الغريب!

بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
* (من الذي اغترب؟
أنا أم الأنام في شباك لحظة الحقيقة الخرساء
ترتقب؟ سفينة على شواطئ بعيدة
أصابها العطبْ
من الذي اغترب؟
يا قريتي التي أحملها ما بين أضلعي
تفاحة من الذهب؟
أنا وأنت قصة تبددت
يلفنا الذهول وسط عالم من الكذب!..).
– محمد إبراهيم أبو سنة –
شاعر مصري
.. يقول أحدنا في الغربة: إنه غريب.. فهل هذا صحيح؟ هل الغربة لا تتعلق فقط إلا بالبعد عن الوطن؟ الغربة في الحقيقة تعني الكثير.. فهناك غربة في الحب، وهناك غربة في الصداقة، وغربة في الانتماء، وغربة الغربات البعد عن الأوطان.. قال أبو عبدالله الصبحي: (الغريب هو البعيد عن وطنه، وأيضاً هو المقيم فيه) وكان أبو حيان التوحيدي قد قال: أغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربه.
أقسى ما في الغربة أن تكون غريباً عن الحبيبة.
أحياناً تشعر وأنت في وجودها حتى ويدك في يدها أنها غريبة عنك وأنك غريب عنها، لما فيه التفارق في الأفكار والتضاد في المعاني والاختلاف فيما تؤمن أنت فيه وما تؤمن هي فيه، غالباً عندما تتجذر هذه الغربة يفترق الحبيبان وأحياناً يخدع أحدهما الآخر في سبيل استمرار التواصل، فأنت توافق على ما تقول وهي توافق على ما أنت تقول، لكن في المحصلة سوف يكتشف كل منكما هذه الخديعة وخصوصاً إذا انتهى الأمر بكما إلى الزواج، ففي الزواج الذي هو عبارة عن تقارب يومي في كل شيء تنكشف الحقيقة التي تظهر بقوة لدى كل من الطرفين من هنا يحصل الطلاق أو الافتراق، ربما يحصل ذلك على عداوة أيضاً.
إن الصدق في العاطفة، الصدق في معرفة كل منهما ميول الآخر ورأي كل منهما في كل شيء يسهل عليهما أن يعيشا في وفاق وزواج ناجح.
وينطبق هذا أيضاً، ومن نواح عديدة على الصداقة.. قد يحدث فيها ما يشبه ما حدث في علاقة الحب، وخصوصاً عندما تكون المصلحة الخاصة هي التي تتقارب مع الصديقين وإذا انتفت انتفت الصداقة من أساسها.
قال الشاعر قيس بن الملوح في ليلاه:
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
ولكن من تنأين عنه غريب
أو قول الشاعر القيسي في هذا المقام:
إذا ذهب القرن الذي أنت منهم
وخلفت في قرن فأنت غريب
وقال الشاعر في غربة الوطن:
وما أنتَ غريب وإن أبدى تجلده
إلاّ سيذكر عند الغربة الوطنا
بيد أن هناك من ذهب مناقضاً في الرأي وتعريف الغربة والغريب إذ منهم من رأى أن (الغريب) حقاً ليس من ابتعد عن وطنه وعاش في بلد آخر وإنما هو من نأى عن حبيبه فما بالك إذا اجتمع الاثنان: الغربة عن الوطن والغربة عن الحبيب، قال المؤمل بن جعفر البنديجي: كنا نسمع بين الناس يقولون: فقد الأحبة في الأوطان غربة، فكيف إذا اجتمعت الغربة وفقد الأحبة.
هذا يعيدني بالذاكرة إلى مرحلة من مراحل حياتي عندما اضطررت أن أغادر وطني لظروف عديدة فوق إرادتي وافترقت عن المرأة التي أحببتها فكانت غربتي حقاً غربتين بين الشوق للوطن والاشتياق المرير للحبيبة، وفي هذا البعد وتحت قسوة الحاجة اقترنت المرأة التي أحببتها برجل آخر.. وفرقت بيننا السبل لأكثر من ثلاثين عاماً، وعندما تلقيت منها رسالة وأنا في موسكو أن ابنها البكر جاء إلى موسكو للدراسة وتطلب مني أن أساعده في غربته الجديدة، ولعل ما نال مني هذا الشاب من الاعتناء به وتوفير كل الامكانيات من أجل التخفيف من غربته ما جعلته يألف كأنني والده بل وأعز.. ذلك الحنين الذي استيقظ بمجيء هذا الشاب إلى موسكو خفف كثيراً من وجع الغربة، عدا أنني شممت فيه رائحة حبي الأول الذي كان صادقاً في الأصل ولا دنس فيه وكما يقول المثل:
من أجل عين تكرم عيون.
ومن طرف آخر اعتبر البعض أن الغريب من كان لا علاقة له بالأدب والقراءة أو أي إبداع آخر.. هذا غريب حتى عن نفسه وهذا أقسى أنواع الغربة فالاقتراب من الفنون يخفف كثيراً من جآرة الغربة وقسوتها.. قال بعضهم: (من كان عارياً من الأدب هو الغريب فقد سمع البعض أحدهم يقول: إن الغريب لا أليف له ولا شكل ولا مثيل ولا نظير) ويذكر التراث العربي أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان سأل بعض جلسائه:
ما تعدون الغريب فيكم (قالوا الذي لا أحد له) فيا له من جواب مختصر لحالة إنسان لا صديق له، أو آخر لا حبيب له، أو يتيم فقد أبويه، فلا أحد لهؤلاء وما أبلغ هذا الكلام إلا أن الخليفة معاوية تابع بما يشبه هذا القول: (بل الغريب الذي مات نظراؤه الذين كان يأنس لهم) فالغريب بهذا المعنى هو من مات أقرانه قبل أن يحين أوانه.
ثمّ هناك غربة أخرى لعلها الأقسى من كل ما تقدم هو مَنْ غربت شمس شبابه، أو شبابها، أو من أغرب في أقواله وأفعاله حتى في هذا المجال صاح كتّاب الحكمة عند العرب يا هذا: الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة ودل عنوانه على الفتنة عقيب الفتنة، التي هي أقسى من القتل، وبانت حقيقته لي في الفينة حد الفينة والغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً والغريب من إن رأيته لم تعرفه وإن لم تره لم تستعرفه.
يا هذا.. الغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر، الغريب من أسند كذب، وإذا تظاهر عُذب.
والغريب إذا امتار لم يمر، وإذا قعد لم يزر، يا رحمتا للغريب طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، وأشتد ضرره من غير تقصير وعظم عناؤه من غير جدوى، الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله وإذا رأوه لم يدوروا حوله.
الغريب من إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف، وإن كتم أكمده الحزن واللهف، الغريب من إذا أقبل لم يوسع له وإذا أعرض لم يسأل عنه، الغريب من إذا لم يعط وإن سكت لم يبدأ، الغريب من إذا عطس لم يشمت، وإذا مرض لم يتفقد، الغريب من إذا زار أغلق الباب دونه وإن استاذن لم يرفع له الحجاب، الغريب من إذا نادى لم يجب وإذا هادى لم يحب.
الغريب محنته أنه غريب في كل هذه الغربات قال الشاعر ابن سعيد:
أصبحت اعترض الوجوه ولا أرى
من بينها وجهاً لمن أدريه
ويح الغريب توحشت ألحاظه
في عالم ليس له شبيه
عودي على بدئي ضلالاً بينهم
حتى كأني من بقايا التيه.
آخر الكلام:
حينما عاد الكاتب الروسي (سولسجتين) إلى بلاده، أوقفته امرأة روسية وقالت له: أيهما أجمل الغولاك أم الفيلا الأميركية التي كنت تعيش فيها؟.
وصمت (سولسجتين) وقال: (لا أدري)!
ونظرت إليه المرأة الروسية وقالت: انك تعرف، ولكنك تخجل من الاعتراف، الغولاك هو روسي وطني، في حين أن الفيلا الأميركية متسخة وغير وطنية، المنفى لا يكون حراً إلا إذا كان في بلاده وبين شعبه.

قرأت لك:
قيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية
مع لزوم الأوطان.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. “المنفى لا يكون حراً إلا إذا كان في بلاده وبين شعبه.”

    هنا يكمُن معنى الإيمان إصطلاحاً و مضمون “وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ”

    الحمد لله وبعد ،

    قال الله تعالى : ” إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “( لقمان:34) .

    ‏عَنْ ‏‏سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏، ‏عَنْ ‏‏أَبِيهِ ‏: ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قَالَ ‏: ‏‏مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ‏خَمْسٌ ‏‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ‏ ‏وَيُنْزِلُ ‏ ‏الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏. رواه البخاري (4261).

    أهل العلم أفيدونا في الحالة النفسية التي يعيشها الغريب حسب التعريفات التي وردت في مقال الدكتور و ذلك كحقيقة و واقع و كيفية معالجتها بمفهومها النسبي حتى لا تنعكس سلباً على التعايش. نسال الله العافية لنا و لدكتورنا العزيز.

    http://www.jstor.org/discover/10.2307/2771547?sid=21105185290481&uid=4&uid=2
    http://wellbeing.rice.edu/homesickness
    http://en.wikipedia.org/wiki/Homesickness
    http://www.bbc.com/news/magazine-22764986

  2. هو أني لم أقرأ لك يوما مقالا يشبه الذي سبقه تحية لخيالك وقلمك يا نائل شكرا لهذا الموقع

  3. أما أنا فأقول : الغريب هو من لا يقرأ مقالاتك هذه ، ولي طلب: ضمنها كتابا” ليكون وهجا” في هذا الزمن المظلم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..