بين المكتبتين!ا

جسور
رقية وراق
في الشارع الرئيسي للمدينة الكندية الصغيرة التي أسكن فيها ، يقع محل لبيع الكتب يلفت اليه الأنظار بأكوام الكتب المتراصة في صناديق الورق المقوى بأسعار زهيدة توحي لك بأن المحل في حالة تأهب لاغلاق وشيك ، وقد دخلت المحل أكثر من مرة بهذه الروح دون أن أسأل عن أكيدة الاغلاق ، وأشتريت عشرات الكتب وحملتها لمسافات تنسيني طولها بهجة الكتب ، وتذكرني اياه آلام الظهر والكتفين فيما بعد(1).
الوراق في هذا المحل (خواجة) قصير القامة ، نحيف الجسم ، في حوالي العقد السادس من عمره ، نشط الحركة حسن الهيئة ، بعينين مطلعتين ووجه مرحب . ويحيي الرجل الزائرات والزوار ، حال دخولهن ودخولهم ، بطريقة تشعرك بأنه يعرف نوع الكتب التي يفضلنها و يفضلونها ، بعد حوار قصير بصوته الواضح النبرات الخفيض مع ذلك. سألته عن أرفف الشعر في المكان المزدحم بالكتب الجديدة والأخرى المقروءة المعاد بيعها ،فالمحل بيبع ويشتري الكتب كما علمت فيما بعد ، فأنفق الوراق الزمن كريما معي حتى شعرت بالذنب ازاء بقية زبائنه المصطفين ليدفعوا له قيمة الكتب التي اختاروها من بين زوايا المكان الأليف . وجدت كتابين لمؤلف واحد وطفق صاحب الكتب يبحث معي عن ثالث قال انه متأكد من وجوده في مكان ما في المكتبة. قلت له تقديرا واشفاقا ألا يشغل نفسه بالأمر وأنني سأعود مرارا للمحل فيما بعد فمضى وهو يعتذر ، بكلمات تجمع بين محبته لمحله واعترافه بعدم تنظيمه , وعند ذهابي لأدفع قيمة ما اشتريت أعطاني تخفيضا لم أطلبه منه وابتسامة مشجعة تحفز على العودة وتنسي آلام الظهر .
العطر الوحيد في المكان هو رائحة الكتب ، الجديدة والمقروءة من قبل ، والموسيقى الوحيدة هناك هي صوت الوراق المريح ، وهو يتنقل بين الممرات الضيقة في أقسام المكتبة ، متمتما بعبارات العارف بالكتب المحترم لأمزجة محبات القراءة ومحبيها . اضاءة المكان معقولة ولكنها أقل من المعتاد في المحلات التجارية وصفوف الكتب وصناديقها فيه تمتد من الأرض الى السقف وتتكون المكتبة من طابق واحد أرضي .
داومت على زيارة المحل ، لالقاء التحية فقط حينا أو لشراء الكتب في معظم الأحيان ، ولكن شاغلا قطع زياراتي لمدة شهر أو نحوه وعندما دلفت للمحل بعد ذلك وأنا أتشوق للحق الله بق الله التلقائية وسؤال الكتب ، وجدت المكان كما تركته ، ولكن رجلا في حوالي نهاية الأربعين ، ثقيل الجسد والروح احتل مكان الوراق المريح العارف العريف . “خواجة” آخر ممن يطلق عليه بنو جلدته” روود” أو لئيم سغيل يآخي كما تنطلق من أخمص أقدامنا نحن عندما نتعثر بمثله فنصفه كذلك لمن نحدثه عن تعثرنا نشفي بالوصف المزدوج غليل الصدور .بدا كسول الهيئة بلغة جسد ركيكة تشي بعدم الاحترام . رآني أدخل فلم يرفع عينيه عن لعبة أرقام في رقعة ورقية وهو يجلس خلف المكتب الذي كان ينهض خلفه سلفه في معظم الأحيان . سألته عن مجموعة كتب كنت رأيتها من قبل فأشار علي باحضار صندوق كبير ليقوم بفرزالكتب داخله وهو جالس في مكانه . قلت له بين حزم وخيبة أمل :
أليس هذا واجبك يا سيد ؟
نهض متثاقلا وهو يدير عينيه في محجريهما لأعلى _ تعبير صامت يستخدمه عادة التناجرة والتنجريات هنا (2) ، أقصد من هم في طور المراهقة من العمر ، للتعبير عن تضجر وضيق بمن يخاطبهم . عاد بالصندوق، وكنت على استعداد ، قبل حركة تدوير العينين ، لفحص الكتب بنفسي جلوسا على الأرض كما كنت أفعل بحضور الوراق الأول ولكني لم أمد يدي اليها مع البائع الجديد وتركته يقوم بالمهمة حانقا . انتقيت خمسة كتب لكاتب واحد وكنت أراجع تواريخ الاصدارفيما جلس هو الى طاولة المحاسبة النقدية ينتظرني ولكنه لم يطق صبرا فقال بصوت لزج وهو يتركها :
أخطريني عندما تكوني مستعدة للدفع !
طالبته أن يكون أكثر صبرا واحتراما وسألته ان كان فعلا يحب الكتب فرد علي مرة أخرى بطريقة التناجرة التي لا يحفلون فيها باتمام عباراتهم :
فقط … أه .. الأمر …
ثم انصرف مجددا الى اللعبة التي كانت بين يديه . ورغم فرحتي بمجموعة الكتب التي لم أكن أتوقع الحصول عليها بعد غيابي الطويل ، الا أن مسلك البائع عكر صفو مزاجي ، ومن حب للكتب والشقاء ذهبت أكثر من مرة للمحل بعد ذلك وكنت أبتاع ما أريد دون تحية أو حديث وكأني أقوم بمقايضة خرساء .
ياللروعة ..
قصدت المكتبة ذات صباح ، وبعد أن انتقيت عددا من الكتب المخفضة السعر المعروضة خارجها ، دلفت للداخل وأنا أقضم ليمونة متخيلة تقيني شر سقم الأمعاء الذي يثيره في مرأى البائع الكسول بمسلكه الوقح ، ولكني وجدت الوراق القديم يقف طيبا بشوشا يساعد زبونا . رحب بي من بعيد وسألني ان كنت أزور المحل في غيابه فرددت بالايجاب مع تقرير مفصل بالفساد الذوقي الذي عاثه خليفته وما كان من سوء أدبه وقبح ردوده . وبأمانة متوقعة أخبرني انني لست الوحيدة التي شكته عنده وأنه سيناقش معه الأمر رغم انه لم يخف عني انه صديق له عندما سألته عمن يكون ، ثم نصحني :
اذا تجنبت أيام الاثنين والجمعة والسبت فلن تصابحي خلقته هنا . (هكذا ترجمت النصيحة اللطيفة) :
You will see less of him if you avoid Mondays and Fridays and Saturdays.
مضيت صوب الكتب بانشراح ، بعد أن قذفت بالليمونة من بين شدقي اذ لم يعد بطني سقيما .
هامش
1-تتداخل أجواء النص أعلاه مع قصة قصيرة للدكتور بشرى الفاضل بعنوان (المكتبة) نشرها بعموده الراتب (تضاريس) بالصفحة الثقافية لصحيفة الرأي العام بتاريخ الأربعاء التاسع والعشرين من أكتوبر 2008.
2-نحت كلمتي التناجرة والتنجريات من الوصف العمري بالانجليزية لفئة المراهقين والمراهقات : Teen Agers
اشتققت الكلمتين تحببا وتخفيفا لثقل التحديد الأول، أرجو أن تكون مغامراتي اللغوية خفيفة الوقع على قلوب القراء والقارئات.
( قصيدة )
إلي رقية وراق**
يُستفاد من الرحيل مدائناً أخرى
وذاكرةً يُحاصرها الزحام
ويُستفاد من الندى أرجوحة الألق المقيم
يراعة الماءِ التي حطت
ومتسعاً لبلور الغمام
ومن "رقية" يستفاد رحيقها الوطني
أيديها..
مظاهرة العصافير التي مابين عينها
تمهد للكلام
ولا أحدث لا أحدث لا أحدث
ربما ينتابني وتر الجنون فيهرب الشعراء
أو فجأةً
تجتاح أوردة الغناء قصيدة الحمى
فينفلت الزمام
لذلك استجيب لرغبة الأنهار في جسدي
واختصر الرياح بزهرة أولى
لأسطع في المقام
فمن "رقية" ما يضيف إلى الحدائق نكهة سرية
ما يجعل القمر المثابر- دائماً- يسهو قليلاً
حين تشرع ساعديها آخر اليوم
تفك قلادة التعب اللذيذ
وتنفض الصحو ? كعادتها ?
لتدخل كي تنام
وقد تضاعف سحرها حيناً
ومن تلك المساءات المليئة ? تنتقي وقتاً
وتنثره مواعيداً ملونة
وتذهب كي تعالج بسمةً لتصير سنبلةً
وللدفء المجاهر باختلاس الدفء في واهٍ : مخدتها
وللنبض المخالج لاندياح النبض
أرصفة المساء
وفي " رقية " ما يؤولها:
رحيقاً ضارباً في الصحو
أو وجعاً
حريقاً آخر غير الذي اشتعل
غزالاً شارداً في الزهو
أو سحباً
تهاجر في فضاء الروح
أو فوضى بغصن الانتظام
ومنها ما يعيد اللون للغابات
يشبهها تماما في التزام الموج
ما يجري فحيحاً في حرير الصمت
وهي تعانق العمل المرتب/ تقرأ " الميدان"***
في صمت النبات وتمنح الأيام
منطلقاً يؤسس للمهام
وقد تقطب حاجبيها ( ليس ذلك في إطار شرودها اليومي )
وقد تبكي لان حنينها يحكي
وقد تحكي لان مروجها تبكي
وفي حلم تطاردها غزالات لها ركضت
وفي عشقٍ تراودها فراشات لها انتبهت
وما فتأت
تهاجس ارجوانة عشقها الكلي
مابرحت تداخل لونها المنسي في طرقاتها
أو موتها السري في" مارسيل"
تخفي دائماً أشجانها وقتاً
لتفضحها مرايا وجهها القروي
للغيم
ولليوم
وأسراب الحمام
ولا أحدث لا أحدث لا أحدث
عن فضاء لا يداخل حلمها
وعن السؤالات التي تأوي لذاكرة النخيل
لتشتري بوحاً يشاكس بوحها
أو شهقة للقلب حين تطل
أو وعداً شهياً شاغراً
لتبادل الذكرى
وأحلام الغمام
ومنها ما يعادل شارعاً…. أطفال
بالونات من انقي حليب الالفة الأولى
تلذ سها أصابع لونها المطري
بالوطن ا لملئ
بان يجى وأن يجى
فراشة للحلم
والزمن ـ الأمام .
حاشية :
" رقية " مهرجان السم .
آلهة السلاسة إلى العناق البكر.
أكتبها تفر من الصدى والحرف .
أشهدها فاغرق في رعاف النزف .
هل من صوت
هل من موت
يدخلني / لأدخلها
تماما في حدود الوصف.
الخرطرم 1988
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*خالد نيجي / شاعر سوداني (خالد عبد الله )
** رقية وراق/ شاعرة سودانية مقيمة في كندا
*** الميدان / صحيفة الحزب الشيوعي السوداني