت وتسيدت وانتشرت إبان حقبة السبعينيات وخاصةً في الأقاليم والأرياف وأشباه المدن التي لا هي بادية بداوتها تبدو ولا هي بندر، وكان قضاتها في الغالب الأعم يتألفون من العمد والمشايخ والسلاطين وبعض الوجهاء وفي الغالب يكون أغلبهم أمياً لا يعرف القراءة والكتابة أو لا يحسنهما في أحسن الأحوال، وكان لهذا المزج الغريب الذي جمع السلطة التنفيذية إلى القضائية وجعلهما معاً في يد هذه التوليفة أثره الواضح في غرابة الأحكام التي كانت تميل بوضوح أينما مالت مصالحهم وما كان في صالح الحكومة التي عينتهم، صديقنا وابن حلتنا الذي كان قد أمضى عامه الثالث يدرس الحقوق بجامعة القاهرة الفرع وكان قد هبط الحلة في الإجازة الدراسية كان حريصاً على متابعة أداء كابويات محكمة الكابويات التي تنعقد مرتين في الاسبوع تحت احدى الأشجار الظليلة بوسط السوق تتوسطها تربيزة القضاة، وكان دائب المراجعة والطعن والتصحيح لأحكام هذه المحكمة، ولكن في مرة بلغ به الضيق والغضب مبلغاً كاد معه أن يقع ضحية في قبضة هؤلاء الكابويات لولا أن انقذه مركزه ومكانته عند أهل الحلة وقبل ذلك مقام والده الكبير فيها، وكان الذي آلمه أن تحكم العصبة على أحد الصبية مرتين على جرم واحد هو انه سبّ أحد أبناء الذوات فعوقب على السباب بالجلد وتمت العقوبة وكانت قاسية على الصبي فملأ صراخه الآفاق بينما كان ابن الذوات سعيداً يتلذذ بعذاب خصمه بسادية بائنة، ولم يكد الجلاد يهوي بآخر سوط على ظهر الصبي إذا بابن الذوات يتقدم مرة أخرى إلى القضاة ويبلغهم مجدداً بأن هذا الصبي كان قد سبّه قبل شهر بذات العبارات، فأعاد الكابويات للغرابة محاكمته بذات العقوبة..
تداعت هذه الذكريات التي ذكّرني بها هذا الصديق عند لقائنا قبل يومين بعد فراق طال وقد أصبح الرجل حجة في القانون يتنفسه كالهواء ولا يحيد عنه للحديث عن غيره وخاصة عن تجاربه في بعض البلدان العربية التي هاجر اليها وعمل بها وقد بهرني بما علم وما عمل فقلت له ممازحاً لقد ضاهيت شريح القاضي الذي قال عنه سيدنا علي كرم الله وجهه أنه أقضى العرب، طرب للمقاربة فحكى لي هذه الحكاية عن نقضاء القاضي شريح الذين لا يفهمون أو ربما يفهمون ولكنهم يلوون عنق القانون..
سأل المأمون رجلاً من أهل حمص عن قضاتهم، فقال يا أمير المؤمنين ان قاضينا لا يفهم واذا فهم وهم، قال ويحك كيف هذا، قال قدم إليه رجل رجلا فادعى عليه أربعة وعشرين درهما، فأقر له الآخر فقال أعطه، قال اصلح الله القاضي إن لي حماراً اكتسب عليه كل يوم أربعة دراهم، انفق على الحمار درهماً وعليّ درهماً وادفع له درهمين حتى إذا اجتمع ماله غاب عني فلم أره فانفقتها، وما أعرف له وجهاً إلا أن يحبسه القاضي (12) يوماً حتى أجمعها له، فحبس القاضي صاحب الحق حتى جمع المدعي عليه المال، فضحك المأمون وعزله كما ضحكنا نحن على قضاة محكمة الكابويات الذين أوقعوا عقوبتين على جريمة واحدة ولكنا لم نعزلهم..

الصحافة

تعليق واحد

  1. عزيزى ود المكاشفية إنشاءالله (المكاشفى داك مايكون قريبكم كده ولا كده؟) وللتاريخ القضاء الاهليون كان لهم تاريخ ناصع فى بلادنا ولم يكن يتم إختيارهم بالصورة التى عليها الحال الان ،وانت ماشى بعيد ليه ؟ رايك شنو فى قضاة درسوا القانون على مستوى الجامعات يتم إختيارهم بعناية لقضايا بعينها فيقضون بما أمر الحاكم وكان الاية الكريمة التى تقول (إذا حكمتم بين الناس فأحكموا بالعدل ) لاتعنيهم لامن بعيد او من قريب ،او كأن الحكام سيحيلون بينهم وبين عذاب يوم لاريب منه !!واذكر ذات مره وجدت اثنين من الصبية الذين نطلق عليهم (شماشة) يعبثون بمحتويات سيارتى فأخذتهم للقسم ودونت ضدهم بلاغ وبعد اخذ أقوالى ذهبت لحال سبيلى وتركتهم تحت تصرف السلطات وبعد شهر تقريبا اتصل بى أحدهم وطلب حضورى للمحكمة بشأن القضية التى كنت نسيتها تماما واكد على وجوب حضورى وإذا تخلفت سوف يؤمر بقبضى !!فأستجبت ليس حرصا على انهاء القضية بل خوفا من القاء القبض على بسبب تخلفى ولا عذر لمن انذر!! فذهبت ووجدت الصبيان وبعد إجراءات روتينية كوضع اليد على المصحف والتأكيد على قول الحقيقة !! وأشهد الله بأن السادة القضاء لم يكن لديهم وقت للاستماع لدفاع الصبيين حتى ولا شهود ولا متحرى !! وتم الحكم عليهم بالسجن لمدة ثلاثون يوما ورفعت الجلسة ،فاستاذنت المحكمة الموقرة إذا كان فى إمكانى العفو عنهما وخاصة انا اعرف بأنهما اصلا قضيا شهرهما مسبقا فعوقبا مرتان فرفض الطلب لانه جاء متأخرا وقضى الامر،والمفروض انهما كانا بريئان حسب القاعدة المعروفة !! وهنيئا لنا بدولة الشريعة الاسلامية !!-

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..