نفايل الجنيه السوداني في القرية…(2)

نفايل الجنيه السوداني في القرية…(2)

حليمة محمد عبد الرحمن
[email protected]

المدخل الأول:نفايل الجنيه في قرية الأمس.. !!

ايهِ يا مولاي إيه
من حديث ٍاشتهيهِ

من السهولة العودة الي أطلال الماضي، لصعوبة الوقوف عند الحاضر. دعونا نكمل حكاية جنيهنا (الاوروباوي ) وإتكاءتنا علي ظلال زمانه، طالما جعلها الحاضر فسيحة و جذابة وجاذبة (اكثر من نيفاشا)..!

نُذَكِر أن هذه الحكاية تدور في إطار الجنيه السوداني والذي كان أب عاج الأحَوْ(الرئيس نميري) أول من بدأ تعويمه في السبعينات ولم تقم له قائمة منذئد. فعام وادمن العوم وكانت الاسعار هي الثابت الوحيد في صعودها الصاروخي ولله الحمد.
أما حفلنا الباذخ هذا قيد التوثيق، فقد كان مهره جنيها واحداً تم شراء (شيلة) العرس وجهاز العروس منه وتوفير الباقي..!! كان الجنيه على رمزيته، ميزانية قائمة بذاتها..

علي إيقاع دلاليكهن (المُخَنَقَة) كم صالت وجالت الحسناوات و(الدشناوات). كانت(الرتاين) هي مولدات ذلك الزمان ولمبات نيونه المضيئة والتي يخصص لها في الغالب، طاولة شديد الارتفاع وشخصا خبيراً، بإدارتها اليدوية، حيث يعمل جاهداً علي توفير الضوء، كأنما هو محمود شريف زمانه.

المسرح، كان أشبه ما يكون بمسرح الرجل الواحد..حيث تنصب (السباتة) في الهواء الطلق..و ترقص الفتيات في موسم (الدرت) الاخصابي، بغية الإبهار والامهار، وتغني المغنيات، اللائي غالبا ما يكن من نفس بنات المنطقة او المناطق المجاورة، مجانا، دون نقوط..كل ذلك مجاناً..

جدتي آمنة بت حمودة كانت من أشهر المغنيات، المرتجلات للشعر الغنائي في قريتها والقرى المجاورة. تصور في اغانيها ان كل العروسات مهما تفاوت مستوى جمالهن هن اميرات الحسن والجمال في جميع الاحوال،، سواء امهروهن جنيها او خمسين قرشا، والما عاجبو الحال فليعمل له طاقية في جيبه، كما يقال.

عالي فوق الهيول بِتْقَفا (أي يطوف فوق قيزان الرمال)
فوقو شِيَّم الرجال، بِخُبْ ما بِرْفا (أي ان مشيه وسط بين الإسراع الإبطاء)
الحُسَاد عينهم ندَّاية مِتـْل الطَرْفة
******
الكرم هيلو من زمان الجِد
ده رَحَل الكُحُل اب بيتاً مِرِدْ
فوقو نَنْتكي لسبعين جِد
وقولو للحُسَّاد كترو من الحِد
*******
من دي البلد مابْ قافي (أي يغادر دون سبب وجيه)
الليلة يوم دُخْلتي وزفافي
الحساد بِسَويلـُن مَشافي (أي يكويهم بالنار)
يا مدينة القنديل بقولِك عَوَافي
*******
يا مُنْضَرة العِلَب..
زُولِك عيان من دون سبب..
جابولـْنا الطـَلـَبْ..
وقالوا الكِمير إنخرب..
هاك يا زميل..

ثم عرجت الشاعرة على أغنية المهيرة…
يا مْ لسانن ما قال وقال يا أم ضميرا لـَفْ السجار
حكومة يا عروسنا…
الموت في شانِك حَلال

و لاحقاً في مناسبة اخرى، وبعد الانتقال من مرحلة (الرقص ومسك الحِجْبات) حيث ان قلة الملابس تثبت ان العروس شبه العارية صاخ سليم…كان تبكيت الضمير وجاء التصريح بتوريط العريس، وان معظم ما في العروس هو صنعة احدى ورش الجمال، هذا مع الاغفال العامد لصوالين العرسان المنتشرة في الالفية الثالثة في خرطوم اليوم الساونا الرجالية و(اللَخُوخة الفنجرية) او المساج على ايدي نساء بارعات في ذلك!

لِيلا لا
الجبون نَشُّوهو
والعريس غَشُّوهو
اما هو اما لا لا

(أي الجونلة الداخلية وقد وضع عليه الكثير من النشا ليزيد من انتفاخها حتى تبدو العروس كانها جينفر لوبيز زمانها)

كل هذه الهيلمانة والتظاهرة الشعرية والعروس ممهورة جنيها واحداَ (فكة).. عشرة ريال.. الريال ينطح الريال..!!

اربعين يوما بالتمام والكمال يتكفل فيها أهل العروس بتقديم وجبات الطعام الثلاثة وكيوفهن (مجانا) إلى اهل العريس، بينما يصل الإهتمام بالعريس إلى درجة المساج اليومي، شاملا وزرائه.. الدلكة او (اللخوخة، تسوي لــَخْ..لخ… لخْخْخْخْخْ) اربعين يوم كذلك. ولسان حالهم يقول باي باي أيتها الفلايت والفِقَر الواقْعة..!!

أمانة يا الجنيه ما سويت البِدَعْ..!!

علي إيقاع الدلوكة الحماسي عَرَضْ البدري ود عاشة، وكان مثار النقع فوق رؤوس القوم، كأنه ليل تهاوي كواكبه.. (عرض) وصال وجال وقد انتفخت أوداجه وبانت (عَنْقَرَته) الضخمة حتى قطع (مركوبه) الفاشري وهو يَرْتِب ويَتَعَقـَلْ دائراً حول إحدي الحسناوات..محنياً رأسه في حضرتها، راجياً منها أن تجود عليه (بشبال)، إنحناء من ضَيَّع في التُرْب خاتمه، قبل أن يخلع عراقيه ويقف بصدره العاري، حيث ثني يده اليسري وعارَضَها مع ظهره العاري وثبت عكازه علي الأرض، واضعاً راحته اليمني فوق طرف العصا المدبب، بينما بدأ صدره في الصعود والهبوط مع كل شهيق او زفير، وقد تجمعت حبيبات من العرق عى جبينه وصدره وإبطيه.

ظل الحضور لفترة طويلة يذكرون ذلك الأزيز الحاد المصاحب لحركة السوط صعوداً وهبوطاً، وكيف أنه كان يترك فتحة طويلة بيضاء في جسد البدري العاري، سرعان ما يسيل منها الدم الأحمر القاني. ورسخت ذكرى ذلك البطان في الحلة للحولين القادمين.

تحولت نشوة البدري العارمة إلي كارثة وظل حبيس (عنقريب) المرض لمدة أسبوعين، كان يعالج خلالها جروح ظهره (المبطون) وينام على بطنه طيلة الخمستاعشر يوماً. الأمر الذي جعل احد أقربائه يكفر (بالبُطان) ويصفه بأنه “عَوَارة”
ضرب السوط مو شَطـَارة
متل الكي في الحُمَارة

كل ذلك بسبب الجنيه اليتيم الذي فرق الحلة إلى فريقين، يبدو ان الفريق المساند له قد كسب الجولة.

جدي الأطرش رقص في عرس ولده كما لم يرقص معظم شباب الحلة.. وحينما سألوه هل يسمع ايقاع الدلوكة أشار إلى صدره، ثم ذم اصابعه الخمسة ووضعها على فمه ثم كـَوَّر شفتيه ودورهما مصدراَ طرقعة قبلة قوية ليدلل بطريقته الخاصة على ان كل شئ تمام …

كيف لا يرقص وينبسط و قد أسس قبل أكثر من مائة عام لغلاء المهور في قريته والقرى المجاورة حيث أطلقت الأمهات اصطلاح: شاةً ليك يا غَـلـِّيها يا خليها… والمقصود بالشاة هنا.. المرأة… لترتفع بذلك جنيه جدتي إلى جنيهين في الزيجة التي تلت بعد ذلك بـ(دَرَتين).

سكرت الحلة طرباً علي أنغام آمنة بت حمودة، وهام الهائمون علي مشروبات “السهر بينا والعز وهاط”، اللائي استقدمن خصيصاً من احدي المناطق المجاورة.

حتى الأولياء الصالحين كان لهم نصيب من المشروبات.. استنبطت عبقرية “السهر بينا” و”العز وَهاط” مشروباً خاصاً في قريتنا، وإن لم يكن اول من اخترعه، أطلقن عليه اسم (الحُسُوة) أو (مريسة الفقرا). وهو نوع من الشراب، حلو المذاق و اقل تسكيراً، يصنع من الفتريتة و(الزريعة) أسوة بالمريسة وان اختلفت درجة تخميره وتركيزه.. ولم ينسَ جدي عبد المحمود أن يعجن مريسته “الشاطرة” بطريقته الخاصة المتخففة من (المحيط والمخيط)من الملابس، بعد إضافة (الحَنْقوق) إليها. وذلك تكريما لهذه المناسبة ذات المهر الذي اصبح حديث القرية والقرى المجاورة.

شيخ احمد قرأ سورة يس ثلاثة مرات لمباركة العروسين وهو يقسم بأنه لم يقرأها سوي مرة واحدة فقط، كيف ذلك، وجدتي لم تتوانَ في أن تخصص له نصيب الأسد من ذلك المشروب. وجدتي الرسالة سكرت شرابا وطربا وأقسمت، في حالتها تلك، أنه لا يوجد حرام وان الحرام ما حرمته (بخشمك) وتبعها بعض الغاوون.

كل زول مشغول بزولو
عيون لعيون محاربة …
شفاه لشفاه ….مقاربة..!!

كل شئ كان مجانا…محبوبا وحبيبا، مألوفا وأليفاً.. الطرب مجانا.. الرقص مجانا.. الغناء مجانا….. الحب مجانا .. والزواج… اما اللبس فقد كان (جكسا في خط ستة)، هذا إن تـَوَفَر..وكان (الكُرْباج) الوحيد الحاضر هو كرباج البُطان.. زينة الرجال وتمومة الجرتق انذاك قبل مائة عام تزيد او تنقص قليلا..
يزوجك والداك ويسكنك والدا العروس ويُعَيـْشانك انت وذريتك في أمان الله ..زول بقول بغم مافي.. كان الريف رُكازة الحَضَر.. ثابتا على ارضه وعدا وقمحا وتمني..!!

للحديث بقية…

تعليق واحد

  1. اختى حليمة ده كلام قديم عايشناه ونحن صغار انت ماحضرتى الزمن داك لكن الحبوبة حكت لك وانت قاصة بارعة زمن رسمتيهو بالتفاصيل…وشامى ريحة الغرة الخير بره وجوه..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..