مقالات سياسية

مساهمتي في يونيو 1989!! “2”

عادل الباز

قبل أن أشرع في حكاوي الساعات التي قضيتها طائفا بشوارع وأزقة المدن الثلاث، متسقطا أخبار الانقلاب، أود أن أخطركم بما جرى بعد نشر الحلقة الأولى. كنت قد التقيت بخلق كثير في تلك الساعات الأولى من الصباح وعلى مدار يوم الانقلاب. بعض هؤلاء قرأ ما كتبت في الحلقة الأولى فجاءني مسرعا محذرا من التفوه بكلمة في شأنه, آخرون اتصلوا ورجوني (أن أخليها مستورة) لأنهم تركوا السياسة ودخلوا السوق. بعض الذين لم أتذكرهم أصلا ذكّروني بدورهم العظيم في ذلك اليوم المشهود، وأشاروا لتفاصيل لقاءاتي معهم في ذلك اليوم فأحسست أنهم يرغبون في إبراز الأدوار التي لعبوها والتضحيات التي بذلوها وطلعوا ملوص (زي ما قال أحدهم) لعل الجماعة الذين نسوهم في (الخور) يتذكرونهم الآن. وهيهات.

(1)

توقفت في الحلقة السابقة عند افتراقي مع الصديقين محمد طه محمد أحمد وسيد أحمد المطيب، أمام منزل شلة امتداد ناصر. قبل أن أغادر، كنت قد سألت عن محمد إبراهيم الفكي الذي كان غائبا فقيل لي (والله ما في زول عارفوا ما ظهر من يومين)!! محمد إبراهيم الفكي أحد أبرز كوادر الجبهة الإسلامية في الجامعة في ثمانينيات القرن الماضي، وألمع نجوم المنتديات وأركان النقاش أين هو الآن؟. قد يكون في معية الانقلابيين، ولكني استبعدت ذاك باعتبار أنه كان يبدو (راجل ديمقراطي)!! يا زول الديمقراطية عند ناس الجبهة قشرة ساكت (كان الشيوعيون يقولون ذلك). بعد زمن سألت ود الفكي عن سر اختفائه في تلك الأيام فلم أعرف منه (لا حق ولا باطل). بعد سنتين من الانقلاب ترافقنا سويا لمنزل الأستاذ علي عثمان في الرياض واحتدّ النقاش حول الثورة ومآلاتها، وفجأة صرخ ود الفكي (يا أستاذ علي نحنا الموضوع ده ما دفناهو سوا).

من يومها عرفت أن ود الفكي في ذلك الصباح تحديدا كان في (دافنة الحقبة الديمقراطية). كنت أظن أنه ديمقراطي مستنير طلع انقلابي خطير. إن بعض الظن إثم!!.الحقيقة, أن ديمقراطيين كثرا اليوم قابلتهم يمتطون الكلاشنكوف والسيارت ويقودون المصفحات!!. علمت من الأستاذ محبوب عبد السلام الذي كان في باريس يومها، أن الأستاذ علي عثمان كان قد دعا ماجد يوسف (الأمين العام لمفوضية الدستور الآن) في صباح ذلك اليوم الأغر للإفطار معه الساعة العاشرة صباحا تحديدا وقت إذاعة البيان الأول، أي حين كان الأستاذ علي عثمان يتغدى بالقوى السياسية، أفطر ماجد بمقلب لطيف. تستاهل.

(2)

غادر الصديقان محمد طه والمطيب امتداد ناصر صوب صحيفة الراية التي كان مقرها بنمرة 2. كان هدفهما أخذ متعلقاتهما الشخصية من الصحيفة، قبل أن يسيطر عليها جماعتهم من الانقلابيين. عرفت بعد ذلك أنهم وصلوا إلى دار الصحيفة (وكانت خلا). لملموا ما استطاعوا من أدراجهم وهموا بالمغادرة في تلك اللحظة تم القبض عليهم وأطلق سراحهم بصعوبة فعادوا أدراجهم يبحثون عني.

(3)

أنا كنت في شأن آخر. إذ توجهت الى منزل أحمد سليمان (أبو سلمون كما كنا ندعوه) بالمنشية. كان منزل أحمد سليمان قبلتنا في الأمسيات وكانت داره شبيهة بمنزل ومسطبة أستاذنا محمد علي حامد اليوم بامتداد ناصر، إذ نتطوف عليهما فنستمع إلى التحليلات السياسية وأخبار دهاليز المدينة والتعليقات على الصحف. كان (أبو سلمون) نجما فى سماء الديمقراطية الثالثة كما كان فى الأولى والثانية. سنفتقده فى الرابعة (الرابعة واقعة.. زمان زمن الورق كانت الثالثة واقعة). لم أعرف شخصية احتفظت بنجوميتها وبريقها خمسين عاما كما أحمد سليمان. ما دفعني للتوجه إلى منزل الأستاذ هو ما كان يقوله لي باستمرار (الانقلاب قرّب)!! وحينما كنت أسأله عن من (سيقلبها) لا يزيد عن كلمة (أصبر)!! في آخر مرة يبدو أن صبري وصبره نفد فقلت له منو يا أستاذ؟.. (اصبر حن….)!! رحمة الله عليه كانت له عبارات خاصة لا يمكن أن تكتب هنا!! المهم عرفت من هذه الكلمة أنهم (هم) من سيفعلون ذلك!!. فذهبت لأسمع حكايات الانقلاب منه، إذن لابد أنه يعرف التفاصيل والمعلومات الدقيقة. الغريب أن كثيرين بعد ذلك ممن كانوا داخل مطبخ الانقلاب قالوا لي إن أحمد سليمان كان برة الشبكة في الانقلاب. يقيني أن أحمد سليمان كانت لديه معلومات من مصدر قريب أظنه الترابي شخصيا.

(4)

وصلت منزل أحمد سليمان دغش والدنيا (لسا صانة) وجدت الباب مواربا، دفرت الباب وخشيت (أنا ما شي راجع لي بيوت

تفتحلي ادق

أو ما أدق

من غير تقول الزول منو

ولا حتى عل الداعي خير

لا مالك الجابك شنو

بيوت بجيهن أي يوم

إن جيت ليل إن جيت دغش

طوالي ادفر الباب اخش)

نعم يا حميد هذا وطن مدهش ونحن به مفتونون يريد الساسة أن يفسدوه علينا بألاعيبهم الصغيرة. في يوم كذاك الباب مفتوح (باب منزل أحمد سليمان) تدفر تخش دون أن يوقفك أحد ودون أن تحس بأنك مخطئ!!.

بالداخل وجدت نعيمة زوجة أحمد سليمان وهي ست فاضلة احتملتنا نحن الضيوف الدائمين الثقلاء على مائدة وجلسات الأمسيات في نجيلة منزلها. اسقبلتني كعادتها باسمة، وعرفت أنني جئت أسأل عن الأستاذ، فقالت: (طلع من بدري وما عارفاهو مشى وين). عرفت منها أن أحمد سليمان كان مجهز شنطة السجن ولم ينم في تلك الليلة حتى الفجر، حين طرق أحدهم باب المنزل فقال لها: (يا نعيمة امرقي الشنطة الجماعة جو يبدو إنو القصة باظت).

ولكن الذي حدث هو أن أحد أقرباء نعيمة وهو طيار رجع من المطار، وجاء إلى المنزل بالمنشية ليخطرهم بأن هناك انقلابا في البلد. ومن لحظتها خرج أحمد سليمان بعربته لجهة غير معلومة. كانت نعيمة متأكدة أنه لم يعتقل، ولكن هي لا تعرف أين هو. أنا عرفت بعد دقائق.

(5)

غادرت منزل أبو سلمون إلى منزل الترابي الذي لا يبعد كثيرا عنه. لم أجد شيئا غير مألوف أمام المنزل ولكن أحدهم أشار عليّ بأن أتخارج من المنطقة، وأضاف قائلا: ولله يا أستاذ (أحمد سليمان هسع جا هنا منعناهو يدخل!!) إذن أحمد سليمان كان هنا طيب أين هو الآن؟.

قبل أن أغادر رأيت رجلا منسلا من المنزل ومسرعا إلى عربة فارهة تخيلته دفع الله التوم، إذ كان جليسا دائما في صالون الترابي. ولكن بعد ذلك أنكر دفع الله أنه ذلك الرجل، وللتأكيد أخرج لي ورقة صغيرة من محفظته بخط الترابي ينصحه فيها أن يغادر السودان قبل الثلاثين من يونيو وألا يعود إلا بعد أن يسمع خبرا!!. قال لي: بناء على النصيحة غادرت السودان إلى الإمارات ولم أعد إلا بعد أن سمعت وعرفت وتأكدت أن صاحب النصيحة هو صاحب الانقلاب!!. حكمة والله وحكاية.

(6)

خرجت من المنشية بلا هدى، لا أعرف إلى أين أتجه لأطارد الأخبار والحكايات. في الطريق توقفت عربة كان داخلها أحد أقربائي كان ضابطا بالسجون (لن أذكر اسمه فلقد حذرني بعد المقال الأول أن أجيب سيرتو) فصعدت العربة وهو يسألني: ماشي وين؟ فقلت له محل ما ماشي إنت!!، فاستغرب أمري وقال: (أحسن تمشي بيتكم الدنيا مكركبة)! فقلت له: منو الكركبا؟ كنت أعرف أن له علاقة بالجبهة. نظر لي شزرا وصمت. أقنعته أنني لأمر عاجل لابد أن أصل الختمية، وألفت قصة لا أذكرها. كنا قد وصلنا لمدخل كوبري بري فتوقف وتحدث مع ضابط على الكوبري فسمح لنا بالعبور.. في ذلك الوقت بدأ الشارع يتحرك ويصحو قليلا. عبرنا الكوبري في اتجاه كوبر، بعد الصينية شاهدت شخصا يجلس في كرسي أمام منزل الرشيد الطاهر بكر، شككت أنه أحمد سليمان ولم أستبن ملامحه. عرفت منه بعد ذلك أنه هو فعلا. فماذا أتى بأبو سلمون لمنزل الرشيد الطاهر بكر في ذلك الصباح؟ وماذا كان يفعل؟ حكى لي أبو سلمون – رحمة الله عليه – قصصا تستحق أن تروى!! نلتقي في الحلقة الثالثة إذا مد الله في الآجال.

عادل الباز
من أرشيف الكاتب

‫6 تعليقات

  1. أكرر الشكر والتقدير الأستاذ عادل الباز فقد بدأت الصورة تتضح لكن الذي يحتاج لتوضيح أكثر من البطل الحقيقي الشيخ الدكتور الترابي عليه رحمة الله أم الأستاذ الداهية على عثمان ؟ ..في إنتظار المزيد

  2. سؤال لم يتطرق اليه أحد وهو ما سبب اختيار علي عثمان للعميد عمر بشير
    ليكون رئيسآ للانقلاب رغم تواضع مقدراته. هل كان علي عثمان يعرف باشياء مخزية عن عمر بشير منذ ان كان طالبآ بمدرسة الخرطوم الثانوية
    واستمرت معه وهو ضابط بالمظلات وذلك حتى يمسكه من (يده البتوجعه).
    عمر بشير لم يكن له صوت او قرار لمدة ١٠ سنوات وحتى عندما قام بتعيين صديقه ورفيقه الحميم جدآ م.ح. م. كمدير لهيئة النقل النهري، قام
    علي عثمان بالقاء القرار فورآ.

  3. سؤال لم يتطرق اليه أحد وهو ما سبب اختيار علي عثمان للعميد عمر بشيرليكون رئيسآ للانقلاب رغم تواضع مقدراته. هل كان علي عثمان يعرف باشياء مخزية عن عمر بشير منذ ان كان طالبآ بمدرسة الخرطوم الثانوية واستمرت معه وهو ضابط بالمظلات وذلك حتى يمسكه من (يده البتوجعه).
    عمر بشير لم يكن له صوت او قرار لمدة ١٠ سنوات وحتى عندما قام بتعيين صديقه ورفيقه الحميم جدآ م.ح. م. كمدير لهيئة النقل النهري، قام
    علي عثمان بالغاء القرار فورآ.

  4. كلام لاقيمة له .. ( بلا ودرت زمنا .. !! ) الى ماذا ترمى ..؟ هل لتسوقنا بارشيفك هذا – الباز – لتأكيد ان الكيزان هم من صنعوا ونفذوا الإنقلاب الشؤم أم أن لتتفى ذلك .. ؟؟ وفى الحالتين ( شكر الله سعيك ) والضرر والدمار الذى لحق بنا ماتتوصل إليه ولا مئات السنين القادمة لن يجبره إذ الجرح أعمق من ذكرياتك التى تأت فيها بذكر شخوص مثيره لحالة غثيانٍ وكوابيس مرعبة نتعافى منه .. وكان مهر التعافى غالياً .. دماً ودموع .. وتخيل الباز أنك فى حضرت قتيل وتذكر مجرد إسم القاتل وبشغف .. !!
    رجاءً إجتر ذكرياتك تلك لنفسك قد يكون لك فيها مآرب او ربما تجد فيها سلوى .. فهى قطعاّ لاتلزمنا .

  5. فعلا ذكريات تافهة لن نستفيد منها شيئا فنحن عاصرنا الانقاذ منذ يومها الاول وحتي يوم موتها فطيسة يعني بالعربي نحن عندنا التأريخ الطازج مش مذكراتك يا با باز.

  6. مذكرات فجة لا تضيف لارشيف القتل اوالسحل الذي مارسته الانقاذ طيلة الثلاثين سنة شيئاً سوي فجاجة ذكريات وانت تحكيها بتلذذ وكأنك تريد ان تطربنا بها فلتذهب انت وذكرياتك الي الجحيم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..