مقالات وآراء

حبل الإستهبال قصير

المعز عوض احمدانه

أثناء ثورة ديسمبر 2018 المجيدة، وحتى انتصارها بذهاب رأس النظام السابق، وحكومته وسدنته، إستشهد المئات من أبناء وبنات الشعب السوداني، بسبب أنَّ قمع الحراك الثوري، كان يتم في غالبه بإطلاق الرصاص الحي مباشرة على المتظاهرين، بقصد القتل، حيث كان يتم التصويب مباشرة على الرؤوس والصدور.. والآن وبعد أن انصرمت سنتان وأكثر منذ تاريخ السقوط، ثم مجيئ حكومة الثورة، هل يُعقل ألا يتم حتى الآن إعدام شخص واحد؟.. أين ذهب مُطلقو النار بقصد القتل؟.. أين ذهب من أمر بإطلاق الرصاص الحي لقتل وقمع المتظاهرين؟.. هل يُعقل حتى الآن لم نسمع عن شنق ولا مشنقة، ولا عن إعدام ولا تنفيذ إعدام؟.
جميع أفراد النظام القديم، من أكبر رأس وحتى أصغر مُخبر وجلَّاد، يَحْيَوْنَ في أمن وأمان، وينعمون بالحياة التي سلبوها من شباب غض طاهر في عمر الزهور، من أبناء وبنات شعبنا السوداني.. والآن والذي يُؤسف له حقاً أنه لا يموت أحدهم حينما يموت، إلا بالأسباب الطبيعية التي يموت بها عامة الناس.. لم ينزل بهم أي ضرر، غير الحبس لبعضهم، وبإستثناء ما تقوم به لجنة إزالة التمكين بين فينة وأخرى، بإصدار بيانات وإعلانات، لمصادرة أراضي وعقارات، وأموال وشركات، ولفصل بعض منسوبي أجهزة الدولة المختلفة.. هذا كل شيء.. وبعد ذلك كلما وقع فشل في مرفق من مرافق حياتنا، والذي يمس بصورة مباشرة قوتنا ومعيشتنا، ويمس الخدمات الأساسية للمواطن، يأتيك التبرير المُعَلَّب أن كل ذلك بسبب منسوبي النظام البائد.. ودعك من مناقشة هذا التبرير السخيف، وركز في كلمة البائد، واطرح على هذا المستهبل هذا السؤال وقل له: كيف أَبَدْتُم النظام السابق وأين ومتى وكل أفراده من أكبر رأس إلى أصغر مجرم لا يزالون ينعمون بنعمة الحياة؟.. ماذا فعلتم حتى جعلتم من النظام السابق نظاماً بائداً؟
ما هذه الثورة الطَيِّبة اللطيفة الرقيقة الحنينة، التي لا يقوى قلبها على رؤية مشاهد الموت وهو يَنْزِلُ على عتاولة مجرمي النظام السابق؟.. وما هذه الثورة التي لا تزال يداها بيضاء نقية، كأنقى ما يكون النقاء، وأبيض ما يكون البياض، لم يَتَلَوَّثَا بَعْدُ بدماء من وَلَغَ دون أن يطرف له جفن في دماء خيرة الشباب، فأزهق أرواحهم، وأجرى مدامع أمهاتهم؟.. بالله عليكم أي ثورة هذه؟.. هل هذا يُصَدَّق؟.. يا سادتي يا كرام ما نعيشه الآن هو الإستهبال بعينه، وبكل ما تعني الكلمة من معنى، وهو الإستغفال، وهو الإستغباء والإستحمار.. وبصراحة الآن صارت تعروني ابتسامة ملؤها الغيظ والحنق، أو هي هكذا لأني عاجز عن وصفها بدقة، كلما أستمعت إلى أحد المسؤولين وهو يبدأ حديثه بالثناء على الثورة المجيدة، وبالترحم على الشهداء، ثم يُسدي أطيب التمنيات للجرحى بالشفاء، وللمفقودين بالعودة.. ويُخَيَّلُ لي أن هذا المسؤول وهو يثني على الثورة، ويترحم على الشهداء، ويتمنى للجرحى وللمفقودين أطيب التمنيات، لم يفعل ذلك إلا لأنهم كانوا سبباً في جعله مسؤولاً، أو لغرض التمهيد لما سيعقب ذلك من إستهبال وضحك على الذقون.
ثم جاءت الفاجعة الوطنية الكبرى بفض اعتصام القيادة، في صبيحة يوم الإثنين 3 يونيو 2019، وقد شاهد الجميع أرتالاً من السيارات الحاملة للجنود، وهي تدخل ساحة القيادة، ثم تعيث بعد ذلك فساداً، فتقتل وتغتصب وتحرق وتجلد وترمي بالجثث بعد ربطها بالحجارة في النيل.. وهنالك من حمل العشرات من الجثث وكدسها في المشارح، وعشرات أخرى ذهب بها ليدفنها بعيداً عن أعين الناس.. وكل ذلك قد تم أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، التي أغلقت أبوابها حتى لا يحتمي بداخلها المعتصمون.. وكل ذلك قد حدث وأكثر، وفي وضح النهار، وأمام مرأى ومشهد من العالم كله.. لكن رغم ذلك، لا يزال المجرمون أحياء إما قابعين في سجن لم تشوكهم شوكة، أو طلقاء يتمتعون بحياتهم كأحسن ما يكون التمتع، لم يعكر صفوها أي معكر.. ولا تزال لجنة التحقيق وبعد مرور قرابة السنتين تواصل في عملها في التحقيقات انعقاداً وفضاً، وفي الإستماع لشهادات الشهود.. ولا تزال حتى الآن تطالب بمزيد من الوقت لمزيد من الدراسة والبحث والتدقيق.. أما المجلس العسكري الذي كان يحكم وقت وقوع الأحداث، وارتكاب الفظائع، وقد تم كل شيء تحت سمعه وبصره، هو الآن بغالب أعضائه في مجلس السيادة، بل على رأس المجلس، ولا يعلم حسب إفاداته عن فظائع فض الاعتصام شيئاً سوى النذر اليسير، وهو مثلنا تقريباً قد سمع كما سمعنا وقد عرف عن تلك الأحداث والفظائع كما قد عرفنا، وهو مثلنا تماماً في انتظار النتائج التي ستسفر عنها تحقيقات لجنة الأستاذ أديب.
ثم في مساء يوم الثلاثاء 11 مايو 2021 الموافق 29 رمضان 1442، تَجَدَّدَ الإعتداء من ناحية الجيش تجاه الشعب، وأسفر ذلك عن استشهاد اثنين من شبابنا الأطهار.. والغريبة أن هذا الإعتداء قد وقع في نفس يوم تجديد ذكرى فض اعتصام القيادة المشؤوم.. وكأنَّ الجيش يريد أن يعاقب هؤلاء الذين تجمعوا أمامه لكي يذكروه بسوءته الكبرى وخجلته التي لا تُمحى.. لكنه بعد أن حدث ما حدث، لأنه في كل مرة يحدث ما يحدث، خرج لنا ببيان استنكر فيه الأحداث، ووصفها بأنها مؤسفة، ثم وصف القتيلين بأنهما شهداء، وأعقب ذلك بقوله: (شكلت القوات المسلحة لجنة تحقيق لمعرفة المُتسببين في هذه الأحداث، وتؤكد القوات المسلحة تعاونها التام مع الجهات العدلية والقانونية للوصول للحقائق وهي على إستعداد تام لتقديم كل من يُثبت تورطه في هذه الأحداث للعدالة)، ثم كانت خاتمة البيان بالعبارة التالية: (الجنة والخلود لشهدائنا الأبرار وعاجل الشفاء للجرحى) مع التذكير أن البيان في أوله قد أثنى على الشباب الذين تَدَاعَوْا لإحياء ذكرى فض اعتصام القيادة ووصفهم بقوله: (نفر كريم من شباب الثورة المجيدة)، ثم وصف تجمع هؤلاء النفر الكريم أمام قيادته بأنه قد تم بطريقة سلمية.
إذن الجيش يعلن إصفافه الكامل مع هؤلاء النفر الكريم من شباب الثورة المجيدة، بل ويعتبر القتلى الذين وقعوا بسبب نيرانه هو نفسه من شهدائه الأبرار الذين يدعوا الله لهم بالجنة والخلود.. وإذن وبعد هذه العبارات القوية يا ويل ويا سواد ليل من يثبت تورطه في هذه الأحداث، لأن الجيش كله قد صار عدواً له ولن يشفع له كونه منتسباً له وعسكرياً ضمن صفوفه.. وطبعاً نحن نعرف أن كل حركة وكل سكنة في الجيش تأتي نتيجة سلسلة من الأوامر، حيث لا يجرؤ جندي على فعل شيء ما لم تأته أوامر وتعليمات من قائده المباشر.. ثم هذا القائد المباشر بدوره يتلقى الأوامر من قائده الأعلى، وهكذا يحدث التسلسل في الأوامر، حتى يبلغ ويصل إلى القائد الذي أحدث وأنشأ الأوامر من تلقاء نفسه، وحسب تقديراته الخاصة، حيث يملك التفويض بفعل ذلك وفقاً لدرجته القيادية.
وإذن طالما الجيش قد وعد بالتعاون التام مع الجهات العدلية والقانونية للوصول إلى الحقائق، وأعلن استعداده التام لتقديم كل من يثبت تورطه في هذه الأحداث للعدالة، يجب عليه أن يقوم بضبط وتوقيف كامل المشاركين في سلسلة أوامر إطلاق النار على النفر الكريم من شباب الثورة المجيدة، بدءاً بالقائد الأعلى الذي أنشأ من تلقاء نفسه هذه الأوامر وقام بإصدارها، مروراً بكامل السلسلة نزولاً حتى أصغر جندي كان ممسكاً بالسلاح في الشارع، بإعتبار أن كل أفراد هذه السلسلة مُتَّهَمُون.. لكن الذي حدث أنَّ الجيش قد قام بتقديم سبعة أشخاص فقط إلى النيابة العامة بإعتبارهم هم المتهمين، رغم أن جميعهم من حملة رتبة جندي، وهي أدنى رتبة في الجيش، ولا توجد دونها رتبة أخرى.. ومع العلم أن الجندي لا يفعل شيئاً ولا يحرك ساكناً ما لم تصدر إليه أوامر وتعليمات من قائده المباشر، فأين باقي السلسلة يا جيشنا الظافر المظفر؟.
ربما لن يمتنع الجيش عن تسليم أفراد من رتب أعلى إذا كشفت التحقيقات التي تجريها النيابة عن تورطهم في الأحداث، وحتماً ولا محالة ستكشف، وإلا ستضع النيابة نفسها في موقف محرج للغاية أمام الشعب.. ربما لن يمتنع الجيش عن ذلك، لكن قيامه بتقديم جنود فقط إلى النيابة دون غيرهم كان وقعه سيئاً جداً لدى عامة الشعب.. ولا أدري ما الحكمة من وراء هذا الإجراء على هذا النحو المبتسر؟.. وكنت أتمنى أن يخرج الإعلام العسكري بتوضيحات مطمئنة للشعب، حيث يؤكد له أنه لن يفلت أحد من العقاب، وحاشا للمؤسسة العسكرية ولقوات الشعب المسلحة أن تمارس الإستهبال، فتتذاكى على شعبها الذي تضحي بالمهج والأنفس والأرواح من أجله، وفي سبيل راحته وأمنه.. لكن للأسف لم يخرج أحد ليوضح ولا ليطمئن ولا ليؤكد، وإنما تُرِكَت الظنون والتأويلات تذهب بالناس في جميع المذاهب وشتى السبل.. وعموماً نجد أن قيام الجيش بتسليم أفراد من منسوبيه إلى النيابة العامة لغرض التحقيق تصرف جيد في حد ذاته، لكنه جاء ناقصاً وناقصاً بشدة، وهو بهذا التصرف يفتح الباب واسعاً أمام جميع الشكوك والهواجس والتكهنات.
ربما أراد الجيش بهكذا تصرف أن يهدئ من غضب الشارع الذي يغلي، وربما لم يهمه الشارع وإنما أراد أن يرسل رسالة إلى الجهات الدولية التي تراقب الأوضاع تعكس لهم جديته في محاسبة المتورطين، ولا بأس أن يضحي في سبيل إرسال هذه الرسالة بعدد من الجنود، ولكيلا يتسبب ما حدث بتعكير الأجواء في مؤتمر باريس، ويلقي بظلال سالبة عليه.. وربما هناك تحقيقات لا تزال تجري داخل الجيش مع المتورطين من الرتب العليا لكشف المزيد من الشبكات التي اخترقت الجيش وتعمل لحساب جهات أخرى، وعندما تنتهي هذه التحقيقات سيتم تسليمهم إلى النيابة العامة.. وإذن كان ينبغي للإعلام العسكري أن يخرج للناس موضحاً.
ولذلك فإن شبهة الإستهبال والضحك على الذقون والتذاكي على الناس تظل قائمة حتى إشعار آخر، وهذا يلقي بمسؤولية كبيرة على عاتق النيابة العامة، حيث يتحتَّم عليها أن تعلن للشعب في كل مرة مطالباتها للجيش بضرورة تسليم متورطين جدد، وينبغي أن تعلن عن أسمائهم كلما كشفت التحقيقات عنهم، والمسألة لن تحتاج إلى كثير وقت حتى تتكشف هذه الأسماء.. ساعة زمن من التحقيق مع الجنود المتهمين والمقبوضين كافية للكشف عن قادتهم المباشرين الذين أصدروا إليهم الأوامر بإطلاق الرصاص.. وإذن نجد أن الجيش قد رمى بالكرة في ملعب النيابة العامة، وبالتالي عليها أن تتحلى بالشجاعة والوطنية والمهنية لإظهار الحقائق كما هي، ولا تأخذها في الحق لومة لائم، وعليها أن تدرك تمام الإدراك أن الشعب سيراقب أداءها عن كثب، وسيتابع تحقيقاتها بشغف وبدقة بالغة.. فعليها أن تكون على قدر المسؤولية ولا تخيب الظن فيها.. وحذاري أن ينصدم فيها الشعب.. وعليها أن تكون بحق وحقيقة ناصرة المظلومين، وسيف الحق البتار في يد العدالة، بدلاً من أن تكون مقبرة القضايا، ومميتة وهج الثورة الوضاء.
واليوم وبعد إقالة النائب العام تاج السر الحبر ومعه رئيسة القضاء نستبشر خيراً، ونتطلع إلى غدٍ أفضل مشرق، بتعيين شخصيات بمقام الثورة وعلى قدر عظمتها، لا تهاب في الحق أحداً، تصدم الباطل فتفلقه فتحيله هباءاً منثوراً، ورماداً تطؤه أقدام الحق، ونعال المظلومين.. لأن ما مضى من عهدٍ لم يكن إطلاقاً يشبه الثورة، وإنما كان نهجاً يعمل على الموت البطيء للثورة، رغم رفع شعاراتها والتحدث بلغتها وعباراتها.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..