يحي فضل الله

هاتف لحن ناجي القدسي

هاتف لحن ناجي القدسي

يحي فضل الله

في نهار شتوي من بدايات العام 1983م من القرن الماضي، يرن جرس الهاتف في كبانية قصر الشباب والأطفال، تلتقط “ليلى” عاملة الكبانية سماعة التلفون.
“ازيك يا ليلى ،معاك مصطفى سيد احمد”
“اهلاً يا استاذ”
“جهزي لي يحيى فضل الله ، انا بتصل بعد ربع ساعة”

وكان عليّ أن ارابض أمام شباك الكبانية حتى يرن جرس الهاتف واستلم من “ليلى” سماعة التلفون.
ـ “كيفك يا طبوز؟” ـ
“تمام، عندك شنو هسه؟”
ـ “منتظر ادخل محاضرة المسرح الأفريقي”
ـ “طيب، بعد داك ؟”
ـ “بكون بين المكتبة والكافتريا”
ـ “اسمعني، انا عايزك تجيني، لأنو حنبدأ بروفات مع ناجي القدسي في اغنية جديدة”
ـ “خلاص، كويس”
ـ “جيب معاك تمباك”

وصلت “الديم” حيث كان يسكن مصطفى، وجدت معه الاستاذ الموسيقار الملحن “ناجي القدسي” القادم منذ أشهر قليلة من اليمن، كان “ناجي القدسي” يبدو شاحباً لكنه براق العيون، يدخن بشراهة وبه نوع من ذلك القلق الذي يجعله يتحرك هنا وهناك وهو يشرح لمصطفى كيفية تعامله مع نص شعري طويل كتبه الصحفي الراحل “حسن ساتي” بالعامية السودانية، كان “ناجي القدسي” يقرأ هذا النص وهو يصول ويجول داخل مساحة البرندة وقد يتعداها الى الحوش، “ناجي القدسي” لا يقرأ النص دفعة واحدة ولكنه كان يقرأ دفقات مقسمة من النص حسب تصوره الموسيقي له، كان مصطفى متأهباً بالعود منتظراً ان يتوقف “ناجي القدسي” عن تجواله المنفعل مع النص وبين لحظة وأخرى ينظر اليّ مبتسماً لأعرف أنه يكتم ضحكة في الدواخل، كنا لا نستطيع أن نقذف بضحكتنا لأن “ناجي القدسي” كان حساساً حد الحردان بالاضافة إن “ناجي القدسي” كان وقتها يقدم محاضرة نادرة عن علاقة ملحن بنص شعري، قبل أن ينتهي “ناجي القدسي” من محاضرته ذات التجوال القلق كان التلفون في غرفة مصطفى سيد احمد يرن ويرن وكان مصطفى لا يستطيع أن يتحرك الى الغرفة ليس مراعاة لحساسية “ناجي القدسي” ولكن لأهمية ما كان يلهج به لسان “ناجي القدسي” الذي كان قد دخل في بث بعض الترانيم من اللحن المفترض.

ـ “يحيى، رد على التلفون”

ادخل غرفة مصطفى سيد احمد وكان التلفون يواصل رنينه وهو موضوع فوق البيانو القديم، ارفع سماعة التلفون.

ـ “ألو” ـ
“معاك ـ جمعة يا استاذ”
ـ “ازيك يا عمي جمعة، أنا يحيى”
ـ “ازيك يا بعام”
ـ “تمام يا عم جمعة، اسمعني، مصطفى ده مشغول مع ناجي”
ـ “خلاص قول ليهو، الفرقة تمام التمام واتفقنا نبدأ البروفة من خمسة”. ـ
“لا ، جميل” لم استطع اخبار مصطفى بمكالمة (عم جمعة) عازف الساكسفون في وقتها لأن “ناجي القدسي” كان لا يزال مستمتعاً بشروحاته للنص الملحن وكان مصطفى قد بدأ في التقاط تفاصيل البداية من اللحن وهو يتلمس ذلك عبر أوتار العود. توافد أعضاء الفرقة الموسيقية في ما قبل الخامسة وبدأ “ناجي القدسي” في تسليم الفرقة الموسيقية تفاصيل المقدمة اللحنية للأغنية بينما مصطفى يتابعه بالعود. من تلك المكالمة ظللت أتابع هذه التجربة الغنانية بين مصطفى سيد احمد وهذا الملحن العظيم “ناجي القدسي” والذي لاذ باليمن منحازاً الى موطن والده، كنت احرص أن أصل مصطفى في “الديم” قبل بداية البروفات وذلك لأن “ناجي القدسي” يكون في هذه اللحظات في حضوره الممتع والقلق، كانت هناك بعض الإنفلاتات عن موضوع الأغنية الجديدة ومن هذه الإنفلاتات أن يقوم مصطفى سيد احمد بأداء أغنية “الساقية” للشاعر الراحل المقيم عمر الطيب الدوش والتي هي من الحانه، كان مصطفى يغني “الساقية” و(ناجي القدسي) تنهمر منه الدموع ولأول مرة أرى (ناجي القدسي) وقد تخلى عن حركته القلقة وظل ساكناً في مكانه على السرير دون ان يتحرك وما انتهى مصطفى من أداء هذه الاغنية العظيمة حتي هب (ناجي القدسي) من مجلسه على السرير ووزع قلقه المتحرك على المكان كله.. كان يمشي هنا وهناك بعرجته الخفيفة ويتصايح ويتأوه ، مصطفى كان يراقب حركة (ناجي القدسي) تلك صامتاً وممسكاً بالعود واخيراً انتهت حركة ناجي القدسي بقبلة على رأس مصطفى قائلاً:

(من الليلة الغنية دي تغنيها انت بس)..

طبعاً، مصطفى لن ولم يفعل ذلك وكان (ناجي القدسي) يصر ان يبدأ بروفات الاغنية الجديدة بعد او قبل ان يغني له مصطفى (الساقية). ظلت الفرقة الموسيقية ومصطفى سيد احمد مع اوتار العود تعزف المقدمة اللحنية للأغنية الجديدة تلك لأكثر من اسبوعين.. كل ذلك ومصطفى لم يدخل بصوته ، كانت هذه المقدمة الموسيقية تتنامى مع كل بروفة ، يضيف اليها (ناجي القدسي) من خياله الموسيقي ويحذف ، يترك فكرة لحنية ليقفز الى اخرى.. ويفصل ادوار الألات الموسيقية ويوزع مداخلها ومخارجها ولزماتها داخل اللحن وكان العازفون قد بدأوا في التململ ومصطفى يتحلى بصبره المعهود ولا يتدخل مطلقا في قيادة (ناجي القدسي) للأوكسترا التي امامه. كنت قد انشغلت بتفاصيل التحضير الاولية لمشاريع التخرج فغبت عن هذه التجربة عدة بروفات الا ان جاء يوم استدعتني فيه الاخت (ليلى) عاملة الكبانية بقصر الشباب والاطفال لمكالمة مع مصطفى

. (يحيى ، يا اخي ناجي ده طفش مننا)..
-(كيف يعني ؟)..
-(تعرف امبارح كنا في البروفة عادي، زي كل يوم ، تصدق ، لحدي ما طفش كان شغال في المقدمة الموسيقية بس).
-(ياخي معقول يعني انت لحدي هسه ما دخلت في الغناء)..
_(بقول ليك المقدمة الموسيقية فاتت التلت ساعة وهو مصر لسه على الاضافات والحذف).
-(طيب الحصل شنو؟)..
-(واحد من العازفين قال ليهو يا استاذ المقدمة طويلة وصعبة قام ناجي هاج فينا كلنا بدون فرز وقال لي شوف يا مصطفى انا عايز اوركسترا من المانيا)..
-(المانيا)؟
-(ايوه ? المانيا دي ما المشكلة ، المشكلة انو بعد ما قال الكلام ده طلع من البيت زي القذيفة ، انا عايزك تشوفوا لي وين)..
-(يعني انا يا مصطفى حألم فيهو وين بس؟)
-(اتصرف ، يمكن يكون في الحيشان الثلاثة او يمكن تلم في زول يلمك فيهو)؟.

وكان قد اختفى الملحن العظيم (ناجي القدسي) مهملاً تلك التجربة ولم استطع لا انا ولا مصطفى ان نجد له اثراً بعد خروجه العاصف من منزل مصطفى في ذلك المساء الذي طالب فيه باوكسترا من المانيا ولم يملك مصطفى بعدها الا ان يجعل اوتار عوده تتحمل ذلك العبء الموسيقي الجميل ولا اذكر الآن من تلك الاغنية التي كتبها الصحفي الراحل (حسن ساتي) غير هذا المقطع الصغير:

(عشان اتونس واوانس).. وعرفت بعدها ان ناجي القدسي احد أهم الملحنين السودانيين قد عاد الى موطن ابيه اليمن وقد غير اسمه الى (ناجي الهيثمي).

تعليق واحد

  1. الرائع وبن الرائع ود فضل الله لك التحية ومتعك الله بالصحة والعافية
    اولا ليه الغياب ده نحن زعلناك في حاجة
    ثانيا انت رائع وجميل حتي لو كتبت موضوع انشاء اولي ابتدائي
    ثالثا ياخي الله يرضي عليك ماتطول الغياب علشان نحن بطلنا السياسيه خالص
    ولك الود 😎

  2. الرائع والمبدع يحي فضل الله أرجو منك اصدار كتاب يحكي عن قصة الراحل المقيم الأستاذ الفنان المبدع مصطفي سيد أحمد
    ولك من كل الشكر والتقدير

  3. اخ يحى نشكرك على هذا الكلام بس احب اوضح معلومه عن الاستاذ الموسيقار ناجي القدسي ..وهي انه لم يغير اسمه لقب الهيثمي هو لفب عائلته ولكن اسم القدسي كان لقب الشهره في السودان ومن كثر حبه للقدس. وانا اعلم هذه المعلومات لانه خالي ناجي اخبرني بها وهو الان في السودان بعد المده الطويله التي قضاها في اليمن. وشكرا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..