محجوب محمد صالح .. قليلا عرفته

عادل إسماعيل
قبل نحو عام ، أو يزيد قليلا ، وأنا في منازحي المختلفة في السودان ، دخلت إحدى مراكز التدريب المهني بمدينة القضارف ، وسألتهم ما إذا كان بإمكاني استخدام شبكة الإنترنت لديهم . فلم يتسن لي متابعة العديد من المسائل منذ شهور حينها . فرحبت بي إدارة المركز ووفرت لي جهاز لابتوب متصل بالإنترنت . وما أن بدأت تصفحي على الأخبار ، حتى صفعني الخبر: رحيل محجوب محمد صالح . فغم علي غما شديدا . ولبرهة ، جعلت أفكر في لا شيئ . فمحجوب محمد صالح من الناس الذين تتمنى ألا يموتوا ، خصوصا في أوقات الأزمات الوطنية المربكة . فمجرد أن تتذكر أن محجوب محمد صالح موجود ، يغشاك قدر من الطمأنينة أن هناك صوتا وصدى عاقل وموزون في السودان يمكن له يهدئ هذا الفوران المجنون .
كنت في بداية الألفية ، وأنا عائد من الجمهورية اليمنية ، أنشر مقالاتي في صحيفة الأستاذة الشجاعة أمال عباس (كان اسم الصحيفة “الرأي المختلف” أو شيئا يشبه هذا الاسم) ، ولكن توقفت تلك الصحيفة عن الصدور . ثم اتجهت لنشر مقالاتي في صحيفة “الحرية” التي كان يرأس تحريرها الأستاذ سعد الدين إبراهيم ، ولم تلبث أن تتوقف عن الصدور هي الأخرى . وبالرغم أن صحيفة خرطوم مونتر التي كان يحررها الفريد تعبان كانت تنشر مقالاتي بانتظام ، إلا أن محدودية قرائها دفعني للبحث عن الصحف العربية حيث كنت استشعر أهمية ما أطرحه في مضمار المناداة بالتغيير بكلفة محتملة وزمن معقول لإنجاز هذا التغيير .
وجعلت أطوف على الصحف التي تصدر في الخرطوم وكانت كثيرة ، وكنت أقابل رؤساء تحريرها في مكاتبهم الكبيرة ، وأناولهم مقالي الذي كتبته ، ولكنهم كانوا يتحججون بأن هذا المقال فوق مستوى القراء لذلك لا يمكن لهم نشره !! وبالطبع أدركت لاحقا أن المقال ليس فوق مستوى القراء إنما فوق مستواهم هم .. ولا عجب أن شهدت تلك الفترة رؤساء تحرير أتت بهم الصدف أو الغفلة أو الإثنين معا .
وفي حيرتي تلك ، التقيت مصادفة الأستاذ الفاضل حيدر المكاشفي ، فناولته المقال الذي كنت أود نشره فقال لي إن هذا المقال مكانه “الأيام” ، وكلف إحدى الصحفيات بتسليم المقال للأستاذ محجوب محمد صالح . و منذها ظلت “الأيام” تنشر مقالاتي لما يزيد على عشر سنوات.
كنت التقي الأستاذ محجوب لماما عند زيارتي لصحيفته ، فقد كنت اكتفي بتسليم المقال للأستاذ وائل محجوب ، وهو صحفي عميق الانتباه يفوق عقله سنوات عمره بكثير . ثم أدلف إلى مكتب الكاتب الكبير الراحل تاج السر مكي وغالبا ما أجد في معيته كاتب العمود الأستاذ محمد موسي حريكة .
كان مكتب الأستاذ محجوب محمد صالح عند المدخل يمينا وعلى المخرج يسارا . وقليلا ما كنت ألقى عليه التحية عند مغادرتي لمبنى “الأيام” . وكان ينتابني كثير من الضجر المخلوط بالحيرة وأنا أرى شخصا واسع الذهن كمحجوب محمد صالح يجلس في مكتب ضيق ، بينما أتذكر رؤساء تحرير ضيقي الذهن يجلسون في مكاتب واسعة .. شيئ عجيب ورب السماء والأرض وما بينهما !! .
كان محجوب محمد صالح واسع الذهن حاده ، غزيز المعرفة طيبها ، قاسي العبارات لطيفها . ولعل الصفة الأخيرة هذه ، هي ما تميز بها الأستاذ محجوب محمد صالح عن كل الكتاب في الصحافة السودانية وغير الصحافة السودانية . وهي صفة فريدة تكاد تكون بصمة خاصة به . فمحجوب محمد صالح يمكنه أن يكتب بأقسى العبارات لكن من دون تجريح ، وأقوى العبارات من دون صراخ !! وهو ما جعل كل الأطراف تصغي له ، بل لعله السبب الذي جعل تحالف المعارضة يرشحه لمنازلة مرشح “المؤتمر الوطني” في انتخابات 2015م ، وذلك قبل أن تقرر المعارضة التصويت بأرجلها كما جرت العبارة . و أذكر في تلك الأيام أن “الأيام” نشرت خبر الترشيح هذا في ربع عمود ببنط عادي !! ولك أن تتصور ، يا ابن ودي ، لو كان الترشيح لأحد رؤساء التحرير الأجوفين هؤلاء ، إذن لقعقع في صماخك رعد الأنا المتورمة ، ولكن محجوب محمد صالح كان له نصيب وافر من تواضع كبار المثقفين السياسيين .
كان محجوب محمد صالح يدرك أنه ليس صحفيا عاديا وإن كان قديرا كما وصفه الدكتور منصور خالد معلقا على منتقدي اتفاقية نايفاشا الذين أضافوا لها ملاحظات مهمة وبناءة كالدكتور محمود شعراني على حد تعقيبات منصور .. فقد كان محجوب يدرك أنه صاحب رؤية سياسية ناضجة نحو التحول الديمقراطي وإرساء دعائم الحكم الرشيد في السودان وفي محيط السودان وامتداداته يعبر عنها عبر نشاطه الصحفي ، ويدرك أن السياسية إنما هي علم إدارة شئون الناس . وعبارة ناضجة ، هنا ، تعني واقعية . فقد كان يبني تصوراته على ما هو ممكن ومتاح في الفعل السياسي. على سبيل المثال ، إن كنت تعتقد أنك إن تريد مزيدا من الحرية ، عليك أن تملأ ما هو متاح منها ، وهو الحيز الذي أتاحته اللحظة السياسية الحاضرة في إشارة منه إلى اتفاقية نايفاشا ، مصوغا استئهالك المزيد منها . كما أنه لم ييأس من تذكير القوى السياسية بضرورة إصلاح حالها والتحرك في المساحة المتاحة . وأذكر أن أحد القراء أرسل له رسالة ، نشرها الأستاذ محجوب في عمودة “أصوات وأصداء” ، يقول فيها القارئ إنك يا أستاذ محجوب تنفخ في قربة مقدودة ، ورد عليه محجوب بأننا ليس أمامنا إلا أن نظل ننفخ في هذه القربة المقدودة !! .
كان محجوب محمد صالح يوظف معارفة الغزيرة لخدمة مشروعه السياسي في التحول الديمقراطي في السودان وفي المنطقة. على سبيل المثال ، عندما نشبت أزمة سد النهضة الأثيوبي ، لم يكتف بترديد “علينا تحويل التحديات إلى فرص” بل شرح الأمر بأكمله في مقالات رصينات كان المقال الواحد منها يحتل صفحة كاملة ، لو أستوعبتها إدارات دول حوض النيل لكفتها جهدا كبيرا ووفرت عليها زمنا كثيرا ولاستفادت شعوبها وعاشت في سلام ورفاهية أجمعين . ولو كان هناك جهة مسئولة عن حفظ إرث محجوب لحق عليها جمع هذه المقالات في كتيب وإهدائها لإدارات دول حوض النيل ومن ثم نشرها في دوريات الاتحاد الأفريقي والدوريات المتعلقة بالنزاع حول المياة وعلى رأسها الدورية الدولية المختصة بمسألة المياه التي كان يرأس تحريرها عالم قانون المياه السوداني الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان .
كان محجوب محمد صالح سخي العطاء في توجيه الكتاب وإرشادهم بالطريقة المثلى لمواجهة تحدياتهم دون إملال . أذكر أنه طلب مقابلتي ، وذهبت إليه في مكتبه ، وطاف بذهني ذات الطائف: الرجل الكبير في المكتب الصغير . حياني الرجل ، وقال لي بصوت هادئ إن فرع التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة قد حرر بلاغا ضدك بسبب مقالك الأخير . (جرت العادة أن يتم استدعاء كاتب المقال ورئيس تحرير الصحيفة التي نشرته) . وقال لي إن البلاغ حرر تحت بند الجرائم الموجهة ضد الدولة (كان فحوى المقال أنني طالبت بلجم جنرلات المؤسسة العسكرية الذين يتحرشون باتفاقية نايفاشا) . وقدم لي نصائح غالية في التعامل مع موضوع البلاغ وزودني بمعرفة قانونية في التاريخ السياسي في السودان كنت أحتاجها كإضراب قوات البوليس من العام 1951م ، ثم طلب مني لقاءه قبل يوم محاكمتي . كما وفر لي المحامي الكبير عمر شمينا في مرحلة لاحقة من تطور القضية رغم علمه إن لي محاميين كانا يتابعان أمر البلاغ وهما الأستاذ غازي سليمان والدكتور محمود شعراني . وكانت تقديرات محجوب في مكانها في هذا الصدد . لهم الرحمة والبركة أجمعين .
ولعل محجوب محمد صالح امتلك روح الأستاذية في وقت مبكر من حياته العملية ، ووظفها توظيفا جميلا في تعليم المشتغلين بالصحافة ، وبث فيهم روح المسئولية عند الكتابة وكان يقول كلما زادت ثقافتك زادت معها مسئوليتك تجاه مجتمعك . كما عرفت أنه عمل في التدريس بالفعل في أربعينات القرن الماضي . فقد أخبرني وكيل مكتب بريد وبرق مديرية النيل الأبيض السابق ، السيد إسماعيل البشير تناد ، وهو والد الكاتب ، إن محجوبا كان يدرسهم اللغة الإنجليزية في معهد البريد والبرق بالعاصمة الخرطوم . وكانت معروفة أهمية البريد والبرق في ذلك الزمن بالنسبة للحياة السياسية والاجتماعيه في السودان ، حيث كان ثوار الحركة الوطنية يتواصلون عبرها وينقلون زخم حركتهم للمدن السودانية عبرها ، كما كان عبقري الفن إبراهيم الكاشف يستوحي اللحن منها من نقرات التليغراف ، حبيبي أكتب لي وأنا أكتب ليك ..
اللهم يا سيد الأكوان والأبدان ، يا أيها المتناغم الجميل الممتد ، القديم الجديد المتجدد ، الواحد الأحد اللامنقسم ، أرفع محجوبا مقاما فوق مقامه إنك أنت الرافع المقيم .