جلد التلاميذ و جلد الآباء

أدهشني ما جاء على لسان مسؤول، من أن القرار الوزاري القاضي بمنع جلد التلاميذ شجّع التلاميذ على عدم تأدية واجبهم، وعدم إحترام المعلم. ليس السبب في دهشتي هو التصريح نفسه، من حيث أنه مخالف لما استقر عليه علم النفس التربوي من الأثر المدمر للضرب أسلوباً للتربية على الصغار الخاضعين له. فلم تدهشني المطالبة بإلغاء القرار الوزاري القاضي بعدم جلد التلاميذ، بقدر وجود ذلك القرار في الأساس. فما الذي يدعو دولة لأن تمنع جلد تلاميذ، تقوم هي يومياً في محاكمها بجلد آبائهم؟ لقد كنت أعتقد أن الدولة وقد تبنت الجلد عقوبة تصلح لتأديب الكبار، ليست في حاجة أصلاً لمجرد البحث في منع توقيعه على الصغار. هل هنالك من يعلم كم عدد الجرائم التي يعاقب عليها الرجال والنساء الذين بلغوا سن الرشد أو تجاوزوه بالجلد؟ لا دخل للشريعة بعقوبة الجلد في أكثر من ثلاث جرائم، هي الحدود الشرعية الثلاث التي يعاقب على إرتكابها بالجلد، في حين أن القانون الجنائي يعاقب على أكثر من ثلاثين جريمة بالجلد. أضف لذلك، الكم الهائل من القوانين الولائية والأوامر المحلية التي تعاقب بالجلد على أعمال مختلفة فتعاقب صاحب المنزل الذي يقيم حفلاً غنائياً في منزله، بالجلد على السماح بالرقص المختلط بين النساء والرجال، أو برقص النساء أمام الرجال. وأخرى تعاقب بالجلد من يغسل عربته في غير الأماكن المخصصة لذلك، والرجل الذي يدخل البص من الباب المخصص للنساء، أو من يدخن الشيشة من النساء في مكان عام في بعض المحليات.
مسألة الجلد عقوبة كانت موجودة في كل القوانين في العالم بأسره حتى بدأت مفاهيم حقوق الإنسان تناهضها بإعتبارها تحط من كرامة من توقع عليه، فتم إبدالها بالسجن أو الغرامة تدريجياً ابتداءً من القرن التاسع عشر حتى ألغيت تماماً في القرن العشرين. في انكلترا واسكتلندا وويلز تم إلغاء عقوبة الجلد بموجب قانون العدالة الجنائية لعام 1948، بالنسبة للبالغين ما عدا جرائم التمرد، والعنف الواقعة على ضابط السجن عندما ترتكب من قبل نزيل من الذكور، ولكنها ظلت حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي توقع على الأحداث الجانحين. أما الجلد الذي توقعه السلطات المدرسية على التلاميذ فقد ظل واسع الانتشار حتى أظهرت الدراسات النفسية التعليمية أضراره البالغة على نفسية الصغار. وقد ظل النظام القانوني الإنجليزي يستخدم عقوبة الجلد حتى ألغتها الدولة استجابة لحكم محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في تايرر ضد المملكة المتحدة، والتي تتلخص وقائعها في أن تايرر وهو طالب صغير السن اعتدى على زميل له بسبب أنه أبلغ السلطات المدرسية عن مخالفة ارتكبها تايرر. كان الإعتداء عنيفاً فقررت المحكمة جلده ثلاث جلدات. اشتكى والد تايرر المملكة المتحدة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية التي أدانت المملكة المتحدة، لأنها رأت أن العقوبة التي طبقتها المحكمة الإنجليزية عقوبة محطة بالكرامة الإنسانية. ذكرت المحكمة في حكمها”طبيعة العقوبة البدنية القضائية هي أنها تنطوي على ممارسة العنف الجسدي الذي يقوم به إنسان على إنسان آخر. وعلاوة على ذلك، فإنه عنف مؤسسي يسمح به القانون، وتأمر به السلطات القضائية، وتنفذها شرطة الدولة. وعلى الرغم من أن مقدم الطلب لم يعاني أي آثار مادية حادة أو طويلة الأمد، إلا أن عقابه بالتعامل معه مجرد شئ في يد السلطة، يشكل اعتداءً على أهم ما تهدف لحمايته المادة 3 من العهد الأوروبي لحقوق الإنسان، وهو كرامة الشخص وسلامته الجسدية. لا يمكن استبعاد ما يمكن أن تسببه هذه العقوبة من آثار نفسية سلبية “.
نتيجة لانتشار عقوبة الجلد في القوانين السودانية غير المتصلة بالجرائم الجدية تمت إدانة السودان في عام 2003 بواسطة اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان في الشكوى 236/00 المقدمة نيابة عن مجموعة من الطلبة والطالبات عاقبتهم أحد محاكم النظام العام بالجلد. ومع ذلك فما زال بعض المسؤولين يطالبون بتوسيع دائرة الخاضعين للجلد لتشمل التلاميذ.
نبيل أديب عبدالله
المحامي
التيار

تعليق واحد

  1. بمناسبة الجدل الذي أحدثه منع الجلد بالمدارس هل كان لرواية ثورة المقابر للكاتب السوداني ضياء الدين الشريف أثر فى إثارة الموضوع بحكم أنها تحرض على التمرد على عادات وتقاليد بالية أثقلت كاهلنا ومنها أيضاً زواج الأقارب رغم أن الكتاب غير متوفر بالمكتبات فقد قرأته فى النت ووجدته من أروع ما كتب على الاطلاق ولن ابالغ إذا قلت أنه يقف نداً لند لرائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال فبحثت عنه حيث شدني اسلوبه الساحر والسهل وتذكرت أنني قرأت في جريدة التيار ابان الحرب في ليبيا على القذافي كتاباً للكاتب نفسه عن ثورة ليبيا نشرته التيار على حلقات وكان بنفس الاسلوب الشيق الذي لم أر له مثيلاً الا في كتابات الطيب صالح رحمه الله وحينما لم أجد الكتاب بالمكتبات استغربت واستغرب اكثر لعدم معرفتى او معرفة كل من سألت عن الكاتب ضياء الدين الشريف القليل قال أنه عاد الى ليبيا ويعمل بالتصحيح اللغوي وكتابة العمود الصحفي باحدى الجرائد التي انتشرت بعد اطاحة القذافى وارجو من من يعرفه او من لديه نسخة زائده عن روايته ثورة المقابر أن يزودنى بها فأنا أعشق الاحتفاظ بالكتب التي تثير نشوتى كما اوصى بقراءة الرواية حتى تروا أنها أحدثت فارق والأدلة كثيرة ولكن موضوع الجلد فى المدارس أبرزها وكل ما عليكم هو كتابة الآتي على محرك البحث قوقل : ضياء الدين الشريف رواية ثورة المقابر فقد نسيت الرابط .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..