أخبار مختارة

أوهام الهوس الديني: كيف يُحكم السودان؟!

فتحي الضَّو

قد يبدو عنوان هذا المقال كلاسيكياً في شطره الثاني، ولكنه واقعياً على أية حال. فالمتابعون للشأن السوداني اعتادوا أن يروا شقه الآخر القائل: من يَحكم السودان؟ وهو التساؤل الذي كثُر تحديداً إبان الديكتاتورية البائدة، نسبةً لتعدد أجنحتها المتسترة بالدين والمتفانية في تأسيس دولة الظلم والفساد والاستبداد. وتحت هذه المظلة لم تترك من الموبقات شاردة ولا واردة إلا وأنزلتها على الأرض. وبالتالي صار ذلك التساؤل دليلاً على عمق الأزمة، والتي كانت تزداد غوراً كلما تقادمت السنين. وبعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة ونجاحها في اقصاء الطغمة الفاسدة من السلطة، كان من الطبيعي أن تكون الثورة قد وجدت ترياقاً للسؤال المذكور، باعتبار أنها اندلعت لاسترداد قيم مفقودة لطالما تاق لها السودانيون وجسدتها شعارات الثورة. وبالطبع لم تكن الإجابة شخوصاً يحكمون من وراء الكواليس وإنما برنامجٌ ثوري يتضمن نصوصاً من تلك القيم. وطالما أن ذلك كذلك، لعل السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا التعسُّر؟

(2)

السؤال ليس عصياً لمن ظلَّ مثابراً على متابعة حراك وسكنات الواقع السوداني بكل تضاريسه المعروفة. لكن المتابعة من غير إرادة قوية تضع الأصبع على الجرح النازف وتجد له العلاج اللازم، ستكون محض هروب ومضيعة للوقت. بهذا المنظور يمكن القول مباشرة إن أس الأزمة يكمن في الهوس الديني الذي أفسد على أهل السودان حياتهم، وما دون ذلك هي فروع للأصل. ولعل الأدهى وأمرْ، أنه على الرغم من فساد الحكم وتشويه العقيدة في تلك الحقبة البائدة، إلا أنه ما يزال هناك من يعمل لإعادتها بحسبها الدولة الإسلامية الأنموذج. أي الضرب على الوتر القديم بغية استمالة عواطف الرجرجة والدهماء، وصولاً لتكريس الوعي الزائف. وهم يعلمون أن صراع أهل السودان كان وما يزال على الدنيا وليس على الدين، الذي هو موضع تقديس في نفوس الذين جُبلوا عليه بالفطرة. 

(3)

يحدثنا التاريخ دوماً بلسان العظة والاعتبار. فمن المعلوم أن حقبة القرون الوسطى كانت قد وضعت الشعوب الأوروبية بين سندان الكنيسة ومطرقة الساسة الفاسدين، حيث نشأ بينهما تحالف انتهازي بغيض، غدت فيه الكنيسة جزءاً من منظومة الحكم، الأمر الذي أتاح لها التحكم في مصائر الناس في إطار دولة ثيوقراطية خانقة. وتبعاً لذلك صارت تبرر للنخب الحاكمة ممارسات القمع والفساد والاستبداد، بل وتمنح بكرم فائق صكوك الغفران لمن يرغب. وهو الواقع الذي تصادم مع أفكار فلاسفة أفذاذ من التنويريين الذين شغلوا أنفسهم بنشر الوعي والمعرفة والاستنارة، أمثال جان جاك روسو وكانط وفولتير وربسبيير ونيتشه وديكارت ونيوتن، وكان جاليليو أكثرهم مصادمة مع الكنيسة، وفي سبيل ذلك استمات في تمسكه بنظرية كروية الأرض (لم تتم تبرؤته من المحاكمة الجائرة التي أدانته، إلا في أوائل الثمانيات من القرن الماضي)!

(4)

لكأنما التاريخ يعيد نفسه مع اختلاف الوقائع. فما عاد تفاني أصحاب الهوس الديني يدهش أحداً في زماننا هذا. فحتى بعد أن حلب الدهر أشطره – كما تقول الأعراب – ما يزال الوهابيون وسلالاتهم المتناسلة والتي اتَّخذت مسميات شتى، يعتبرون نظرية جاليليو العلمية رجساً من عمل الشيطان. ومثلما أن القارة العجوز لم تنفك من براثن الجهل والتخلف ولم تخرج من كهوف الظلام، إلا بعد أن انتفضت شعوبها وانفجرت ثوراتها، بدءاً بالثورة الفرنسية التي رفعت شعارات أعادتها ثورة ديسمبر السودانية للذاكرة الإنسانية الجمعية، وتفوقت عليها بسلميتها، مع أنه كان بمقدور ثورة ديسمبر (شنق آخر فاسد بإمعاء آخر كوز) وما يزال لها في منهج (الشرعية الثورية) نصيب، وفيه متسع لمن شاء أن يتخذه هادياً منيراً!

(5)

لقد استغل الأبالسة سماحة الثورة وسلميتها، وخلا لهم الجو في ممارسة الفساد الذي يحبون، وفي خلق الفتن واصطناع الأزمات التي يعشقون. وكلها أدوات برعوا فيها براعة كل مناع للخير معتدٍ أثيم. لكن التسامح لا ينبغي أن يكون مع من لم يُقدِّر قيمته. والسلمية دون تقوية أركان العدالة لحمياتها تُصبح تشجيعاً للمستهتر للتمادي في غيِّه. فالدولة مطالبة بحماية المجتمع من شرور الهوس الديني بنصوص الدستور والقوانين الصارمة وتقوية منظمات المجتمع المدني وفي المصادقة على كل القوانين والمعاهدات الدولية، فلسنا في جزيرة معزولة عن العالم. فالظلاميون يريدون أن يسري الخوف فينا، ويسود النفاق بيننا، فيضفي المظلوم على الظالم آيات التبجيل والتوقير والاحترام. إذ ألقى التحية وسعوا له في المجالس وهبوا له مرحبين، وإذ تحدث أرهفوا السمع وهم صامتون، وكلما تراكمت السنين تراكمت المصيبة نفسها، وذلك غاية ما يهدف إليه تجار الدين!

(6)

واهم من يظن أن الحرية فوضى، ومخطئ من يتوهم أن الديمقراطية نزهة، يمكن أن تصمد بلا مخالب وأنياب تحميها من تغول المعتدين كما حدث من قبل في العام 1965م (طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان) ولم نستبن النُصح إلا بعد أن رأيناها تتهاوى أمام ناظرينا في العام 1969م (انقلاب مايو) ثمَّ العام 1989م (انقلاب يونيو). فالديمقراطية سلاحها تقوية الأجهزة العدلية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكي تنعكس أمناً وأماناً واستقراراً على حيوات الناس، والحرية إذا لم تنتج سلاماً كانت باباً يلج منه المخربون لزعزعة الاستقرار وخلق الفتن. ولهذا ينبغي أن نركز أنظارنا على البرنامج وليس شخوص الحاكمين، فهم كما قال الأستاذ المفكر محمود محمد طه: (موضع حبنا.. لكن أفعالهم موضع حربنا!).

 (7)

الثورة تعسرت بأسباب واضحة للعيان، فلا يمكن أن تزرع أرضاً دون تنظيفها وتهيئتها وإعدادها ومن ثم رعايتها. فما أكثر المتربصين حين تعدهم، فكُهْنات العقيدة (والكُهْنة – بضم الكاف – هو الشيء البالي) يريدونها أفيوناً يعطل الحواس ويسلب العقول ويسري خدراً في الجسوم. يتمنونها جسراً لتثبيت الأوهام وترسيخ المزاعم التي تدعي أنهم ظل الله في الأرض. يبغونها عِوجاً ليمارسوا الفساد والاستبداد والقتل والسحل والتنكيل والتعذيب بدعوى حماية الدين من تربص العلمانيين. يهدفون إلى تحطيم إرادة المجتمع حتى يصبح كأعجاز نخل خاوية. تلك مهمة تقتضي تحنيط الدين الإسلامي كما رغبوا، وانتزاع النصوص التي تخدم نواياهم وتتوافق مع أهوائهم للاستمرار في خداع البشر. نراهم وقد استلوا خناجرهم وشحذوها ليوم عبوس قمطريرا، قاتلهم الله أنى يُؤفكُون!

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

[email protected]

‫16 تعليقات

  1. أقسم باللات ، العزة ، هبل والقرانين العلى أنك أستاذ فتحي الضو ورصفائك من ‏حملة مشاعل الاستنارة والحداثة والعلمانية ، أنبياؤنا الذين لا نعرف أنبياء ‏غيركم فأنتم محط الأمل الذي نعيشه في غد مشرق بعد قرون من الإنكفاء، ‏الظلام والخيبة والتخلف ، شكرا أستاذ/ فتحي الضو ، ولدي شعور أن تعثر ثورة ‏ديسمبر ربما يخبي خيرا عميما وأن ثورة شعبنا المقبلة سوف تكون كما ‏يجب ولن تكون بأي حال سلمية بلا أنياب وأظافر وسوف نسير على ‏خطى روبسبير ورفاقة في ثورتهم الفرنسية الخالدة. ‏

    1. هنيئا لك اللات والعزه الذين اقسمت بهم حتى العرب تركوهم وقال الله في العرب ايضا الاعراب اشد كفرا ونفاقا واجدر الايعلموا حدود الله.
      هذا الزمان زمانكم قل ما شئت واكتب ما شئت وافعل ما شئت فلا رقيب ولا حسيب في هذه الدنيا وهذا من عدل الله.
      وانا متفق تماما مع الكاتب في المحاسبه لان شرع الله يطبق على المسلمين وليس الكافرين. اقطعوا ايدى السارقين من الكيزان

  2. الصبر علي البلايا واجتثاث الاسلام السياسي والعض بالنواجز علي سياسات حمدوك الاقتصاديه هو مخرج السودانيين من قاع الرجعيه

    1. ياتو نواجز يا اللخو ؟الناس سنونا اترخرخت بسبب سياسة حمدوك الاقتصادية ،جوع وسوف

  3. الكيزان لم يتركو مجالا لم يشوهوهو ….هل القائد او الداعيه الاسيلامى يكتنز المال و يسرق اخجلو … ماتظهرو ولا تدافعو عن تجربتكم التي اورثتنا الهلاك بعتو أملاك السودان عشان تمشوا الدوله ب ال 10% والباقى في جيوب قادتكم و تنظيمكم وتجو تقولو في غلاء … هل هذا تصرف من الإسلام في شيء …. مرض

  4. كلام فتحي الضوء واضح وصريح ومرتب بنهج بلاغي سلس والذي تنطوي عليه حقائق مره وهي من ضمنها تهديد أمن واستقرار البلاد مثلا نحن نعلم تماما أن هنالك كتائب مأدلجة لا زالت تحتفظ بسلاحها وسياراتها منها كتائب البنيان المرصوص والبرق الخاطف من ضمن انجازاتهما جريمة فض الاعتصام وفي هذا السياق هنالك الف استفهام ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

  5. والله لمن اقرا تعليقاتكم دي اقول الكيزان احسن منكم..بالنسبه للاستاذ فتحى لا اختلف كثيرا معك فى التحليل لكن تستعجل النتائج وتميل للحسم الثورى وهو مالم يعد يصلح لهذا الزمان باعتبار التعقيدات المرحليه.ان جماعات الهوس الدينى لم تاتى من فراق فهم نتيجه جهد قام به الحاقدين على الإسلام فى تحوير الافكار لخدمة اهداف سياسيه فمن باب اولى ان نقوم نحن بنشر الفكر المستنير وانتزاع الافكار السالبه من الرؤوس وهذا يحتاج لجهد معاكس يحسب بالسنين وليس لمجرد قيام ثوره تتبدل الافكار..يكفى الثورة ان ان تصلح الحال الاقتصادى والاجتماعي اما الفكر والافكار فتحتاج الى زمن اطول بكثير.

  6. ههههه سبحان الله
    لما يتكلم واحد مخرف يعيد ويكرر في كلامه فإن الذي يفهمه المخرفون من بني جلدته لا غير. ماذا استفيد من كلام مكرور وممجوج دون أن يقدم جديدا ودون أن يقدم حلولا . انه بكاء على اللبن المسكوب ولكن الى متى.. أو نظل نقف تحت شجرة النيم ونبكي؟ لو تأمل الكاتب ونظر الى صفق وفروع الشجرة فوقه فعسى أن يطلب منا أن نأكل صفق الشجرة أو نشرب لبنها فهو حل مر ولكنه حل على كل يطيل الحياة لمن يموتون حوعا الان الان عسى أن تفرج بعدها ويعودوا للحياة..
    أطفال مدارس وصل بهم الحال السقوط في الفصول من شدة الجوع، موظفون أوقفوا الذهاب للعمل لأن المرتب لا يعوض تكلفة المواصلات، كهرباء مقطوعة بالليل والنهار، مواقف مواصلات كأنها يوم القيامة، انعدام للدواء وانهيار كامل للتعليم بينما تحتفل وزارة التعليم اليوم بنجاح الموسم الدراسي الذي لم يكمل 3 اشهر!!! بينما هؤلاء الضحايا من الطلاب سينافسون بعد قليل نظراءهم ممن حظيو بأجود أنواعه التعليم المتطور في كل انحاء العالم لايجاد وظيفة في مستقبل لا عيش فيه الا للاقوياء والمتعلمين ………….
    الشئ الذي لا افهمه هل هناك بيوت اشباح وتعذيب لامة بأكملها أكثر من ذلك، أم أن الامر مجرد لوثة تصيب كبار السن والمتخلفين من الصغار..
    نحن نعلم تماما أن هذا نتاج لسنوات الانقاذ العجاف وسوء ادارتها وفسادها
    ولكننا نتساءل، هل يكفي أن نبكي ليلا ونهارا كالنائحات على ما كان قد حصل، أم نقدم حلولا عملية لمشاكل في منتهى الخطورة تتفاقم على مدار الساعة وتتجه البلاد نحو الهاوية ونحن نتحدث عن الماضي البائس؟ هذا ما لم أفهمه ولا يمكن لأحد ان يفهمه سوى الدجاج الالكتروني وشلة المؤدلجين الذين لا يشعرون كيف أنهم دمروا البلد خلال عامين وبعد ثورة عظيمة تم اختطافها ولم يبقى منها سوى صوت النائحات والثكالى وصياح الدجاج الاالكتروني..
    هذا ما لم أفهمه .. أما من هو البليد الذي لا يفهم أو الشاطر الذي لا يفهم لان الامر غير مفهوم فحكمه عند ربي!
    الدجاج الالكتروني اختشوا.. جماعتكم فشلوا أشد من فشل الانقاذ، ومسالة ثورة الجياع مسألة وقت.. الناس بتموووووت

  7. كاتب التعليق المدعو ashshafokhallo يتحدث عن البحتري!!
    هو يدافع عن مقال بائس لا يقل بؤسا عن الاوضاع السيئة التي يعيشها الشعب السوداني اليوم..
    أما كونك فاهم أو تفهم او تتفهم أو تتفاهم أو تتفوهم الاوضاع المذرية هذه وتفرح بها وبمروجيها وجمليها وحملة بخورها في حفل الزار الأحمر الذي يعيشه السودان الان فدونك أبو الطيب المتنبي:
    اخلولق بذي العقل أن يشقى في النعيم
    بعقله
    واخو الجهالة في الشقاوة ينعم!!!

  8. السلام عليكم
    سؤال للاستاذ / فتحي الضو كاتب المقال
    ما معنى الهوس الديني بالتفصيل ؟

  9. أقسم بالله كلامك القلتو كلو صحيح يا حريكة وقطعة من الواقع.
    بس اللي يقول الحقيقة في هذا الزمن يقولوا ليك دا كوز ، يعني لازم تكرر نفس الكلام البكرروا فيه دا يا انت كوز، وحتى لوقلت انك بتعاني “أو حتى قلت واي الرووووووووووووب) يقولوا ليك كوز مندس ضد الثورة! يا تسكت ساكت يا تموت موتك وتاكل نارك
    بس البفوت حده ينقلب ضده

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..