مقالات سياسية

سياسات السودان الخارجية

الفاضل عباس محمد علي

ثمة طرفة أوردتها من قبل واعتذر لتكرارها؛ إذ فكّهني شيخ اتحادي مخضرم قائلاً: توجّه وفد اتحادي برئاسة اسماعيل الأزهري إلي مصر في اواخر الأربعينات للتفاوض مع حزب الوفد وحكومته حول مصير السودان، وطاب لهم المقام بفندق سميراميس وتمطوا فوق أرائكه المخملية الوثيرة لعامين كاملين؛ وفي هذه الأثناء ذهب النقراشي باشا رئيس الحكومة للتفاوض مع مجلس الأمن في نيو يورك متأبطاً ملفّي مصر والسودان. وذات مرة سأل يحيي الفضلي عن الوضع الراهن، ورد الأزهري قائلاً “القضية في حرز أمين، في يد النقراشي باشا بنيو يورك.” وهنا التفت يحيي لأحمد خير المحامي بشيء من الخبث: (ما رأيك ياأستاذ أحمد؟) فقال احمد خير: (رأيي، الترابة في خشم أماتنا ما دام سوينا أبو عنقرة دا رئيس ومشينا وراه.)

منذ تلك الأيام، أي منذ أواخر الحكم الثنائي، ظل معظم القادة السودانيين وسياساتهم تحت الوصاية المصرية، ظاهرة ومستترة، إلا من رحم ربي؛ ومن رحم ربي هذه تشمل الجبهة الاستقلالية: حزب الأمة والجبهة المعادية للاستعمار “الشيوعيين” واتحاد العمال واتحاد الشباب والاتحاد النسائي والحزب الجمهوري “محمود محمد طه”. ولقد مارست تلك الجبهة المشاكسة ذات الحس الوطني العالي حراكاً جماهيرياً وضغوطاً جعلت الأزهري وحزبه يعدّلون عن موقفهم الذي كان سيجعل من السودان ولاية مصرية، (ولسان حالهم يقول ألف نطّة و لا واحد بعبوص)؛ كما ساعد في تلك ال”يو تيرن” أن حكومة 23 يوليو المصرية أكلت بنيها وانقلبت علي رئيسها اللواء محمد نجيب وأودعته غياهب السجن السرمدي، (في غالب الظن لأنه وقف مع حق السودانيين في تقرير مصيرهم).

ولم تغفر الخديوية المصرية للإتحاديين موقفهم المتمرد (الآبق) الذي قاد لاستقلال السودان التام في 1956، فما انسلخ نيف وسنتين من عمر حكومة الأزهري ومن بعدها حكومة حزب الأمة برئاسة عبد الله بك خليل، المؤتلفة مع حزب الشعب الديمقراطي (الختمية)، حتي دبّروا انقلابا عسكرياً بقيادة الجنرال ابراهيم بك عبود الذي سرعان ما أبرم اتفاقيات السد العالي ومياه النيل عام 1959 بكل الشروط التي تمناها وأملاها المصريون، المجحفه تماماً في حق السودان؛ وكانت حصيلتها:

نصيب مصر السنوي من مياه النيل 55.5 مليار م م ، والسودان 18.5 مليار م م (مدبّساً) فيها إلي يوم القيامة come what may!.
ستكون للسد العالي بحيرة “ناصر” داخل الحدود السودانية تبتلع في جوفها محافظة حلفا بأسرها، ومن ضمنها إثنان وعشرون قرية ظلت باقية منذ آلاف السنين، بعمرانها ونخيلها وبساتينها وصناعاتها وآثارها؛ وتهجير شعبها إلي خشم القربة علي بعد أكثر من ألف ميل، إلي بيئة مستوحشة  ومناخ غير مألوف علي الإطلاق,
ليس هنالك تعويض يذكر، سوي بضع دراهم لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس ثمة تعويض عيني كخط كهربائي من تلك التوربينات الروسية التي تناهت شبكاتها إلي كل أطراف مصر حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، أو بخط سكة حديد، أو بأي مساهمة ولو رمزية في البنية التحتية بالإقليم الشمالي المتاخم لمصر “الشقيقة”.

ومرة أخرى، كان التدخل المخابراتي المصري سافراً في انقلاب مايو 1969 بقيادة المقدم جعفر نميري وشلة القوميين العرب والناصريين وضباط المخابرات المصرية الذين استغفلوا الشيوعيين واستنصروا بهم، ثم انقلبوا عليهم في يوليو 1971 وذبحوهم ونكلوا برموزهم وكوادرهم، وبددوا وشتتوا الحركة النقابية السودانية التي أسسها الشيوعيون والتقدميون السودانيون طوبة طوبة وحافظوا عليها منذ بداية القرن العشرين. وران علي السودان عهد من الذلة والذيلية لنظام السادات المصري، وكان السودان بحق وحقيق رجل إفريقيا المريض الذي لا يهش ولا ينش إلا بتعليمات من الخديوية المصرية.

وفي عهد رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي في الديمقراطية الثانية (1986 – 1989) بدا كأن السودان يميل نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية الخمينية، وظهرت مقولات معتسفة ومقحمة إقحاماً حول أوجه الشبه بين الثورة المهدوية وأختها الإيرانية، وظهرت في نفس الوقت تباشير النفوذ الإخواني المجسد للإتجاه الإسلامو عروبي في السياسة السودانية. وبين هذا وذاك لم تتبلور سياسة خارجية واضحة المعالم، وكان الانعطاف واضحاً صوب الاستلاف والشحدة والاتكاء المستخذي علي العون الخارجي لاستنقاذ البلاد من كبوتها الاقتصادية التى ورثتها من دكتاتورية نميري الكالحة.

وكان واضحاً أن اليمين الإسلامو عروبي قد استجمع قواه وبات جاهزاً للإنقضاض علي كراسي الحكم، وهذا ما فعل في 30 يونيو 1989 – انقلاب الترابي / البشير الذي فتح الأبواب علي مصاريعها لتحكم الإسلامو عروبيين في مصائر السودان.

ولقد كانت سياسات النظام الإخواني في بادئ الأمر متنمرة نحو النفوذ المصري في السودان، وهي في الحقيقة دعوة حق أريد بيها باطل: فأمموا جامعة القاهرة الفرع بدعوي كونها وكراً للمخابرات المصرية، وأسموها جامعة النيلين؛ وأغلقوا مكاتب الري المصري بالسودان. وكان لهم موقف مغاير للحكومة المصرية من الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990، ولم يكترثوا للخسائر التي ستحيق بالأقليات السودانية العاملة في دول الخليج العربية، والتى وقع الفأس علي رأسها مباشرة بعد ذلك الموقف المتكالب الأهوج من جانب حكومة الإخوان، إذ تم تشريد آلاف لسودانيين العاملين بالجيوش والشرطة بتلك الدول، وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة.

وكلل نظام الكيزان مواقفه المعادية للحكومة المصرية بمحاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أببا في يونيو 1995، وعند ذاك وقف حمار الشيخ في العقبة، إذ رد النظام المصري بالاحتلال الفوري لمثلث حلايب، بينما لاذت حكومة الخرطوم بصمت القبور، ولم تستثر شعبها، (كما فعل عبد الله خليل عام 1957 عندما حاول عبد الناصر ابتلاع المثلث، وبعد أيام قليلة تراجع وسحب جيشه الغازي، بفضل جسارة البي عبد الله خليل وجيش السودان، وبفضل الدبلوماسية المحنكة والشجاعة والعبقرية التي اضطلع بها وزير خارجيته محمد أحمد محجوب.) ليس ذلك فقط، إذ يقال إن حسني مبارك قام بتحريض ملس زيناوي علي الكف عن البحث عن الجناة في محاولة الاغتيال، وعلي صفع النظام السوداني باحتلال أراضيه، وبالفعل كانت تلك السنة – 1995 – هي بداية احتلال الفشقة الكبري والصغري بواسطة الجيش الإثيوبي المختبئ خلف “الشفتة”.

وعموماً، أورد النظام الاستبدادي الإخواني بلادنا موارد الإفلاس والتبعية في المجال الخارجي، فالتحم عضوياً وفكرياً وسياسياً بالنظام الإيراني وبتنظيم الإخوان المسلمين العالمي المتمركز في إيران وقطر وتركيا، وكان طرفاً في كل المؤامرات التي قام بها ذلك الحلف الشيطاني بالشرق الأوسط. ولكنه بدافع الانتهازية المتأصلة في دواخله، ظل يمد يده للجهات الخليجية المعادية للحلف الإيراني الإخواني، وبالفعل تعاون معهم في (عاصفة الحزم) التي هي أساساً ضد الحوثيين المدعومين ومحرضين من جانب النظام الإيراني. فكان النظام الإخواني السوداني (ركاب سرجين) وكان لا بد أن يهوي إلي الأرض في النهاية.

ولما تفجرت ثورة ديسمبر أبدت الجماهير المندلقة في الشوالرع مستوى من الوعي السياسي غير مسبوق في جميع أرجاء الشرق الأموسط؛ ومنذ الوهلة الأولي وضعت الجماهير الخطوط العريضة للسياسة الخارجية التي يحلمون بها:

لا محاور ولا أحلاف ولا ذيلية ولا أبوية.

من منطلق الحرية والسلام والعدالة نمد يد الصداقة، من موقع الندية، ونقف مع الشعوب المحبة للسلام، ونساند الشعوب المستعمرة والمضطهدة والمظلومة، ونقف ضد الحروب كوسيلة لفض النزاعات إذا كانت الحلول السلمية التفاوضية متاحة، ونطالب بترسيخ الحرية لنا ولسوانا.
نقف مع مصالح السودان أياً كانت، دون فقدان بوصلتنا الأخلاقية والسياسية التي صممتها ثورة الشعب وحددت تكتيكاتها واستراتيجيتها.

ولكن، لسوء الحظ كان الاختيار لأول وزير خارجية بعد نجاح الثورة غير موفق، إذ جاؤوا بسيدة متقدمة في السن قضت معظم سنين خدمتها في منظمة ألسكو العربية بموريتانيا، وتلك منظمة حاضنة للإخون المسلمين العرب، في بيئة شديدة التخلف والشوفينية والانغلاق، فجاء أداؤها عاكساً لذلك الخواء الفكري الذي انحدرت منه، وكانت “تتطبز” كل يوم، مثل تلك المقابلة التلفزيونية التى كانت ترد علي أسئلة المذيعة فيها من ورقة تحملها بيدها اليسري. ولقد جلست بالوزارة لأكثر من عام دون أن تعقد مؤتمراً تشاورياً حول السياسة الخارجية من منظور ثورة ديسمبر، ولم تغير في هياكل وأطقم السفارات والقنصليات التي تعج بمنسوبي النظام الآفل. ثم ذهبت تلك السيدة بخيرها وشرها. ماذا حدث بعد ذلك؟

ظلت الوزارة بلا وزير لنصف عام، مثل وزارة التربية حالياً، وذلك عنوان للعجز والتردد والضعف والمحاصصة الخانقة المكبلة لانطلاق الثورة. وأخيراً جاءتنا مريم الصادق التي كنا ننتظر منها الكثير، باعتبارها من ثوار ديسمبر، وباعتبار نضالها المعروف طوال سنوات القمع الكيزاني، وما تعرضت له من بطش وتنكيل أكسبها محبة السودانيين، بعكس شقيقها الذي كان مساعداً للبشير بالقصر الجمهوري. ولكن المنصورة اخفقت كثيراً:

بدأت عهدها بتملق النظام المصري، طالبةً منهم المجئ لاستعمار الأراضي السودانية الزائدة عن حاجتنا. ويقيني أن المصريين منذ ذلك اليوم أدركوا أننا تحت رحمتهم.
تحمست لسد النهضة اكثر مما يجب، فهو ملف تاريخياً تحت إشراف وزارة الري، بعكس الأمر في مصر حيث يتولي هذا الملف الخارجية وجهاز أمن الدولة. ولقد بالغت في اهتمامها بهذا الملف دون طائل، وشرقت وغربت وعادت بخفي حنين.
كان ذلك علي حساب واجباتها البيتية، وهي عقد مؤتمر تشاوري لماهية السياسة الخارجية التي نبتغي، ومثل تقليص السفارات التي توجد أكثر من خمسين بالمائة منها في دول هامشية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ومثل تطهير تلك السفارات من كوادر الإخوان المسلمين الذين لا زالوا متمكنين وقابضين لمخصصاتهم بالعملة الصعبة.
في مشيتها الأخيرة لنيو يورك أبلت بلاءاً حسناً، ولكنها “طبزت” طبزة نكراء بتفضيلها مخاطبة المجلس باللغة العربية، علي العكس من الوزير المصري الذي خاطبه بالانجليزية. ففي اختيارها العربية إشارة دبلوماسية إلي أنها من ضمن المعسكر والعقلية الإسلامو عروبية، وهذا بالضبط ما كان يتمناه الإثيوبيون الذين يرددون الإتهام للسودان بأنه لاذ بالجامعة وبأهله العرب ضد إثيوبيا الإفريقية، وبذلك نالوا حظوة لدي دول الإتحاد الإفريقي.

أرجو أن تلزم الأخت مريم الجابرة، وتصغي لعمالقة الحركة الوطنية الأحياء، أمد الله في أعمارهم، مثل ابراهيم طه أيوب ومهدي أمين التوم وعشرات الدبلوماسيين الذين تخلص منهم نظام البشير، والذين أبدوا الاستعداد للإنخراط في خدمة بلادهم، ولكن جماعة قحت مشغولة برزق اليوم باليوم، وبالمحاصصة الكريهة التي تفاقمت منذ اتفاقية جوبا الفاشلة. وإنني علي قناعة تامة بأنه لا خاب من استشار، وبأن المجد معقود لواؤه بشعبنا، شعب ثورة ديسمبر العبقرية.

حرية                  سلام           وعدالة

الثورة خيار الشعب.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..