( البشير – نيتشة – مروة التجاني )

(1) كتبت الأستاذة مروة التجاني نصا في ( الراكوبة ) تعليقا على خطاب البشير المفاجأة وذلك بتاريخ الثلثاء 28- يناير ? 2014 ختمته قائلة : ” رغم أن الخطاب جاء محبطا لأن الآمال كانت كبيرة إلا أن هناك نقطة تحتسب لصالح الرئيس لأول مرة يحتم الواجب ذكرها , وهي تحدثه بلغة حملت دلالات فلسفية عميقة بدءاً ( بنيتشة ) وفلسفته الأخلاقية .. رغم التحفظات لمن لا يفهمها جيدا ..”
(2) ولكن الذي يفهم هذه الفلسفة التدميرية التي تمجد وتعظم الأقوياء وتهزأ وتعاف بمبادئ ( التسامح ) والطيبة ورعاية الضعفاء والفقراء جيدا فلن يجد عبارة واحدة فيها تحسب لصالح البشير وربما خطر هذا الاسم السوداني في عقل الكاتبة لأن الرجلين يتشابهان ويتساوقان معا في كثير من لمحات حياتهما وأحلامهما التاريخية . ولأن الرجلين في نهاية المطاف قد حققا قدرا من التدمير الأخلاقي أحدهما بالكلمات والآخر بالسطحية ولأنهما عاشا معا في عصر كان دائم النزيف والرعاف والجروح والموت فقد كان ( نيتشة ) مقدمة للفاشية والعنصرية والاستعلاء في أوربا بينما كان الآخر ( السوداني ) أداة في يد التطرف الديني الذي يقتل ويبيد وفي فمه ابتسامة .. ويعذب ويمحق وفي لسانه أدعية وتراتيل .
(3) ولد فردريك نيتشة في عام 1844 .. وكان والده قسيسا .. وأيضا أطلق عليه أصدقاؤه لقب القسيس لأنه كان يقرأ الإنجيل بصوت مؤثر .. وبدأ شاعرا وعالم لغة .. وكان ممن مهدوا ( لعلم النفس) .. وكتب حول المبادئ الأخلاقية وجذورها خاصة في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ) كما كتب حول ( النفعية ) وأصولها .. وسجل الكثير من الآراء حول ( المثالية الألمانية ) و ( الحداثة ) . وتميزت كتبه بعمق وبراعة اللغة .. وكانت أعماله الفلسفية إنجيلا للنازية والفاشية وعلو كعب الجنس الآري على بقية الشعوب ومعاداة السامية .. وروج لأفكار اعتبرها البعض نبراسا للاعقلانية والعدمية كما سعى لتبيان أخطاء القيم السائدة وذلك بأن كشف طرق عملها وبذلك كان أول من درس الأخلاق دراسة تفصيلية .. وقدم تصورا عن تشكل الوعي والضمير وكذلك عن إشكالية الموت .
(4) عندما تسمع عبارة ( نقطة تحتسب لصالح الرئيس لأول مرة ) فلابد أن يخطر ببالك أن الرئيس قرأ نيتشة وطوف في بعض لياليه الكثيرة الخاوية بكتب مثل ( المأساة الألمانية ) أو كتاب ( هكذا تحدث زرادشت ) أو ( أفول الأصنام ) أو كتاب ( عدو المسيح ) وأنه تأثر بفلسفته ( الحداثية ) الغميسة الشائكة ولذا جاء خطابه القنبلة محتذيا الفيلسوف الألماني حذو النعل بالنعل أو حذو ( الجزمة بالجزمة) فكان خطابا عميقا مبحرا في عوالم المنطق الشكلي والرياضي والرمزي .. مع أن الكل يعرفون أنه لم يكتب الخطاب ولم يستهدي كاتبه بأفكاره أو موجهاته أو أمنياته .. وإنما اختير أيضا بوصفه الرئيس ليكون الممثل الوحيد في مسرح للتهريج والإغاظة والعبث .. وليقول لشيوخ السياسية السودانية المعتقين بالشيب والحناء منذ أن حفر أجدادنا القدماء ( البحر ) : ” نحل الحكومة ؟ يا سلام !!” ” يتنحى الرئيس من منصبه الذي ( جابه ) بالبندقية ؟ طيب _ أرعى يا حمار لمن تقوم النجيلة .” ثم انتهى من الخطاب ونزل من المنصة ومازال الشيوخ ( رحمة الله عليهم ) ينتظرون المفاجأة .. نقطة تحتسب لصالح الرئيس لو كان فردريك نيتشة المصاب بالجنوب من مرض ( السفلس ) الذي التقطه من مواخير مدينة كولونيا الألمانية مذكورا بالخير والبركات .. نقطة تحتسب لصالح الرئيس لو كان الشيخ ( نيتشة ) جالسا مع الحضور المغشوش المضلل ليصرح قائلا في عدة نقاط .
أ- الخطاب ما هو إلا معركة حربية انتصر فيها المهزوم .
ب_ الخطاب يعزز الإحباط والركود النفسي والعقلي في الشعب .. فالرئيس يقول : إذا كنت أنا أيها المجرمون لا أستطيع الإصلاح ( ما استطعت ) .. فمن يستطيع بعدي ؟
ج- ينظر الخطاب إلى الشعب بوصفه عدوا ( مارقا ) ( خطيرا ) يجب ( كسره ) وتمريغ أنفه تحت (الجزمة ) .
د- المفاجأة لو حدثت كانت ستكون قارعة مدوية .. فهذا سيعني أن الرئيس كان مدسوسا على الإخوان وأنه والآن فقط اعترف بأنه ( معارضة ) .
ه- المفاجأة خدعة محسوبة الأركان من أجل خلق غضب عارم كي تمتصه أزمات الحياة فيما بعد بدلا من تركه في النفوس كي ينفجر في ثورة أقوى من ثورة سبتمبر .
و- ليس عند الإنقاذ شيء تقدمه لأحد .. لأن ما عندها قسمته لأهل التمكين وأحزاب ( الفكة ) .
ك- لماذا حلم الناس بكل هذه المفاجآت ؟ ولماذا لم يحلم معهم الرئيس بهذه الأحلام السعيدة في هذا العالم القاسي ؟ أليس من واجب الرؤساء الكبار أن يطعموا الناس أوهاما وأن يبلوا أفواههم بالسراب ؟
هل ضننتم على الناس حتى بقول أبي الطيب المتنبئ ( لا خيل عندك تهديها ولا مال * فليسعد النطق إن لم تسعد الحال ) .. هل الشعب في وادي ( القرى ) والرئيس في وادي ( هور ) ؟ هل الرئيس معزول عن أحلام الناس الصغيرة إلى هذه الدرجة ؟ حتى الأوهام والسراب ضننتم بها . أم أن هذه الأحلام المشروعة التي هي حق كل شعب وحق كل أمة هي التي يمكن أن تودي بالرئيس .. وأن تحطم ملكه المغتصب ..وأن تدخله السجن ؟ أي أن أحلام الشعب السعيدة هي ( كوابيس ) الرئيس البائسة . هل هما خطان متوازيان لا يجمع بينهما سوى ( النظر ) وصدى الطائرات ؟ ألا يحق لنا أن نقول عنكم أيضا ما قاله أبو الطيب أحمد بن الحسين .. ( أماتكم من قبل موتكم الجهل * وجركم من خفة بكم النمل ) ..
(5) كان البشير ونيتشة يتفقان في كثير من الوجوه وإن دقت وخفيت عن العيون .. فنيتشه كان يرى في الدين انحطاطا وكان مبشرا ( بالعدميه ) و( النازية ) وكان يدعو لاستعباد الشعوب وقتلها وينادي بشهوة الدم والكبرياء و (الغرائز الحيوانية ) ودعا نيتشه للإنسان الأعلى وزاد عليه البشير بأن مكن طائفة على الغالبية من الشعب وجعل الدين في آخر مراحل انحطاطه خصيما للحياة ومعاديا للوطنية والوطن ومدمرا للأحاسيس المدنية وقال نيتشه إن الله قد مات مختنقا برحمته وجميع الآلهة ماتت ولكن البشير يصيح كل يوم هي لله هي لله ( لا للسلطة ولا للجاه ) ويشبه البشير ( الكافر نيتشه ) في أنهما معا ضد الحريات الشخصية وضد الانفتاح بل كان نيتشه يكره الانجليز ويعتبرهم أحط شعب لأنهم يؤمنون بالديمقراطية وتبادل السلطة وقيم الحياة الفردية .
يقول نيتشه وأظنه يعني البشير ” من يشاء أن يكون خالقا , سواء في الخير أو في الشر , فعليه أولا أن يكون هداما , وأن يحطم القيم . ”
كان نيتشه يغار من المسيح .. وكان البشير يغار من الترابي .. وكان نيتشة متناقضا .. وكان البشير أحادي الاتجاه ( أصنج ) التفكير.. ولكنه يتشابه مع هذا التناقض في أن أيدي الأقوياء من بني ماسون والتنظيم العالمي يحركونه كما تحرك الريح ( العصافة ) وتحركه الأيدي الخشنة والناعمة إلى درجة أنه يبشر بالمفاجآت فيأتي الشعب إلى التلفزيون متهللا فيجد أنه يكذب ويراوغ وينفذ خطط دوائر علم النفس الاجتماعي والخبراء المستوردين في شعب فقير .. وسيظل يكذب إلى أن يأتي يوم يصيح فيه ” أكلني النمر ” دون أن يتجرأ الشعب على إدارة مفتاح الشاشة . أو فتح الباب ليعرفوا من الذي يستغيث؟ .
كان نيتشة يحب الموسيقى ويدمن أعمال ريتشارد فاكنر أما البشير فهو يحب الرقص أمام الجماهير في الانتخابات ويرقص على أنغام ( دخلوها وصقيرا حام ) وإذا اعترض نيتشه على الدين ( المسيحية ) لأنه عنده سبب لما أسماه أخلاق ( العبيد ) فأن البشير لا يعترض على ذلك بتاتا ويستعمل كلمة العبيد في الكثير من قفشاته وحواراته اللدنية مع الخلصاء والمستهزئين .
إن كان نيتشة يشبه البشير في شيء فهو أن تيتشة بأفكاره اللغوية وكتبه قد مهد للحرب العالمية الثانية بكل جرائمها العنصرية ونزعات القوة والاستعلاء تلك التي راح ضحيتها 50 مليون إنسان أما البشير فقد مهد لتمزيق وطن أكبر من ألمانيا وأكثر منها ثروة بفصل الجنوب وحصر أمنياته الضحلة في مثلث حمدي مفرطا في الأمن في دارفور وجبال النوبة وفي مستقبل الأجيال .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرآ للمجهود المقدر لشرح ما هو خفى على كثير من كتبة ومسودى الصحف تحت مسميات(صحفيات بلاقيود) أى بمعنى أنهم لم يتم قيدهم بالسجل(ولا غير!).مرة أخرى شكرآ …

  2. زميل الدراسة في جامعة كانت معرفة بالألف واللام .. يكفي أن تقول أنا ماشي “الجامعة” فيعرف السامع أي جامعة تقصد .. وفي زمن أبلج وبهيج (نسبيا). في هذا المقال تجلت رصانة قلمك وموسوعية معرفتك .. عادت بي الذكريات إلي محاولاتك في كتابة الرواية وعرضها علي الدكتور محمد عبدالحي – عليه رحمة الله. أنا أقول ذلك رغم تعاليك علي بإهمال رسائلي الودية لك. لكن ولا يهمك هكذا حال الدنيا.

  3. الاستاذ ابو عاقلة

    تعليق بسيط

    نيتشة لم يدع لاستعباد الشعوب و قتلها ، كما لم يبشر بالنازية و لا العدمية. كون افكاره قد صارت انجيلاً لأحد ، لايعني ان نيتشة كان ليقبل ذلك في حياته. فهو لم يكن نازياً و لا حتى معاديا للسامية. ارجو ان تعيد قراته إن فعلت.

  4. سلام أستاذ خالد ، كما ذكرت انا قلت رغم التحفظات لمن لا يفهمها جيداً ، ودى كانت مشكلة النازية ويقال إنهم فهموا فكر نيتشة غلط ، لأن نيتشة صعب وسهل فى وقت واحد ، خلينا فى النازية اولا فى فيلسوفة إسمها حنا أرنديت كانت بتبحث ليه الفكر الأنسانى وصلنا للنازية ؟ وقالت : انا ما حأبداء البحث من نيتشة وهيغل وماركس وفعلاً رجعت ببحثها لحد أرسطو وبينت أن المشكلة بتبداء من هناك وبالمناسبة هى كانت تلميذة هيدجر ، وفعلا هى مشكلة لو الأنقاذ فهمت فلسفة نيتشة زى ما فهمتها النازية .
    بالنسبة لنيتشة فى حد ذاته هو ما بشبه البشير خاصة انك ذكرت ان نيتشة كان عدمى وده فكر مغلوط لأن نيتشة نفسه إختف لاحقا مع اعز اصدقائه شوبنهاور الاب الروحى للعدمية ، أما سيوران المفكر العدمى فأنتقد نيتشة نفسه ، بل العكس نيتشة كان وجودى عدمى بل اقرب للوجودية كما يقول الأستاذ فؤاد زكريا أن تفكيرههو تجدد الوجود الانساني فليس للانسان ماهية ثابتة بل ان وجوده سابق على ماهيته فمن خلال وجود الانسان تتحقق ماهيته وليست له اية ماهية ثابتة تتحدد مقدما.
    وحين حطم نيتشة الميتافيزيقا بما فيها الدين لم يقل أبداً بإلغاء الدين بل ضرورة إلغاء فكرة ان يكون الدين هو القوة التى تسيطر بها الحكومات على الشعوب كما تفعل الحكومات الأسلامية بأستخدامه كأداة لحكم الشعوب حتى لو بالشعارات وهى غير حريصة عليه .
    حين كان نيتشة يستمع لفاغنر وهو الذى ابتدع ” الألم العبقرى ” كان يقول بسمو الموسيقى عامة وماهيتها فى إحداث اى فعل فالحياة بدونها جحيم لا يطاق وطبعا السيد الرئيس لا يظنه قد بلغ هذا الهدف السامى .
    أما تحدثك عن العنصريةلأن نيتشة أشار الى فكرة الأنسان المتفوق ” السوبر مان ” التى أسس لها لها فهو كان ” يرى تجاوز الماهية الثابتة، وحشد القوى الخالقة للانسان حتى يعلو بها على ذاته دوما”، وهى تعنى أن يتجاوز الأنسان نفسه وما يفكر بيها لوحدها بعيدا عن القوى الخالقة حوله بما ذلك الأرض أو الوطن أو الآخرين إذن انا اتفق معك تماما فى الانقاذ فهمت النقطة دى غلط ” علو الذات ” اى العنصرية فى حين كان نيتشة يرمى الى قال الوفاء للأرض ” بكل ما تحمله الكلمة من دلالات واسعة تشمل الآخر ” والمحافظة عليها وهى ما لم تفعلة الحكومة .

    يبقى السؤال : أظنك إتفقت ظمنيا أن الإنقاذ حملت فكر نيتشة بشكل خاطئ الى حد ما كما فعل النازيون فكيف يمكن تفكيك هذه العقلية من وجهة نظرك ؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..