مقالات ثقافية

يومٌ طويلُ التِّيلة (1/3)

محمد عبد الملك

يومٌ طويلُ التَّيلة
(1/3)

ما كانت حالةُ الكرَبْ التي اعترت الرَّايقة ، ذلك الفجر ، حالةٌ طارئةٌ ولا مفاجئة بالنسبة لجدي دفع الله وربما لم تكن كذلك بالنسبة للرِّسالة ، إمرأته التى أجلسها الفالجُ لسنواتٍ خلت نصفَ مشلولةٍ ، وبالتأكيد لم يكن الأمرُ مفاجئاً بالنسبة للرِّيلة؛ البنت الوحيدة التي بقيت، من حشدٍ شَتَّ ، ترعى أمها وأباها وحوِّاشةً واحدةً أول بيت، وإرثاً تتداوله ألسنةُ الناس . نعم ؛ لم يكن هيجانُ الرايقة مفاجئاً غير أنَّ سيما الفزع التي بدتْ على وجهها وكل جسدها قد أحالتْ حالتها المكروبة تلك من حيِّزٍ التعاطف المترفِّع إلي معمعان مملكة الحياة الواحدة المتَّحدة في كيان الكائن الحي الواحد والتي ما إنْ أنَّ ، فيها ، كلبٌ أو إنقصفَ بُرعمٌ ؛ إنفطرتْ كبدٌ وتداعىَ القلبُ بالخفقِ والوجيع.

بأُذنيْن مشحوذتين ووجهٍ مفزوع كانت الرَّايقة تدور حول نفسها ، تتقدّم ، تتقهقر ، تضطجعُ على جنبٍ ثمَّ تبرك، تضطجعُ على الآخر ثمَّ تنهض. قلقُ وضيقُ من يغالبُ نازلةً لا قِبَل له بها. مسح جدي دفع الله سماءَ الفجر الغالس بنظرةٍ سريعةٍ تأكَّد فيها من صِحَة حدسه بغياب نجم عينة الثريا وطلوع الدَّبران الذي لمَّا يزل نجمه في الأفق بادٍ ؛ وهو كذلك ظلَّ يفعل ، مُذ وعيناهُ صغاراً : (العِينة دخلت . العنقريب غاب . سعد السعود طلع..) هكذا كان يقول كل صباح.

ثمَّ إنَّه إقتربَ من الرايقة وهي في حالٍ من الكربِ شديداً تئن، مسح على عنقها بحنانٍ جمِّ ثم استدبرها وهي لا تكادُ تستقرُّ وذيلها كالسوطِ ممدودٌ نحو الأفق ، لمسَ بيده فرجها المنبثق وتأكَّد من نزول السَّلَىَ ، ثمَّ أنَّه سعلَ وبصوتٍ خفيضٍ سمعناهُ – سعدٌ أنا وسعيدٌ أخي – يتمتم: (يا حلَّال الحاملا .. ) جدَّي دفع الله ، في الحِسَبة، ليس جداً بيولوجياً يتسلسلُ إليه النسب؛ إنما هو جَدُّ الناسِ أجمعين فيما بين مكوار وبركات، ويُقالُ أنه هو الوحيدُ الباقي من نفرٍ ساروا في معيِّة السير مرودخ ماكدونالد واسماعيل سرِّي باشا ورهطهما حين جابوا الأودية بالخرائط والمناظير يمسحون أرض المشروع الذي لمَّا يزل أوراقاً تقبع في سراي الحاكم العام ؛ولمَّا تزل محالجُ لانكشير تتلهُّف شوقاً لسكلاريدسٍ تعِدُ به فيافي الضَّهرة . وقد راج في حكاياتنا، أيضاً ، أنَّ جدي دفع الله كان إبنُ البلد اليافع الوحيد الذي وقفَ ،بصفته رئيس عمال، قرب اللورد لويد – المندوب السامي – وهو يديرُ مفتاح الخزان ؛ فيجري الماءُ في الترعة ، وقد كان ، أيضاً ، ممن يعرفون لغة الإنجليز كفاحاً ،إذ يُروى عنه أنه سمع اللورد ، حين أدار المفتاح الذي كرأس أمونحُتب ، يتمتم (..لذكرى تشارلس جورج غوردون ولذكرى لي أوليفر فتزموريس ستاك ) هكذا تعوَّد أنْ ينطق الإسمين كاملين بلكنةٍ أفرنجيةٍ مُحبَّبة . حكى جدي سعد الله ،عليه رحمة الله ،مباهياً برفيقه حين أُبْعِدَ من لجنة الإتحاد 🙁 ها آ ناس .. خلُّوني من وليدات الزمن دا ، طلاق بالتلاتة وكتين دفع الله كان يخلف كُراع في كُراع ؤيقعد قدِّام جيتسكل ومكي عباس ؤيقول لهم : يس . نو . طلاق بالتلاتة إنتو الوكت داك ما ولدوكم . إنتو أولاد متين ؟ )

وقد أكسبه جلوسه المتكرر مع مديري المشروع ، كما يُباهي جدي سعد الله ، مزاجاً إدارياً مميَّزاً يصفه الناسُ في الضَّهَرة بالـ : فنجرة. جدي دفع الله ؛هذا الذي يحمل على أكتافه خمساً وتسعين عاماً كانت قد أدركته ، لسنينَ خلت ، حالٌ من الإطراقِ والصمت شهيرةٌ أجلسته حِلسَ بيته وطفِق ، منذها ، ينظرُ متأملاً بشئ من الحزَنِ وغضبٍ قليل. ثمَّ كان قليلاً ما يتكلم إلا أنْ يرد السلام وقليلاً ما كان يسأل.سبقت حالة الإطراق تلك إصابة الرسالة ، إمرأته ، بالشلل النصفي وعجزها عن الكلام والحركة.

الجالسون قدَّام دكان سليمان ، سمعهم سعيدٌ أخي ، يوماً أتى، يقولون : (مسكين حاج دفع الله ؛ ولِد ؤ ربَّىَ ؤما لقى الحبَّة . مخيَّر الله يا ناس ، أربعة رجال ما لقىَ منهم واحد ينفعوا . ما نفعتو إلا البِت !! عبد الرحمن باع حوَّاشتين وسافر ليبيا ؛ عشرين سنة لا خبر لا أتر . ناس يقولوا مرق في أمريكيا ناس يقولوا مرق في الصين . عثمان باع التراكتر الماسي فيرجسون البهز ويرز؛ باعو وسافر يأترَّ أخوه . خمستاشر سنة ما رجع . عبد الله سوَّى دِقن ومرق في الخروج ، قال شنو ؟ في سبيل الله ، ناس قالوا في الصومال ناس قالوا في افغانستان . إنشلَّت حاجة الرسالة يوم سمعت النسوان يقطعن في بيت الرضيَّة ؛ قالن أستشهد .مخيَّرالله العالم بالغيب !! الطيِّب باع حواشتو وباقي البقيرات واشترى بيها فيزا للسعودية ؛ شغال شنو؟ قالوا تربية مواشي . الزول ، آ ناس ، ببيع سعيتو الفي زريبتو إمش يربِّي سعية الناس ؟ مخيِّر الله !! الرِّيلة قعدت راجية حسن ود عمها طافش من مخَتَر لي مخَتر لامن قطعت ؤعقَّرت ؤفات فيها الفوات. مسكين حاج دفع الله ؛ وِلِد ؤ ربَّى ؤما لِقىَ الحبَّة ) . ما عرفنا هل تعمَّق صمتُ جدي دفع الله بعد موت جدي سعد الله ، آخر رفاقه ، أم بسبب ما آل إليه حال بيته، أم بسبب ما آل إليه حالُ الناسِ جميعاً ، وقد كنا أحوجُ ما نكون لحكمته منذ دبَّت الفوضى الشهيرة في جامع قريتنا ؛تلك التي ذاع خبرها في كل البلد ، ومنذ أنَّ حلَّ ،بسببها، وفد الولاية ثقيلاً بيننا ؛ يحصي علينا النَّفَس . قالوا أننا لا نعلم من أمور ديننا ما تقتضيه الضرورة فاستولوا على الجامع .الضخمُ ذو الأوداج النافرة ظل يحدَّثنا عقب صلاة كل عشاءٍ عن تعدد الزوجات لحل مشاكل العنوسة التى راجت وسط نسائنا اللاتي فتك بهنِّ داءُ الحانكلو أبو حكاً حلو. لكنَّهم حين تزوجوا ؛ ليضربوا لنا القدوة الحسنة- كما زعموا – ما تزوَّجوا منهنَّ بل تزوجوا الأصغر والأجمل مثنى وثلاث ورباع . القصيرُ الأجرد ذوالسمت الأنثوي كان يحدِّثنا عقب صلاة كل مغربٍ عن الجهاد والموت في سبيل الله ، الأبيضُ النحيف ذو اللكنة الغريبة ظلَّ يحدَّثنا ، عقب صلاة كل فجرٍ وظهرٍ وعصر، عن كسلنا وخطل معاشنا وبؤس حالنا وضرورة ترك الزراعة التقليدية وتسليم أراضينا للشركات التي جاءت تسعى. رحل جدي سعد الله ما أن حلَّوا بيننا وسكت جدي دفع الله قبلها وأثناءها وبعدها حتى أنه قاطع الصلاة بالجامع فما عرفنا هل كان ذلك موقفاً أم ذاك بعضٌ من حال إطراقه المثير، سعيدٌ أخي أكَّد لي أنَّ عضو الوفد الضخم ذي الأوداج النافرة حين قابله في فراش مأتم جدي سعد الله سأله بإستعلاء : لماذا لا نراك يا شيخنا في الجامع ؟ حدَّجه جدي دفع الله بنظرةٍ – قال لي سعيدٌ أخي – تململ كلُّ من رآها وبلع ريقه . ثمَّ مضى ، جدي دفع الله ، ولم يرد .

إنتبه لوجودنا قربه – سعدٌ أنا وسعيدٌ أخي – نقف في مدخل زريبة مواشيه التي هِيَ بقيَّةُ مملكةُ كرمٍ وجودٍ أروشٍ عُرف به في سائر الضَّهَرة .. ما بين التُرعتين وفيما وراء الهوج وشرق العاديك أيضاً ؛ بقيِّة مملكةٍ غدَّت وعشَّت ضيوف الهجعة والقائلة من سابلة الجنقوجورا وسُكَّاب الكَتَكْو وعُمَّال اللقيط حتى أقفرت وما بقيَ فيها إلا شاياتٌ منتصباتٌ بلا بقرٍ سوى معزةٌ أسخلتْ لشهرين تدُر اللبن وحمارةٌ واحدةٌ بِكرةٌ هي الآن في كرب المخاض .

قلتُ لجدي بعد أنْ صبَّحته بالخير: هل نزل السِّلَىَ ودُفاق الماء أم أنه طلق مسافر ؟ بإقتضابٍ أكَّد لي أنَّه مخاض الولادة وسكتْ ثمَّ ردّ ، بعد فترة ،على تحية سعيدٍ أخي بـ : صبّحك الله بالخير ثمَّ دار حول الرايقة يتفحَّصها بهمةٍ وحدبٍ وحنو ، يدني منها سطل الماء ، يدسُّ في فمها العلوق ، يمسحُ على ظهرها . عكف على ذلك زماناً حتى خلناهُ نسينا ، فجأةً إلتفت إلينا وسأل : الاجتماع قائم ؟ ثمَّ قبل ان نجيب نادى على الرِّيلة ، بنته التي ظلَّت تلازمه منذ انفض سامرُ مملكته، نادها : الرِّيلة ! فوجدناها، فجأةً ، ماثلةً أمامنا كملكة سبأ التي جاء بها ذاك الذي عنده علمٌ من الكتاب . جاءت وما ارتد إلينا طرف ، سلَّمت علينا بكف تحارُ في نسبته للأنوثة ثمَّ شمختْ بمحيَّاها الصارم : مُحيَّا إمرأةٍ تعدَّتْ الأربعين ؛ كرَّست حياتها لأُمٍ نصف مشلولةٍ تقبعُ بين غوغايةٍ مُطرقةٍ بلا ضجيج ، وكِيْفةِ غزْلٍ خاوية، ومِترارٍ مكسورٍ؛ وبين أبٍ ذُلَّ من بعد عِزٍ فما بقيَ من مملكته إلا قيمٌ تُقصِّر عنها ذات اليد، وحمارةٌ ظل ينتظر موعد ولادتها في إطراقٍ محتشد. قالت الريلة : نعم يابا . شرع جدي دفع الله في إعطائها تعليماتٍ مقتضباتٍ وهي شامخةٌ لا تقاطعه إلأ أن تقول : سَمِح يابا . سَمِح يابا .
– أول ما تجي الموية نازلة من الفرج رقِّدي الحُمارة على صفحتا
– سمح يابا
– بعد يطلعن الكُرعين القدّاميات جرِّيهن شوية..
– سَمِح يابا
– أول ما يجي الرأس طالع .شُقِّي السِّلَىَ خلِّي الجنا يتنفَّس
– سمِح يابا
– خلِّي الراس يطلع كلو وبعد داك جُرِّي الكرعين شديد لمن يطلع الجنا
– سمح يابا
– بسراع تختيهو قداما خليها تلحسو
– سمح يابا

محمد عبد الملك
[email protected]

تعليق واحد

  1. القاص الجميل المبدع محمد عبد الملك وانا اتنقل ما بين السطور كنت ارحل في عوالم من الزمن الجميل في ربوع الوطن الجميل في الزمن الجميل لك التحايا اطنان

  2. شئ غريب ومحير وانا الذى اعرفه عن الكاتب أنه لم يعيش فى قرية ولم يختلط بحياة ريفية بحتة كما يصفها ويوثقها فى قصته هذه فهو عاش افندى فى مدينة صغيرة بوسط السودان الحياة فيها على صغرها مدنية ومتحضرة جداً لانها كانت مركز كبير للخدمات للمدن والقرى التى حوله وكانت بوتقة تنصهر فيها كل جهات السودان وكذلك ملتقى لكبار الموظفين من مهندسين الرى واطباء و بياطرة وأساتذة ملأوا الدنيا علما وإعلاماً وكثر فيها العمال والزراع ولكن ما وصفه فى القصة ليس من واقعه الذى عاشة ولا حياته التى حياها فمن أين أتى بكل هذا هل هى مخيلة الأديب والروائى الذى يلتقط تلك كل شئ بمجرد زيارة للريف القريب او لأهله فى الريف البعيد والمجاور اما ماذا وظنى انه مثل ورق الكربون طبع على دفتره هذا كل ما رأه فى زيارتها القصيرة لقرى الجزيرة وقرى مدينته ، انا وهو من هو فى جيلنا وجيله فهم كل شئ كتبه فهل فهم جيل اليوم هذه اللغة البحته التى تحتاج إلى فك رموز وترجمه ، كتاباتك موحى وقوية وياليتك تكتب عن الافندية وحياة المعلمين والمترجمين والمهاجرين بلغة العصر وبناس العصر حتى تكون كماعهدنا شمعة تضئ الدورب المظلمة لأبناء اخواتك واخوانك .

  3. لله درك اخي وحبيبي محمد ….مارويته ممتع وجميل وشيّق وجدت نفسي فيه لااني دخلت عصر التخضرم …رجال عصاميون نساء صحابيات ..مشروع مزدهر ..ربنا يستر ويصلح الحال ..نسأل الله لك التوفيق والي المزيد ان شاء الله ….مع خالص حبي وودي

  4. لله درك اخي وحبيبي محمد ….مارويته ممتع وجميل وشيّق وجدت نفسي فيه لااني دخلت عصر التخضرم …رجال عصاميون نساء صحابيات ..مشروع مزدهر ..ربنا يستر ويصلح الحال ..نسأل الله لك التوفيق والي المزيد ان شاء الله ….مع خالص حبي وودي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..