لابد من سودان جديد؟ (2)

تكمن المشكلة الرئيسة للسودان في أن واقع حاله يتناقض تماما، من منظوره التاريخي وسياقه المعاصر على حد سواء، مع السياسات التي انتهجتها كل الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في الخرطوم منذ الاستقلال في 1956. فقد تجاهلت هذه السياسات بصورة تكاد أن تكون كاملة، عمدا أم بغير قصد، التنوع والتعدد الثر الذي تتميز به البلاد من ناحية التاريخ والجغرافيا والبشر والثقافات.
فتاريخ المجتمعات البشرية في السودان ممعن في القدم ويرجع إلى عهود بعيدة. وهكذا، فكتب العصور القديمة، بما في ذلك الكتاب المقدس، زاخرة بذكر السودان وعراقة وثراء حضاراته. كما دلت الدراسات التاريخية على تواجد مجموعات بشرية في وادي النيل منذ بدايات العصر الحجري، وتقدم هذه البحوث دليلا على أن هذه المجموعات قد عاشت في السودان منذ 250،000 ق.م. وازدهرت حضاراتها في حوالي 50،000 ق.م.
فحضارات كوش، والممالك القروسطية، ، ومن ثم الحقبة المسيحية الأولى لممالك النوبة، سادت ثم بادت على أرض بلادنا العظيمة: السودان.
وتبع ذلك، ومع ظهورالاسلام وتدفق المهاجرين من شبه الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا والسودان كان نتاجه قيام العديد من الممالك الإسلامية القوية كمملكة الفونج والتي قامت في 1504 ق.م. وتسببت في نفس الوقت في انهيار آخر ممالك النوبة المسيحية عندما استطاعت قوات الفونج من احتلال وتحطيم سوبا (الخرطوم الحالية)، عاصمة مملكة علوة. كما هنالك مملكة دارفور (والتي لم تنضم إلى السودان الحديث إلا في 1916).
كما شهد العصر الحالي التوسع التركي-المصري (1820) وإقامة السودان التركي-المصري والذي هزمته الثورة المهدية معلنة قيام الدولة المهدية (1885-1898)، ثم جاءت قوات الاحتلال الانجليزي-المصري لتقضى على الدولة المهدية وتقيم على أنقاضها الحكم الثنائي الانجليزي-المصري (1898-1956)، والذي انتهى بجلاء القوات الاستعمارية ونشأة الدولة السودانية الراهنة في 1956.
وبالتالي، فمن الواضح أن تاريخ السودان لم يبدأ مع الإسلام أو هجرة الناس من الجزيرة العربية إلى أفريقيا، كما أنه لم يبدأ مع التوسع التركي- المصري أو المهدية أو الحكم الثنائي الانجليزي-المصري، أو حتى مع الاستقلال في 1956. وبالتأكيد، لم يبدأ تاريخ السودان مع ظهور “الأصولية الإسلامية” (ممثلة في اغتصاب الجبهة الإسلامية القومية للسلطة في 1989)، كما يردده بعض المروجين.
وكما سلف القول، فقد تنقلت مختلف المجتمعات البشرية وعاشت في السودان الجغرافي الحالي في عهود مختلفة، كما سادت ثم بادت ممالك وحضارات في أشكال متعددة على أرض بلاد السودان. وهذا الحراك التاريخي هو ما يميز السودان ويسهم في إثراء وتنوع ثقافته وهويته. وتشكل هذه الطبيعة التاريخية للسودان جوهر “التنوع التاريخي” للبلاد.
فالسودان الحالي هو محصلة ناقصة ونتاج غير مكتمل لعملية تاريخية طويلة ومعقدة. فقد تعرض وطننا “بلاد السودان” إلى عملية متواصلة من التغير والتحول عبر التاريخ، والى تحول في الهوية من وقت إلى آخر تبعا لعلاقات وتفاعلات السلطة وسط وبين القوى الاجتماعية والسياسية والتاريخية في فترة معينة.
وهكذا، تطور السودان إلى مزيج مختلط اثنيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا ولغويا. وهذا ما دفع بالعديد من المراقبين لوصف السودان بـ”أفريقيا المصغرة” إذ تتجسد فيه السمات الرئيسية لأفريقيا ككل. صحيح أن السودان يتشكل اثنيا من مجموعتين عرقيتين: الأفارقة والعرب، ولكن الإعلام وبعض المروجين خلقوا انطباعا خاطئا بوجود سودان جنوبي ? أفريقي ? مسيحي – وثنى يقابله سودان – شمالي – عربي-مسلم.
هذا التوصيف يجافى الحقيقة ويشوه الواقع. فقد كان السودان ولم يزل بلدا متنوعا ومتعددا اثنيا وثقافيا إذ توجد أكثر من 500 مجموعة أثنية تتحدث 130 لغة متميزة. ووفقا لنتائج الإحصاء السكاني لعام 1956، فلغة الأم لحوالي 69% من السكان لغة غير عربية، بينما 31% فقط يتحدثون العربية كلغة أم. ويشكل الدين العنصر الثاني لهذا التنوع حيث نجد المسلمين يمثلون 65% من مجموع السكان، والمسيحيين ومعتنقي الديانات الأفريقية التقليدية، وهما معا يمثلون ال35% الباقية من السكان. ويشير هذا التعدد الثقافي والديني إلى “التنوع المعاصر” للسودان”.
إذن، يقوم الواقع السوداني على هذين المكونين الأساسيين: التنوع التاريخي والتنوع المعاصر. بيد أن هذا الواقع قد أغفل تماما وتمت تنحيته جانبا من قبل كل الحكومات التي جاءت وذهبت في الخرطوم منذ الاستقلال في 1956. فقد فشلت جميع هذه الحكومات في تطوير وبلورة هوية سودانية، رابطة سياسية واقتصادية واجتماعية ينتسب لها كل السودانيين ويدينون لها بالولاء الكامل بغض النظر عن العرق أو القبيلة أو الدين أو الجنس.
فبدلا عن السعي لإقامة مثل هذه الرابطة، استبعدت هذه الحكومات حقائق أساسية لهذا التنوع بينما ركزت على عنصرين فقط ? الإسلام والعروبة – كما حاولت وتواصل محاولة تأسيس وحدة وتنمية البلاد على هذين العنصرين، مما قاد إلى مواجهتها بالتمرد والحرب.
وحقيقة، فان أزمة الهوية الوطنية في أغلب أنحاء القارّة الأفريقية هي نتاج لتطور تاريخي أفرزته أطر الحكم بعد الاستقلال. فقد تشكلت الدولة الأفريقية (أو السودانية) تاريخياً من عدة عناصر وتنويعات إثنية وعرقية وثقافية وسمتها بتركيبة تعدّدية. فكانت الدولة الأفريقية، ولا تزال، تتألّف من وحدات عرقية متمايزة، لدرجة أنه كان من الممكن لغالبيتها أن تزعم إبان الاستعمار أنها قومياتٌ قائمةٌ بذاتها.
وفيما درجت السلطات الاستعمارية على تطبيق سياسات تفاضلية تمايز سياسياً واقتصادياً بين المجموعات والأقاليم المختلفة، فقد لازم تلك التعددية تفاوتاً كبيراً في صوغ معادلة السلطة وتقسيم الثروات القومية والخدمات الاجتماعية وفرص التنمية. وأفضى هذا التنوع الغزير قروناً مع تلك التباينات الشديدة إلى زرع بذور النزاع والشقاق بين العناصر المكونة لهذا التنوع.
وبدلا عن أن تنشد حلولا بعينها لمعالجة هذه التباينات عبر انتهاج نظام تمثيل عادل وتوزيع منصف للثروات، فإن غالبية حكومات ما بعد الاستقلال آثرت فقط الركون مجملاً إلى تبنّي الأنماط الدستورية التي خلّفها المستعمر.
وباتّخاذها ذاك المنحى أرست تلك الحكومات مفاهيم أحادية جامدة للوحدة تمّخض عنها قمع أشكال التنوّع العديدة، منتقصةً بذلك حقوق العديد من الأفارقة، تاركةً إيّاهم بلا حول ولا قوة، يتطلعون ليس فقط للاعتراف بخصوصية هوياتهم إزاء هيمنة الأغلبية، أو الأقلية في بعض الأحيان، بل لتمثيل كياناتهم عبر الأطر الدستورية وأنظمة الحكم في الدول التي يعيشون في كنفها.
أفضت هذه السياسات في العديد من الأقطار الأفريقية إلى النزاع المسلح والمطالبة بحق تقرير المصير بشتى الصيغ والدرجات.
لا يستثنى السودان من هذا الواقع، إذ أن البلاد عانت طيلة سبعة عشر عاماً حرباً انفصالية اشتعل فتيلها قبل أربعة شهور فقط من الاستقلال. توقفت تلك الحرب مؤقتا نتيجة لاتفاقية سلام هشة (هي إتفاقية أديس أبابا بين نميري وجوزيف لاقو في 1972م)، دامت عقدا من الزمان اشتعلت بعده الحرب مجددا بسبب نقض الحكومة، من جانب واحد، للاتفاقية.
إن محاولات الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الخرطوم منذ 1956 إقامة وحدة تقتصر على اثنين فقط من مكونات التنوع التاريخي والمعاصر مع إقصاء محددات التنوع الأخرى، وفشلها في بناء وتطوير دولة سودانية تسع الجميع بلا استثناء وينتمي لها كل مواطنيها بدون أي تمييز، لهو أساس مشكلة السودان الذي ينبغي تعريف الأزمة السودانية على ضوئه.
وهكذا، فان “السودان القديم” يتصف بالعنصرية والتعصب الديني كمحددات رئيسية تتحكم في شروط ممارسة السياسة على الصعيد القومي والفرص الاقتصادية والتفاعل الاجتماعي، مما خلق نظاما جائرا أفضى بدوره إلى حربين مريرتين بين الجنوب و”المركز”، كما أفضى نفس هذا النظام وذلك المركز المهيمن سياسيا واقتصاديا وثقافيا إلى حروب أهلية أكثر دموية وتدميرا في شرق وغرب البلاد وجبال النوبة و النيل الازرق.
لطالما كان السودان ولا يزال، في ظروف وتحت شروط السودان القديم، يرزح تحت نيران الحروب وعدم الاستقرار السياسي وضعف الأداء الاقتصادي والفقر المدقع. فمن الاستحالة بمكان بناء مجتمع سعيد ومزدهر على أساس العنصرية والشوفينية الدينية والطائفية والقبلية والعبودية أو الدكتاتورية (إن كانت دكتاتورية البروليتاريا أو العسكر أو رجال الدين). فمن المحتوم أن يتحول أي مجتمع يقوم على هذه الايدولوجيات الضيقة والمحدودة أو الحزبية إلى شكل من أشكال الفاشية أو الدكتاتورية ولا محال أن يفضى إلى زعزعة الاستقرار والحروب إلى تمزق وتفسخ البلاد في نهاية الأمر.
وسلة مهملات التاريخ مليئة بمثل هذه الأمثلة، ولعل في تجربتي الاتحاد السوفيتي السابق وجنوب أفريقيا العنصرية عظة وعبرة. فمن المؤسف أننا في السودان لا نتعلم من هذه الدروس إلا بإتباع الطريق الأكثر صعوبة: من خلال حروب أهلية وبحر من الدماء والدموع.
قامت الدولة السودانية بعد الإستقلال في 1956 على نظام سياسي وإطار مؤسسي يكتنفهما التعصب العرقي والديني، والأصولية الإسلامية بعد يونيو 1989. فقد عملت هذه الدولة على إقصاء الغالبية العظمى لأهل السودان، خصوصا السودانيين الأفارقة، من المشاركة العادلة في الحكم والثروة منذ 1956.
وعلاوة على ذلك، بعد 1989 (في أعقاب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية) استبعد النظام كل من لا ينتمي للأصوليين والسلفيين الإسلاميين. كما ظلت المرأة دوما معرضة للإقصاء والتهميش. ويمثل النظام الأصولي والسلفي الاسلامى ذروة سياسات حكومات الخرطوم التي تعاقبت على حكم السودان منذ الاستقلال في 1956.
وهكذا فقد انقسم السودان القديم في عام 1989 إلى اثنين: “سودان الأصولية الإسلامية” (سودان الجبهة) و”السودان القديم” (الأصلي)، حيث يمثل سودان الجبهة تحولا نحو الفاشية في رحم السودان القديم وأقبح وجوهه. ولكن يظل سودان الأصولية والسلفية الإسلامية / والسودان القديم يقومان على نظام مؤسس للظلم والشوفينية الدينية والعرقية، الأمر الذي حدا ببعض المراقبين إلى وصم الوضع السوداني ووصفه بـ”النظام المزدوج للتفرقة”، دينيا وعرقيا.

الشاذلي تيرا
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لابد ان يقف كل انسان عامر قلبه بالصدق والضمير الحي والعقل الراشد والفكر الخلاق والثقافة المفيدة والاخلاق الرفيعة, رافعا قبعته الانسانية تحية للاخ الشاذلي في مبحثه ورؤيته العميقة البسيطة بهذا المقال وسرده للوقائع التاريخية والحقب المتتالية لتاريخ السودان. كما نتفق معه في تحليله العميق والكافي لعلة وازمة السودان سابقا وحديثا.وخير تلخيص لها حين سطر هذه الجملة (فمن الاستحالة بمكان بناء مجتمع سعيد ومزدهر على أساس العنصرية والشوفينية الدينية والطائفية والقبلية والعبودية أو الدكتاتورية (إن كانت دكتاتورية البروليتاريا أو العسكر أو رجال الدين). فمن المحتوم أن يتحول أي مجتمع يقوم على هذه الايدولوجيات الضيقة والمحدودة أو الحزبية إلى شكل من أشكال الفاشية أو الدكتاتورية ولا محال أن يفضى إلى زعزعة الاستقرار والحروب إلى تمزق وتفسخ البلاد في نهاية الأمر.)
    ولابد هنا ان نوضح ان ارتياد المعرفة والفكر والثقافة والدين ايضا سوي عبر الكلمة المكتوبة كتابا كان او اي وسيط ناقل او التواصل الانساني عبر الوسائط والخبرات المتعددة غايته هو سعادة الانسان وازدهاره وتموضع القيم الانسانية (الخير الحب الجمال السلام الحرية العدالة الصدق الابداع الخ ) ليكون غذاء نسيج المجتمع كوحدة وامة . وليس الغاية علو وتسيد فكر او ثقافة او دين او ايدلوجية معينة علي المجتمع. ولهذا ما زال كبار الموهمين والمخدوعين من ما ادعوا انهم كبار المفكرين والعلماء والمثقفين والسياسيين والدعاة والشيوخ(امثال حسن الترابي و حسن مكي وامين حسن عمر وغازي صلاح الدين وعصام البشير عبد الجليل الكاروري والصادق عبدالله عبد الماجد والحبر يوسف وعبد الحي يوسف والصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني والخ الخ ) ينبحون ليل نهار بذات الخطل والفشل وضلال الغاية بينما ابتعد المجتمع السوداني من السعادة والازدهار والتسامح والسلام ,وهو مغلوب علي امره تحت اقدامهم بينما يقبع انسان السودان في الحروب والفساد المالي والاخلاقي والفقر والجهل والمرض . وهم في دواخل شرور الذات مغيبون وفي نعيمهم يتلذذون بعيدين عن الواقع مفتقدين للوعي والادراك بان كل ما ينادون به فشل بل تعمقت نتائج الفشل بهذا الواقع المرير الذي يعيش فيه شعب السودان ولم يكلف اي واحد منهم ضميره و عقله وجهده بالانتباه ان ما كانو يدعو اليه او مايدعوا له الان من غايات لم يتحقق بل اتي بدمار السودان ابعد كل هذا يرفع احدهم عقيرة فكره او دينه الفاشل ليحكم السودان!! متي يخجل الرجال! متي!!!

  2. من تؤرقة الاسئلة الصعبة يكبد نفسة عناء البحث المضنى لتاريخية الاذمات المستعصية مقال جيد تابع تكون الدولة السودانية ان وجدت لكن تجاهل بعض المحطات المهمة والتى لم تقلل من اهمية المقال والسرد وملامستة لعصب الاشكال السودانى تحياتى للكاتب.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..