أخبار السودان

الليبرالية المستحيلة مرة اخري .. تعقيب علي تعقيبات الافندي

عبد العزيز حسين الصاوي

حرصي البالغ علي التحاور عاجلا مع القضايا الهامة التي أثارها د. عبد الوهاب الافندي ( جريدة القدس العربي تاريخ 18 فبراير، ثم الصحافة والقرار السودانيتين ) في تعقيبه علي ماتيسر لي من إنتاج فكري، حالت دونه عودة شتوية للسودانتزامنت مع نشر التعقيب، ومااقتضاه ذلك من مشاغل سودانية معروفة لاتنتهي إلا لتبدأ . مايسمي في الثقافة الغربية ” الوقت النوعي QUALITY TIME ” المخصص كلية لغرض معين، أستكمل انعدامَه في طريقة الحياة السودانية وفود الموبايل اليها فتحولت الى منطقة معادية لاي جهد يتطلب التأمل والتركيز. علي كل حال نوعية القضايا المثارة من قبل الاخ عبد الوهاب الافندي كانت وستظل موضع حوار متصل وضروري رغم كل المعوقاتلانها تدخل تحت الاطار العريض للعلاقة، أو عدمها، بين ( العلمانيين ) و (الاسلاميين ) ، والاقواس تشير إلى ما سيتضح في هذا المقال لاحقا من حاجة المصطلحين للتدقيق بما يجعل للحوار قيمة عملية بقدر مايغدو حوار مثقفين فقط لاغير، وإن كان هناك عدم تكافؤ بين طرفيه في هذه الحالة بالذات. احدهم مثقف قيادي بشهادةموقعه المتميز في الحياة الثقافية السودانية والعربية،ومتخصص أكاديميا درسا وتدريسا وفق المقاييس البريطانية، والثاني يصنف نفسه ناشط ثقافي- فكري أيا كان معني هذا المصطلح.

يستهل د. الافندي الجزء الاساسي من تعقيبه بتلخيص دقيق لما تيسر للصاوي إنتاجه حول أطروحة العلاقة بين الديموقراطية والاستنارة. وتستند محاججته النقدية للاطروحة باعتبارها نموذجا لعجز العلمانيين عن إدراك أسباب ضعف التيار الديموقراطي الليبرالي:” وهي أسباب ذاتية تتعلق بغربته عن بيئته العربية وعدم تعامله الإيجابي مع التراث الإسلامي.( ….) فإشكالية التيارات العلمانية عموماً هي محاولتها القفز على الإسلام وتجاهله تماماً (فهي …. ) لاتجرؤ على نقد الإسلام جهراً ولا تريد أن تستنطقه لدعم مشروعها”.

انعدام الجرأة حقيقة قائمة فعلا لها تاريخ طويل يمكن اختصاره علي النحو التالي : بعكس اوروبا، الدين لم يطرح نفسه سودانيا كمعوق رئيسي لتيارات التحديث السياسي والاجتماعي التي استوي عودها عشية الاستقلال،لاسباب متعلقة أساسا بطبيعة الاسلام اللاكنسية وبطبيعة هذه التيارات نفسها. وقتها الاشتراكية كانت نداء العصر الكاسح وكافية بهذه الصفة لاطلاق موجة يسارية عارمة مما أضعف الاحساس بالحاجة الى معالجة معمقة للموضوع الديني من منظور الماركسية والعلمانيين عموما. علي ان المصدر الرئيسي لغياب هذا النوع من المعالجة عهد ذاك وحتي الان هو حالة الركود الحضاري التاريخي الايلة إلى ضعف تقاليد وممارسات النقد المفتوح في المجتمع التي ترسخت اوروبيا بمخاضات عصر التنوير. هذا مايفسر عجز التيارات الاشتراكية ماركسية وغير ماركسية،قومية وغير قومية، عن الانتباه الي الضرورة المستقبلية لتلك المعالجة وكذلك عن توليد عملية نقد ذاتي تحصنها ضد الانهيارات التي ضربتها في الصميم، ابرزها هزيمة 67 العسكرية وفشل نماذجها التنموية ما أدي لانهيار انظمتها السياسية مع سقوط حائط برلين في نوفمبر 89. نفس هذه الحالة هي التي تفسر عجز تيارات الاسلام السياسي بدورها عن المعالجة الجدية للموضوع الديني من منظورها الخاص عندما جاء زمانها في مابعد. فهي استلمت الساحة السياسية والفكرية نتيجة إخفاقات التيارات ( العلمانية ) وعوامل اخري اهمها في السودان انفجار الحاجة الجماعية للدين الخام إثر الانهيارات المعيشية منذ اواخر السبعينيات،خالية من محفزات وتقاليد النقد الجذري فكان ان طغت عليها موجة شعبوية أنبتت مشانق معنوية ومادية ألغت لاكنسية الاسلام فعليا، حتي قبل ان ترفع هذه الموجة أكثر أجنحة تلك التيارات تطرفا الي السلطة عام 89.

هكذا اقتصر نقد الناقدين إسلاميين وغير إسلاميين عموما علي ممارسات الاسلاميين السياسية وغابت الجرأة المتعلقة بأنتاج مقاربات تفسيرية للاسلام تخالف النمط السائد والمقبول لدي النخب والعامة علي السواء لاسيما فيما يعتبر ثوابت الاسلام والنصوص القطعية الدلالة. مع ذلك، نجد إلي جانب محمود محمد طه وفرج فوده ومهدي عامل وحسين مروه ممن ذهبوا ضحية تلك الموجة، دراسات نصر ابو زيد ، محمد اركون، جمال البنا، القمني، الجورشي، الجابري، طرابيشي وغيرهم في حقل ذلك النوع من المقاربات، ولكن حالة ماقبل- الاستنارة حدت من قدرتها علي إحداث الاختراق حتي وسط النخب. وبينما تنتمي بعض دراسات د. الافندي نفسهالى هذا الحقل ، فأن إسلاميته لم تحمه من رشاش موجة الاسلام الشعبوي، ففي مقال بتاريخ 5 يناير 2011 وصف كيف ووجه كتابه حول مفهوم الدولة الاسلامية بانتقادات عنيفة أوشكت ان تصم صاحبة بالخروج من الملة.

لدي صاحب هذا المقال تقدير كبير لشجاعة عبد الوهاب الافندي الادبية واسهامه المشهود في إثراء الحقل الفكري والاكاديمي، أوقعه في خلافات مع بعض من أقرب أصدقائه الفكريين والسياسيين الذين لايعترفون بتبدل موقفه من النظام السوداني، ولكنه يزعم أيضا انالافندي فرض علي نفسه قيوداً ذاتية يمكن ملاحظة آثارها بصورة أوضح عندما كرس كتاباته الصحفية مؤخرا لشق طريق جديد للحركة الاسلامية. ففيما يبدو انه حرصٌ علي إبقاء الجسور مع المنتمين الي الحركة قاعديا في الوقت الذي يفترق فيه عن معظم قياداتها، جنح اسلوبه في الكتابة الى التقليدية مايتجلي في الاكثار من الاستعانة بالنصوص والاستشهادات القرانية والحديثية بالمقارنة لما سبق.

في نفس الكتاب المشار اليه الصادر اصلا باللغة الانجليزيه عام 1991 ولم يترجم الى العربية إلا عام 2011 ( هل لهذا صلة بمشكلة الجرأة ؟ ) ويطرح رؤية متطورة لمفهوم الشريعة، يشترط المؤلف سيادة مناخ الحرية والديموقراطية لنشوء فهم سليم للاسلام، وهو عين ما تستهدفه كتابات الصاوي مضيفا إليها فكرة العلاقة مع الاستنارة بمعني سيادة العقلانية وقابلية الانفتاح علي الافكار وطرائق الحياة الجديدة، مستوحيا في ذلك تجربة عصر التنوير الاوروبي ولكن بتوضيح لكيفية إعادة إنتاجها ضمن ظروفنا التاريخية المختلفة جذريا. حتي عندما يتحقق هذا الشرط فأن الفجوة بين اهتمامات ومشاغل المثقفين والسواد الاعظم من افراد المجتمع ستظل قائمة وإن بمستوي أقل كثيراً من مستواها في ظل اوضاعنا الراهنة، تتسع وتضيق إنعكاسا لحجم الفجوة بين الريف والمدينة بصورة رئيسية. يعني ذلك ان الامر لاعلاقة له بما ينسبه الافندي الي مجموعة من المفكرين العرب وغير العرب مموضعا الصاوي بينهم، من عدم صلاحية التربة العربية لاستنبات الديموقراطية، فهي في تقدير المذكور مرحلة تاريخية وليس خاصية سلالية سرمدية.

المسألة إذن ليست غربة دعاة الليبرالية بالذات، كيف ماكان تعريفنا لهذا المصطلح وتاليا تصنيف الصاوي كواحد منهم،وانما تنطبق علي جميع من ينفلتون فكريا وفلسفيا من مدار نوعية الاسلام والاسلاميين التقليدي المهيمن علي الفضاء العام حتي لو اختاروا لانفسهم صفة إسلاميين، علما بأن د.الافندي لا اعتراض لديه علي مصطلح ” الاسلام الليبرالي. ففي مقاله بتاريخ 16 يوليو 2012 بعنوان” صيف الليبراليين العرب بين طرابلس والخرطوم، جريدة القدس العربي” يدعو الي تنمية قوي تجمع بين الاسلام الليبرالية يطلق عليها إسم ” الليبراليون الاسلاميون “. بيد ان هؤلاء سيواجهون نفس المصير الذي حاق بالليبراليين غير الاسلاميين لامحالة إذا بقوا غافلين مثلهم عن الأصل العميق لإشكالية التواصل مع المجتمع العريض. قد يستغرق الامر وقتا أطول بالنظر لقوة تأثير العقيدة الدينية في تكييف تصرفات الانسان ولكنهم سيلقون نفس المصير بينما يبقي الاسلام نفسه كعقيدة إيمانية متعرضا لعوامل التعرية الناجمة عن ( تمثيله ) بواسطة أهل التطرف سنة وشيعة. وفي انتشار تيارات الالحاد الفلسفي وغير الفلسفي ما يشير الي ذلك فخروج الشابة نهلة محمود بقناعاتها اللادينية المستجدة إلي العلن ليس إلا رأس جبل الجليد العائم.

من النقاط الفرعية في مقال د. الافندي التي تتطلب التصحيح قوله بأن الصاوي اتهم القوى التقليدية من قبلية وطائفية ونظائرها بأنها المسؤولة عن انهيار الديمقراطية في السودان بينما برأ ساحة القوي الحديثة والمستنيرة. العكس هو الصحيح تماما فقد بلغ من تحميل المذكور مسئولية الانقلابات لتلك القوي بالذات إنه خرج بفكرة تقول ان شمولية ايديولوجية اليسار الاشتراكي الشيوعي وغير الشيوعي، بما فيه البعثي لاحقا، إبان هيمنتها علي عقلية النخب السودانية التي وصلت ذروتها في ثورة اكتوبر 64 ، هي التي هيأت عقلية هذه النخب لاستقبال الطبعة الاسلامية للشمولية عندما حلت دورتها.( أنظر، مثلا، صفحة 53 من كتاب ديموقراطية بلا إستنارة، مركز عبد الكريم ميرغني، مقال بعنوان ” اكتوبر 64 كثورة مضادة للديموقراطية” ).وبالمناسبة الاسلاميون أنفسهم كانوا إشتراكيين خلال تلك الفترة فكتب مرشدهم السوري مصطفي السباعي كتابه الشهير ” الاشتراكية والاسلام ” عام 59.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هذا حوار خصب. بس هل تنتظر افعال الواقع افكار النخب؟ اما جمهرة الناس من (امثالنا) فستظل جالسة في فناء اسلامها”كما ورد اليهاوكما تفهمه” من مهدها الى لحدها. ولن تحفل ب”نباح” المثقفين. حتى تقضي العولمة أمرا كان مفعولا.وشكرا

  2. وضع ( الإنقاذ ) في السودان كوضع أي جماعة دينية تصل للسلطة الدنيوية هو الوضع الكنسي الأوربي مع بعض الفوارق التاريخية , فهاهي السلطة في أيدي رجال الدين الذين تخفوا في ثياب عسكرية , وهذا هو المال والإعلام وكل منتجات وأفكار العالم الأوربي الذي إنفصل من سلطة الكنيسة الغاشمة وحولها مع مرور الوقت إلى عقل يوافق ويناقش ويرضى بمرجعيات عقلية حيث إنفتحت النصوص القديمة للتفسيرات والمبررات الحديثة .
    فاقت الدولة ( الكنسية ) الجديدة بإسم الإسلام الذي يرفض ( الكهنوت ) في إيران والسودان الدولة الكنسية الأوربية القديمة في كل شيء بإمتلاكها منتجات العلمانية المادية والفكرية بحسبانه نشأت بعد الإستعمار , فهي تحاول بلا وعي أن تكون علمانية وبوعي أن تكون دينية في نفس الوقت, وبديمقراطية حقيقية سيتغلب الجانب الحديث من الدين متحدا مع الجوانب العلمانية التي لا تتناقض مع حقوق الإنسان وضرورة التقدم والتخلي عن منجزات وأفكار العصور القديمة التي أنجزت مهامها كلها إلى عصر التنوير , ومن ناحية أخرى أثبت الدين بعد الإستقلال وبوصفه تكوينا فكريا منفلتا بلا سلطة روحية تتجسد في كنيسة مثلا _مما جعل كثير من المفكرين يتجهون لنقد الجماعات الدينية كمدخل أولي لنقد بنيات الدين فيما بعد _ أثبت أنه أكثر خطرا مما لو كان داخل سلطة ( كنسية ) متوارثة لها رقعة جغرافية كسلطة ( البابا ) في أوربا , فأخطر ما في الإسلام وأكبر عوائقه التحديثية أنه ليس نظاما ( كهنوتيا ) له مرجعية واحدة , يمكن السيطرة عليها , وتوجيهها , فتحديث المجتمعات الأوربية في كثير من النواحي لم تقم به الجماعات العلمانية والليبرالية لوحدها وإنما في جزء منه قامت به الكنيسة ولكن بعيدا عن السلطة السياسية والفكرية وتحولت لبرلمان يدفع الحداثة إلى الأمام ولا يقف في وجه تقدمها ولعدم وجود الكهنوت الكنسي في الإسلام سعى الجميع بما فيهم القاعدة لخلق هذا الكهنوت بالإنقلابات العسكرية بعيدا عن التنوير والعقل وهذا ما يفسر التضاد بين الدين والعقل ويفسر الإنقسام بين التيارات العلمانية والدينية .
    المقاربات التفسيرية للإسلام التي تخالف السائد كثيرة ومتوفرة , وكان نقد ممارسات الإسلاميين فقط مدخلا لها لتقديم رؤيا للإسلام من الداخل ولنصوصه التشريعية ولفهم هذه الجماعات له , وليس المطلوب هنا وفي عالم شمولي معصوب الأعين القبول لدى النخب والعامة لهذه التفسيرات , لأن لكل الأفكار من يعارض ومن يناصر , ومن أضخم محاولات العصر التجديدية بعد المرور بكل من ذكروا في المقال من فرج فودة ومهدي عامل إلى محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي هي محاولة الأستاذ محمود محمد طه في التجديد من داخل الدين وفي إبراز صورة أخرى للإسلام لا بديل عنها في عالم اليوم , ومن داخل العصر بإيمانه بالرأسمالية والإشتراكية معا على الرغم من إستحالة ذلك لتحويره للإشتراكية إلى مثالية صوفية, وقدم فرج فودة نقدا صاخبا للإسلاميين الذين رأهم في عصره كممثلين للإسلام الذي يقرأ عنه في الكتب وكانوا بالتالي الأداة التفسيرية والنموذج الحي الذي يعرف به صلاح الأفكار وسقوطها داخل الإسلام نفسه , وفعل ذلك سيد القمني وحسين مروة وكثيرون غيرهم فقدموا نقدا تاريخيا قيما يسرته أعمال المستشرقين وأعمال اليساريين كما إتجه علماء جامعات تخصصوا في النقد التاريخي والديني لتفسير أصول الدين وضرورات الإيمان .. إلخ

  3. طلب رجل من خياط أن يجري له تعديلا على جلابيته و قال ضمن ما قال إنها قصيرة و تتطلب تطويلا شريطة ألا تبدو الوصلة و قال إنها ضيقة تتطلب توسيعا من غير إضافة قماش آخر حتى لا يظهر التباين و يكون جميلا لو أنه عدّل الكفة إلى برمة و أعاد دق العمود و قيطان الرقبة و حبذا لو أعاد للجلابية لمعانها و بريقها الأول

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..