يحي فضل الله

توتو كورو ينسج ايقاع نومه

تداعيات

تك تاك تك
تك تاك تك
تك تاك تك
تك تاك تك
تك تاك تك
تك تاك تك
علي إحدى برندات السوق الكبير كان توتوكورو يحاول بهذه الأصوات يستدعي النوم ،عادة ما يفعل ذلك ، يجلس كما اتفق، هي جلسة أهم ما فيها أن تكون العصا أو عود ناشف أو قطعة خشبية مثبتة علي الأرض ما بين القدمين الممدوتين باتساع معقول مثبتة علي شكل عامودي، تلك العصا أو غيرها يمسكها بيده اليسري بينما اليمنى تحدث ذلك الصوت المألوف حين تضرب بعصا أخرى علي العصا العامودية التي بين القدمين ،دائما يضرب توتو كورو تلك العصا بأخرى . يبدأ بالضرب من أسفل الى أعلى ومن أعلى الى أسفل ويتشكل ذلك الجسم العاري تماما وفقا لإيقاع تلك الضربات
تك تاك تك
تك تاك تك
تعلو الضربات وتنخفض وبين الارتفاع والانخفاض يتداخل النعاس ، يتمايل توتوكورو مع إيقاع الضربات ، يتمايل وتفقد العصا التي بين القدمين عاموديتها تميل مع تمايل جسمه مع الضربات حتى يستقر مرقده علي الجنب الأيسر وحين يبدأ صوت الضربات في التلاشى ذلك الممرحل، عادة ما يكون صوت الضربات عاليا من ثم يبدأ في الانخفاض التدريجي إلى أن يتلاشى ، حينها يكون توتوكورو قد دخل عوالم نومه العميق ذلك النوم المستدعى بذلك الإيقاع المميز.
تك تاك تك
تك تاك تك
يحدث ذلك النوم في أي مكان في المدينة ،علي برندات السوق الكبير ،تحت رواكيب السوق البره ، تحت ظل أو نيمة أو هجليجة ،أمام المقاهي والمطاعم .
أمام زريبة العيش بالقرب من طاحونة منولي ، بين الدروب والزقاقات الصغيرة وفي الأحياء و الشوارع الرئيسية داخل المدينة حتى أن السيارات لا تملك ألا أن تحترم هذا النائم العظيم فتخرج عن الشارع بأقل ما يمكنك من إزعاج .
يحدث ذلك النوم في أي مكان بالمدينة متى ما رغب في ذلك ووقتما شعر بالحاجة ألي النوم ،في حي السوق، في الملكية ،الرديف، البان الجديد ،كليمو ، تافرى ، حجر المك، قعر الحجر، حجر النار، حي الفقراء، السمة، أم بطاح، مرتا ، كلبا، حي الموظفين، العصا صير، حي الإنجليز، الاشلاق، في أي
مكان، متي شعر بتلك الرغبة ، يجلس كما اتفق ، يباعد بين قدميه ويعزف علي
العصاتين وإذا لم يتوفر له ذلك سيتبدل العصى أو الأعواد بحجرين وبعدها ينسج إيقاع نومه .
تخرج نوبة القادرية من البان جديد وتدور بصخبها الممتع حول الحي والأحياء القريبة ويكون “توتوكورو” ممتزجا مع تلك الزفة بكل حيويته لا يملك ألا يعبر بتلك الصرخات التي جانبت لغة الناس العادية .
حين تفرقع سياط راقصي الكمبلا المنتشرين في المدينة في مواسم الحصاد ،الرجال بقرون الثيران علي الرؤوس والنساء و البنات بأصواتهن الرقيقة العذبة يكون “توتوكورو” قد رقص مشاركا برقصة تعبيرية لا تتقيد علي الإطلاق بقواعد رقصة الكمبلا .
حين يكون عمى “القديل” في إحدى موجاته الخصوصية يجوب المدينة نافخا علي القرن ملونا أثيرها بنغماته المألوفة ، “توتوكورو” لا يملك ألا أن يركض وراء “القديل” وقرنه أينما ذهب وكأن نغمات القرن لا تفتا تناديه .
خرج مرة لورى اسماعيل ضجضج من قعر الحجر متجها إلى “حجر النار” كان اسماعيل ضجضج محتشدا بالطرب كما يجب إذ كانت دلوكة بنات”قعر الحجر” المعروفة بتراكيبها العذبة قد اضفت علي رزاز ذلك المساء الخريفي طعم التألق والفرح ، حين مرت هذه السيرة التي يقودها “اسماعيل ضجضج” بطربه المميز علي مقربة من سوق الملكية ، كان وقتها “توتوكورو” يأكل “الهالوك” وحين التقطت أذناه أصوات البنات التي كانت تغني بلكنة محببة .
قصدك قصدك
مشتاقين ما لقو
قصدي فوق السجائر
ولع لي نحرقو
قذف “توتو كورو” بالهالوك أرضا وصرخ صرخته التعبيرية وركض نحو لورى السيرة ، كان يجرى خلف اللوري ويهزم غناء البنات و الدلوكة فيه اي شعور بالتعب، جرى خلف اللوري من طرب حتى “حجر النار”.
وفي المناسبات القومية حيث تتنوع الرقصات الشعبية علي ميدان “الحرية” يأخذ “توتوكورو” من كل رقصة بنصيب ولكن علي طريقته الخاصة .
أنغام “الجالوه” التي تنبعث من هنا وهناك في شكل حفلات رقص صغيرة كانت الجبال التي تحيط بالمدينة من كل جانب تحتصن هذه الأنغام ومن ثم توزعها ألي حيث يمكن للصدي أن يذهب ، كذلك كان “توتوكورو” يتجول هنا وهناك بين هذه الحفلات الصغيرة ولا ينسى أن يعلن عن طربه الخاص .
“توتو كورو” له ذلك الحضور الاجتماعي المكثف ليس في الأفراح فقط ولكن في كل التفاصيل الاجتماعية ، لا يذكر أحد أن “توتوكورو” قد غاب عن كل التظاهرات الصغيرة والكبيرة والمفرحة والمحزنة الشعبية والرسمية اصبح مألوفا بعريه المطلق ، يعرف الناس معانى صرخته ، يفهمونها ومن ثم يستجبيون لرغبته ،لم يحدث مطلقا أن غاب “توتوكورو” عن الحضور في دفن من مات أينما كان الدفن في مقابر البان جديد ،في السمه ،في كليمو ،في حجر المك وحي الفقراء كان يأتي إلى المقابر ويصرخ صرخة ذات أنين متميز تختلف عن كل صرخاته ولا يذهب حتى تنتهي مراسم الدفن .
يمتلك” توتو كورو” كل المدينة يتصرف فيها كيف يشاء لا تنافسه في هذه الملكية ألا أشجار النيم ، يأكل متي يريد ويأكل ما يريد، لا يتقيد بنوع من الطعام ، يأكل اللحوم وهى غير مطهية ، يقف “توتوكورو” أمام زنك الجزارة كل صباح ويلتهم اللحم والكبد من علي تربيزة “أبو شيبة” أو”احمد طويل” ، يأكل كل ما يشاء له ويصرخ معبرا عن امتنانه ويذهب بعدها
إلى زنك الخضار والفواكه ويأكل كل ما يريد وينطلق إلى حيث يشرب “المريسة” أو”العسلية” وهنا الأمر متروك إلى حيث خياراته الكثيرة ،رغم كل ذلك لم يعرف جسد “توتوكورو” العاري المرض ، تغسله الأمطار وتجففه الشمس ،يتحمل هذا الجسد كل
حرارة صيف كاد قلي المعروف، كما يتحمل البرد وزيفة الخريف ، لا يلاحظ عليه تقدم العمر ولا يفرط مطلقا في حيويته العالية التي تعلن عن وجوده المكثف داخل المدينة التي اصبح من أهم رموزها
كانت بصات “أبو رجيلة” تتهادي بلونها الأصفر المميز علي تلك الشوارع داخل المدينة التي سلفتت ، أخير اصبح لمدينة كاد قلي دار رياضة بالرغم من أن هناك جانبا من تلك الدار قد انهار والسبب التلاعب في الأسمنت ،هكذا تقول الشائعة ،الكهرباء استطاعت أن تهزم تلك اللمبات الحميمة والتي شهدت علي كل التألف في أحياء المدينة ، الطلاب و التلاميذ مشغلون بفعاليات احتفالات أعياد استقلال ،مصنع نسيج كاد قلي يستعد لبدء العمل تم بناء مسرح و أطلق عليه اسم المسرح القومي ،تم بناء قصر للضيافة في مدخل المدينة ، المدخل تتعانق فيه الأشجار حريصة علي عدم تسرب ضوء الشمس ، بنيت قرية نموذجية ، في تحولها من محافظة إلى مديرية كانت كاد قلي بكل تفاصيلها تستعد لاحتفالات السودان بأعياد الاستقلال ، كان ذلك في العام 1976م ، في ذلك العام وقع الاختيار علي كادقلي كي تكون مكانا لهذا الاحتفال حسب خطة الحكومة آنذاك في ان تستثمر اعياد الاستقلال كمناسبة تتيح للمدن الصغيرة ان تنمو و تتطور الي الامام .
في أحد اجتماعات اللجنة العليا للاحتفالات بعد أن اطمأنت اللجنة على التفاصيل انتبه أحد اعضاءاللجنة لامر هام ومن باب حرصه علي مظهر المدينة العام أمام الزوار والضيوف الأجانب ، انتبه ذلك العضو المحترم ونقل ذلك الانتباه الخطير الي اللجنة قائلا ـ ” طبعا نحن عندما ضيوف من دول أجنبية حتحضر الاحتفالات مع السيد الرئيس عشان كدة بشوف حقو نحن نكون حريصين علي مظهر المدينة ومن باب هذا الحرص أنا بقترح انو زول زي “توتوكورو” دة نحاول نبعدو عن المدينة في أيام الاحتفالات لانو دي عورة واضحة ”
ـ و الله دي ملاحظة جديرة بالاحترام واهتمام ـ
ـ نحن حقو ما نبعده من المدينة حقو نشوف حل تأني ـ
ـ يا أخونا خلونا في المهم ـ
ـ لا أنت بتفتكر المسألة دي مش مهمة ـ
ـ والله يا أخونا موضوع توتوكورو حقوا نعالجو بي حكمة ـ
ـ والله أنا افتكر حقو نعتقلو ـ
ـ نعتقلو ؟ كيف ؟ ـ
وهكذا في احتفالات السودان في مدينة كاد قلي قررت اللجنة العليا للاحتفالات اعتقال المواطن”توتوكورو” اعتقالا تحفظيا لحين انتهاء الاحتفالات .
وسط دهشة الحاضرين لذلك الحدث تم القبض علي “توتوكورو” من قبل رجال الشرطة أمام زنك الخضار قبل ثلاثة أيام من بداية الاحتفال كان وقتها “توتوكورو” كعادته في كل صباح يتهياء لتناول وجبة من الخضراوات و الفواكه ، حين قبض عليه صرخ صرخة مختلفة عن كل صرخاته ولاول مرة عرف الناس أن ل “توتوكورو” صرخة تعلن عن الرفض ،انتشر خبر الاعتقال في كل المدينة، حاول البعض الاحتجاج ،استغل أحد الأحزاب السرية هذا الاعتقال واستطاع أن يسرب بيانا شديد اللهجة بين الناس ، يتحدث البيان وبشكل مباشر عن الاعتداء علي الحريات .
“توتوكورو” داخل السجن اضرب عن الطعام رفض أن يأكل أو يشرب واستمر في ممارسة صرخاته الغريبة .
سقط أحد حوائط دار الرياضة التي شيدت ضمن إنجازات الاحتفالات ،انحرفت عربة مدير البوليس عن الشارع اثر انفلات الدر كسون لتصطدم بشجرة لبخ ضخمة ، عضو لجنة الاحتفالات الذي انتبه لامر توتو كورو تسمم بعشاء الليلة السابقة الدسم وتم حجره بالمستشفي ،تم تأجيل عدد من الأعراس و المناسبات الخاصة لحين
خروج “توتو كورو” من المعتقل ، تمت إحالة كل الحوادث السابقة إلى سبب وحيد وهو اعتقال “توتوكورو” وانتشرت بين الناس فكرة انه شخصية غير عادية ، شخصية خارقة وجنحت بعض التفسيرات و أعلنت إن “توتوكورو” من أهل الباطن .
واصل “توتو كورو” الإضراب عن الطعام ولم يتخل عن صراخه وتخلي تماما عن طقسه الإيقاعي الباحث عن النعاس .
اضطرت اللجنة العليا للاحتفالات أن تجتمع بخصوص أمر “توتوكورو” اثر الأحداث التي حدثت بعد اعتقاله وخاصة أن عدم عادية هذه الشخصية قد أصابت أعضاء اللجنة بخوف ميتافيزيقي غير مضمون العواقب ، ناقش الاجتماع وبجدية شديدة إضرابه عن الطعام ومحاولة استغلال اعتقاله سياسيا من قبل بعض الجهات مما قد يؤثر علي الاحتفالات لذلك قرر الاجتماع أن يطلق سراح “توتوكورو” شريطة أن تفصل له ملابس تكسو عريه وتمتاز بالمتانة .
وفي مساء اليوم السابق للاحتفالات ادخل “توتوكورو” في سجن من الملابس المفصلة من قماش الكاكي المتين واخرج من السجن ،حين خرج توتوكورو من المعتقل لم تبدا عليه الفرحة بسبب تلك الملابس ، كان لا يزال يصرخ معلنا رفضه ، خرج “توتوكورو” يحمل سجنه في بدنه، لذلك ابتعد قليلا عن ذلك المكان اللئيم ، المكان الذي رفض فيه الأكل و الشراب وبكل قوته مزق تلك الملابس التي تكومت أمام قدميه وخرج منها صارخا صرخة منتصرعظيم ، وركض نحو السوق، أكل ، شرب وبحث عن عصا تين وجلس أمام إحدى الفرندات وامتلأ الليل بذلك الإيقاع العذب الذي يبحث عن النعاس .
تك تاك تك
تك تاك تك
تك
تاك
تك
تك
تاك
تك

[email][email protected][/email]‏

تعليق واحد

  1. حليل زمن توتو كورو ومصطفى تتي والطيب شريعة وخريف كادوقلي الجميلة.. فس سبيعينات القرن السابق بس لكين ليه نسيت كُلبا وحتى الشعير وأم سفيفة…زمن

  2. عزيزي يحيي ، لك كل الود . شكرا علي اضافة البهجة الي هذا اليوم المشمش . انت ترسم صورة رائعة لاهلنا النوبة وكادوقلي الحبيبة . شكرا شكرا

  3. أخي يحي
    سلامات ومشتاقين
    يا اخي اتحفتنا بهذه القصاصة الجميلية من سيرة كادوقلي العطرة وبمهارة فاقت مقصات عبد المنعم وهناي واسماعيل وزة وقنبلة مجتمعين قصصت لنا شتاء كادوقلي عام 76 و77 ايام احتفالات حكومة مايو في مجدها باعياد الاستقلال في مدينة كادوقلي بقيادة ابن الجبال الذي لا يشق له غيار خالنا المرحوم محمود حسيب. وكما كان يفعل لوري المرحوم اسماعيل (هجام الجبال) ادخلتنا الي جوف الجبال. ثم عدت بنا الي السوق الجوة وطرابيز الجزارة وذكرتنا بعمك ابو شيبة وخليل البونو ومحمد سعيد الهائل جسدا وقلبا. ثم اخذتنا في جولة سياحية الي السوق البرة المعرض الحقيقي لخيرات الجبال من بروش وقفف وصناعات يدوية ماهرة للعناقريب والهبابات والريكات (جمع ريكة وتصنع من القنا وليس السحف) والفنادك بانواعها والحلوك والدوم والدليب وكان يعرض كل ذلك في الجزء الخلفي من السوق امام السينما والجزء الامامي من السوق كان يعج بالدكانين الصغيرة والملابس المفصلة والسكسك.

    سياحتك المفرحة في الزمان والمكان الكدوقلاوي ابهجت لنا اليوم. وفي زماننا هذا وقد تبدل الحال اصبحت ضرورة علاجية نستشفي بها مما نحن فيه بؤس وشر

    شكرا لك اخي يحي

  4. يا سلام عليك يا يحي رجعتنا لكادقلي المدينة و كادقلي الثانوية المدرسة او تلو و داخليات شيكان و قدير و فتح و عجبنا و السفرة و عمك الجوكر و الناظر ونسي و أستاذ امبدة و حياتي و محمد حسين بتاع ألفرنسي و اتحاد الطلبة و لجنة الطعام و اولاد أبيي ناس لوكا بيونج و اولاد الدلنج و بابنوسة و الفولة و لقاوة و تلودي وييييييييييييييييييالها من أيام لن تعود أما كادقلي المدينة فكانت مدينة و مطعم الإخلاص و ميلانو لن ننسي أيامك يا تلو و حجر المك و حي الكوز

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..