مقالات سياسية

(مَشّاطة) مِن عُمق التُراث..!

عبد الله الشيخ

خط استواء

لا تبرأ الأنماط الثقافية من مزايدات ألسنة الشفاهة التي تصبِغها وتلوِّنها في حديقة الخيال، كيف لا و الشفاهة نفسها هي الدليل على خصوبة الوعي الجمعي.. تلك الأنماط التي نجدها في سرد العوام، من أحاجي و كرامات ومدائح ودوباي، وكل ما يجود به الحكائين في المجالس والطرقات، كل ذلك كان بوقاً – أداة – لنشر المفاهيم والقيم في مجتمع غلبت عليه البداوة وانحصر في محيطه الجغرافي بحكم صعوبة التنقل في بيئة لم تحظى بتطور وسائل التواصل والاتصال .

وفي مناخات إحيائية كتلك التي عاشتها مجتمعات السودان القديم، كان سهلاً على النوبة المستعربين – من عُمق محبتهم لآل البيت – القول بأن ولياً من أولياء زمانهم، تشيخ علي يد الإمام علي بن أبي طالب .. بمثل هذا الخبر الذي أورده صاحب الطبقات، كأن السارِد يسعى لإعادة إنتاج الحديث النبوي بأنَ علياً هو (باب مدينة العلم)، مثلما يدل ذات النص، على تأثر الوعي العام بشيء من أدب التشيُّع.. ومثله أيضاً ما نقل الرواوي عن الحديث بـ (منطق الطير) فهو نص جوهره قِصّة هدهد سليمان، وهو قول يُنسب للشّيخ الوُثيقي، وفق ما يُروى بأن (عصفورةً قابلته فوق كُوَّة البيت فسكسكت، ثم هو أيضاً سكسك فقالت له المشاطة: سألتك بالله الذي لا إله إلا هو، الطير شِن قال لك، وإنت شن قلت لها؟ فقال: امرأة مختلفة مع زوجها فوفقت بينهما).. ولدى تفكيك هذا النص تُطل معاني النَّص المُقدَّس فهي تغلّف هنا، أهم ما يشغل المرأة في بعلها وزينتها..

وليست المشَّاطة سوى رمز للزينة والثرثرة، أو الشَمَار الحَار بلغة عصرنا، لكنها تتمثل دور (بلقيس) في النَّص الأصلي- القرآن- ليُشار عبرها إلى أمر في غاية التاريخانية، هوَ أن الولي فيصلٌ في تناقضات الحياة، وأنه لا يتصدى لعلاج خلافات بني البشر فقط، إنما يعالج مشاكل الكائنات أيضاً، وكونه عليم باللغة السريانية، فهو عارف بأسرار اللغات.. كما تعبر الكثير من النصوص الثقافية على تطلعات النّاس وتفكيرهم الرغبوي،،، ففي تهويل أمر ما، يمكن أن يُدس الرأي الذاتي أو الموضوعي تجاه قضية ما، مثلما تختبئ الأيدلوجيا في نص الكرامة.. من ذلك ما يُشاع عن نسج العنكبوت على رحل الشيخ عمار بن عبدالحفيظ، وكرامة الشيخ شرف الدين العركي الذي يُقال أنه (ولِد مختوناً)، أو يحدِّثك العقديون حتى في أيامنا هذه ، عن أن الشيخ حسن ود حسونة تشيخ مباشرة، على يد النبي صلى الله عليه وسلم…

وهكذا، يظل السارد الشعبي – الحكاء / المادِح/ الشاعر- بوقاً لثقافة عصره، بتكثيفه الرواية واختياره الوقت المناسب لتضخيم المفاهيم، بحركات الجسد أورفع الصوت، أو بالتنغيم، أو ضرب الطبل والنحاس،، أو بنحو ما يحسُن الحُداة التقليديون استخدامه، لسد الطريق أمام استجوابات العقلنة… بذلك تبقى الدّفْقة عالقة في الأذهان كحقيقة إيمانية تعمد إلى مد فعالية المُقدَّس وإحياء روحه في الحاضِر.. وهكذا وهكذا، يظل مجتمع الشفاهة أرضية خصبة، تُنبِت نصوصاً ثقافية موازية للمقدس، لتشكل تلك الموروثات في المدى البعيد مضامين – عادات وتقاليد – يعتنقها العامة دون تهيُّب أو وجل من غرابتها أو مفارقتها للواقع في كثير من الأحيان.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..