مقالات سياسية

مقتطفات من كتاب “قيود من حرير: العامل الإنساني في الإدارة البريطانية بالسودان”

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقتطفات من كتاب “قيود من حرير: العامل الإنساني في الإدارة البريطانية بالسودان”
Bonds of Silk: The human factor in the British Administration of the Sudan
فرانسيس م. دينق و مارتن وليام دالي Francis M. Deng and M. W. Daly
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض فقرات متفرقة وردت في كتاب لفرانسيس دينق ومارتن دالي عنوانه “قيود من حرير: العامل الإنساني في الإدارة البريطانية بالسودان” صدر بالولايات المتحدة عن دار نشر جامعة ميتشغان في عام 1989م. ودكتور فرانسيس دينق (1938م -) هو سياسي ودبلوماسي وكاتب من جنوب السودان، عمل في سبعينيات القرن الماضي وزيرا للدولة بالخارجية في عهد جعفر نميري، ثم دبلوماسيا بالأمم المتحدة. أما بروفيسور دالي (1930م -) فهو أستاذ جامعي أمريكي متخصص في الشأن السوداني وله عدد كبير من المقالات والكتب عن السودان منها الكتاب العمدة “تاريخ السودان منذ دخول الإسلام حتى العصر الحالي” بالاشتراك مع المؤرخ البريطاني هولت، و”إمبراطورية على النيل” وأخيرا كتاب “أحزان دارفور”، والذي كنا قد ترجمنا عرضا له قبل سنوات.
والكتاب يرصد شهادات بريطانيين عملوا بالسودان في سنوات الحكم الثنائي في مجالات الإدارة أو التعليم، وسودانيين (من الشمال والجنوب) عاصروا تلك السنوات طلابا أو موظفين حكوميين أو زعماء قبائل.
المترجم
****** *********** ***************
تنبه الحكم البريطاني ? المصري في السودان إلى الأخطاء التي ارتكبها الحكم التركي ? المصري فلم يكررها، وألزم نفسه باحترام ديانة أهل الشمال وعاداتهم وتقاليدهم. غير أن ذلك الحكم عد سكان الجنوب شعبا وثنيا متخلفا لا يحتاج إلا إلى الحماية والوصاية. وبينما منع ذلك الحكم المبشرين المسيحين من العمل في شمال البلاد، فإنهم شجعهم على الدخول للجنوب وتمدين أهله، وحرص على تمثيل كل أطياف المذاهب المسيحية بالجنوب خوفا من إثارة منافسات وتسابق بين مبشري تلك المذاهب المختلفة. وجعل الحكم البريطاني ? المصري اللغة الإنجليزية هي لغة التخاطب والتعليم في الجنوب في مراحل مبكرة، وقصر التعليم بالإنجليزية على المدارس الثانوية. وكان ذلك الحكم يؤثر التجار الأغاريق على التجار العرب في الجنوب، والذين كان يخشى من تأثيرهم المحتمل على السكان القابلين للتأثر السريع بالغير. وقنن سياسة عرفت بـ “سياسة الجنوب” تقضي بجعل منطقة الجنوب “منطقة مقفولة” لتنظم وتحد من دخول الشماليين له، ولتدع للجنوبيين فرصة لتطوير أنفسهم وفقا لعاداتهم وتقاليدهم، وحمايتهم من “تأثيرات الحداثة المفسدة” ومن “استغلال عديمي الضمير من عرب الشمال”.
************ ************* *************

كان كل المسئولين البريطانيين في غالب فترات الحكم الاستعماري في رتب أعلى من الموظفين السودانيين، غير أن محدودية معرفة المسئولين البريطانيين باللغة والعادات المحلية، واضطرارهم للاعتماد على مرؤوسيهم من الموظفين السودانيين الأكثر معرفة عقدت من طبيعة العلاقات (الاجتماعية) بين الطرفين. وقال الإداري لورنس بوخانين إن المفتشين البريطانيين كانوا يخصون زعماء القبائل بمعاملة أكثر ندية من معاملتهم لغيرهم من الأهالي. وقد يكون هذا بسبب سلطات ونفوذ هؤلاء على مواطنيهم، ولتعذر سير الأمور والحفاظ علي الأمن والاستقرار دون تعاون هؤلاء الزعماء. وهنا رسم موريس لش تفريقا واضحا بين “السلطة القانونية” التي كان يتمتع بها المفتش البريطاني، و”السلطة الحقيقية”، والتي كانت بيد زعماء القبائل. فهؤلاء الزعماء كما قال لش: “هم رؤسائي الحقيقين، فقد تعلمت منهم – وليس من غيرهم- كل ما ينبغي تعلمه عن الحياة السودانية. فالعلاقة بين المفتش وزعيم القبيلة وشيوخها لم تكن أبدا علاقة “رئيس” و”مرؤوس. فعند مروري أمام شيخ قبيلة فإنه ينزل من حماره كدلالة على التحية والاحترام، وأقوم أنا بفعل ذات الشيء، فهو يمثل “الناس” وأنا أمثل “الحكومة، وعلينا أن نتعامل مع بعضنا البعض بأخلاق طيبة “.
*********** ************ ***********

لقد فشل مؤتمر الخريجين في الحفاظ على جبهة موحدة، وأنقسم أعضائه على أنفسهم وتوزعوا على الطائفتين المهدية والميرغنية. ورعى السيد عبد الرحمن المهدي حزب الأمة، والذي كان غالب أعضائه من المهدويين، ورفع شعار “السودان للسودانيين”. بينما نادى أتباع زعيم الختمية السيد علي الميرغني بشعار “وحدة وادي النيل”، والمقصود بالطبع هو الاتحاد مع مصر كوسيلة لطرد البريطانيين من السودان. وجلبت رغبة حزب الأمة في التعاون مع البريطانيين جملة من الفوائد والأضرار على الطرفين، بينما أكسب رفض الاتحاديين الاشتراك في عملية الإصلاحات التي نادت وعملت لها الحكومة سمعةً (وطنية) كحزب معارض للاستعمار. غير أن لورنس بوخانين يقول بأن الحزبين كان يعوزهما النضج، ولم تكن غالب جماهير الشعب السوداني تأخذهما على محمل الجد. وأضاف قائلا: “لم يكن أمر الاستقلال الوطني عند القادة القبليين أمرا ممكن عمليا. وعلى العكس من هؤلاء، كان كبار المسئولين ينادون بالوطنية، ربما تفاديا لحقائق الانتقال السياسي للسلطة. ولم تظهر أحزاب ذات برنامج اجتماعية للتنمية والديمقراطية، حتى بداية الخمسينات حين لاح في الأفق الحكم الذاتي. وكانت الوطنية في المناطق خارج العاصمة صورية ومصطنعة نوعا ما. فقد ظلت كل ميول الناس قبلية في الأساس. وتركزت بؤرة السياسة في الزعماء الدينيين والولاء القبلي. وكان الصراع يدور في الأساس ين طائفتي الختمية والأنصار”.
ونتيجة لتمدد النفوذ الطائفي بدأ الشباب المستاء في التكتل في أحزاب أيديولوجية. ولاحظ الأستاذ جيمس دونقي ظهور تغير في طلابه، إذ تحولوا عن الميرغنية والمهدوية، وضح التأثير الشيوعي (والمال) بعد الخمسينيات. وكان الحزب الشيوعي السوداني وحركة الإخوان المسلمين قد تكونتا فعلا في منتصف الأربعينيات. وقال وليام فارهارسون ? رنج إنه كان يعرف زعيم الحزب الشيوعي (عبد الخالق محجوب) شخصيا، فقد كان أحد طلابه، وكان يعده أحد أذكى الطلاب الذين قام بتدريسهم، وكان يراه في ذلك الوقت من أكثرهم لطفا. وكان ذات الأستاذ، فارهارسون ? رنج، وثيق الصلة أيضا بقادة الأشقاء وحزب الأمة، ولعب دورا صغيرا (وسريا أيضا) في عملية إنشاء حزب الأمة، وكان على علاقة جيدة أيضا بزعيم الأشقاء إسماعيل الأزهري حين كان يعمل مدرسا في مدرسة أم درمان الثانوية التي كان ناظرا لها. وشعر بالأسف لاضطراره لفصله من وظيفته الحكومية في هيئة التدريس بالمدرسة لتجاهله المستمر لواجباته التدريسية. غير أن الأزهري كان شهما كريما مع ناظره السابق، فدعاه، هو وزوجته، بعد أن أصبح رئيسا للوزراء في مساء اليوم الذي سبق يوم رحيله من البلاد في عام 1955م إلى تناول المرطبات في داره، وتبادل معه النَّخْبُ قائلا: “عفا الله عما سلف let bygones be bygones “.
*********** ************** *************

كان كينيث هندرسون يصر على أن الإذعان والاحترام المفرط الذي كان يبديه الرجل السوداني العادي للبريطانيين مرده هو تهذيبه الشديد، فقال: ” يعد السوداني في المناطق الريفية الرجل البريطاني كيانا سماويا / الهيا (divine being)… هذا بالطبع إن لم يغضب منك، فعندها قد تسمع منه كلاما مختلفا جدا! والعرب ? على وجه العموم- أكثر شعوب الأرض مهارة في الإطراء والمداهنة والتملق. فقد وصفني أحد هؤلاء ذات مرة بأني خير من قدم لمنطقته في الثلاثين عاما الماضية من المفتشين. ويدرك المرء بالطبع الدوافع الدنيئة (base motives) التي تملي عليهم مثل تلك الأقوال، غير أنه يجب الاعتراف بأن مثل تلك الأقوال قد ترفع من روح المرء المعنوية”.
ويجب أيضا أن ندرك أن ذلك “الملق” قد يكون مرده إلى صحة تفسير / ترجمة ما يقال. فقد حدث ذات مرة أن نقل موريس لش للعمل مفتشا في المديرية الشمالية، فقال له أحد عمد المنطقة: “المفتش الذي سبقك في العمل بالمنطقة كان مجيدا للعربية، ولكننا لم نكن نفهم كلمة واحدة مما كان ينطق به. وأنت لغتك العربية رديئة ولكننا نفهم تماما كل كلمة تقولها”. وأضاف موريس لش تقييما آخر للبريطانيين من وجهة نظر رجل جعلي سكير، ولكنه لطيف، صاح ذات يوم وهو يقتحم مكتب المفتش بالتالي: “والله أنا مبسوط لأني ممكن أجي مكتب الحكومة وأكلمك بدون خوف انو أنا مظلوم. أنا مظلوم وكايس العدل من الحكومة”. وقال مفتش آخر أن “السودانيون يدركون بصدق أني أعمل من أجلهم ويقدرون ذلك. ويعلمون أنني رجل حامي الطبع، وقليل الصبر، ويضيق صدري أحيانا، ولكنهم يعلمون أيضا أني موظف مخلص أعمل في خدمة الحكومة من أجلهم. وقد قاسيت حتى أتعلم وأجيد العربية ليسهل التفاهم بيني وبينهم، وهذا دليل على رغبتي في خدمتهم.”
ولخص قاون بيل مدى تجاوز العامل الإنساني في الحكم البريطاني لانشقاقات وعدوات الهيمنة الأجنبية فقال: “عندما ذهبت لشمال نيجيريا حاكما لها بعد سنوات من مغادرتي للسودان، زارني عبد الله خليل رئيس وزراء السودان والذي كان في زيارة لشمال نيجريا لمقابلة الساسة هنالك. وبعد مغادرته لنيجيريا أخبرني هؤلاء الساسة النيجيريين بأن عبد الله خليل قدم لهم نصيحة غير متوقعة. فقد قال لهم”: بحق الإله لا تستعجلوا في التخلص من المسئولين البريطانيين”. ولما تعجبوا من قوله وسألوه منكرين عن السبب رد عليهم بالقول: ” رغم أنهم كانوا سادتكم في الماضي، إلا أنهم سيكونون الآن خير خدم لكم. وإن تخلصتم منهم الآن، فقد تجدوا أنفسكم مضطرين لتعيين من يخلفهم من خارج بلادكم، غير أن هؤلاء الجدد لن يكونوا أبدا في ذات المستوى الرفيع الذي ترونه عند البريطانيين الآن”.
************** ************ **********

كان لداؤود عبد اللطيف بعض التوجهات الاشتراكية والوطنية في سنوات الطلب بكلية غردون. وحكى الرجل أنه، وبعد تخرجه من كلية غردون، انضم لمدرسة مساعدي المآمير، وقام ذات يوم بإلقاء خطبة عصماء في حشد من الناس، فقد كان أول مساعد مأمور يعين سكرتيرا لنادي الخريجين. وكانت المناسبة هي زيارة السيد عبد الرحمن المهدي لدنقلا، معقل الطائفة / الطريقة الختمية، والتي يقودها منافسه وخصمه اللدود السيد علي الميرغني. وكان البريطانيون يحسون بالشك والانزعاج وعدم الرضا من “غزوة” ابن المهدي لمعقل الختمية. غير أن السيد عبد الرحمن هون من أمر الزيارة وقال لهم بأنه إنما يزور مسقط رأس والده. وذكر داؤود عبد اللطيف في خطبته ما يفيد بأن تلك الزيارة هي زيارة تاريخية، لأنها المرة الأولى التي يسمح فيها البريطانيون لأبناء البلاد بالعودة لجذورهم، وعد الزيارة بداية للحركة الوطنية. ونشرت صحيفة النيل (لسان حزب الأمة) نص تلك الخطبة. وسرعان ما تحصل مساعد السكرتير الإداري على ترجمة كاملة لتلك الخطبة فقرر من فوره عقد “مجلس تأديب” للموظف داؤود عبد اللطيف، وأمره بالاعتذار كتابة عما ذكره في خطبته، فرد عليه داؤود في حدة بأنه لن يكتب اعتذرا بل سيكتب استقالة من العمل. وبالفعل كتب الاستقالة وقدمها في الحال وغادر مكتب مساعد السكرتير الإداري. ولما سمع السكرتير الإداري السير دوجلاس نيوبولد بالقصة فقال: “نادوا هذا الولد ليقابلني”. ولما أقبل عليه داؤود نهض الرجل واستقبله عند الباب مثلما يفعل عند استقبال الشخصيات المهمة وقاده لمقعده وقدم له قهوة، وبدأ يتحدث معه في مختلف الشئون والموضوعات المختلفة التي شملت الأدب الإنجليزي والشعر وغير ذلك، وتحاشى تماما الحديث في أمر الخطبة والاعتذار والاستقالة. وعندما هم داؤود بالانصراف قال له نيوبولد وهو يودعه: ” انس موضوع الاعتذار. ليس مهما”. وعلم داؤود لاحقا أن نيوبولد كتب عنه مذكرة صغيرة جاء فيها التالي: “هذا الولد له عقل سياسي. سيكون إما معنا أو ضدنا. وأنا أفضل أن يكون معنا، لذا يجب ألا ينقل لأي مكان دون موافقتي. سأهتم بأمره شخصيا… وأرفق الآن مسودة قرار يمنع كل موظفي الحكومة من الاشتغال بالسياسة”. وكان البريطانيون قبل ذلك لا يرون ضيرا في اشتغال الموظفين بالأمور السياسية، بل كانوا يشجعونهم على الاشتغال بها، وكانوا لا يخشون غير دخول الموظفين السودانيين الذين يتركون العمل بالخدمة المدنية في معترك السياسة الطائفية.
********** ************* ***********

طالب السودانيون بالسماح لهم بلعب دور نشط في إدارة بلادهم فأقام البريطانيون في عام 1944م مجلسا استشاريا في شمال السودان لـ “تحديد اتجاه وتطوير المشاعر الوطنية علي أسس بناءة”. وعن هذا المجلس قال الناظر بابو نمر ما نصه:
” طالب المتعلمون السودانيون بالقيام بدور في إدارة البلاد، ولم يعطهم البريطانيون إلا القليل… دخلنا المجلس الاستشاري عن طريق انتخابات أجريت على مرحلتين. فقد انتخبنا أولا للمجلس الاستشاري في المديريات، وانتخبتنا تلك المجالس الإقليمية للمجلس الاستشاري في الخرطوم. وكنت ثالث ثلاثة انتخبهم المجلس الاستشاري في كردفان. وفي ذلك المجلس كانت الأجندة معدة سلفا من قبل مكتب السكرتير الإداري، واقتصرت مناقشاتنا على بنود تلك الأجندة، ولم يكن مسموحا لنا بأن نحيد عنها قيد أنملة. وكان خط المناقشة مرسوما بدقة ووضوح. أتينا وانضممنا لتك العملية وكنا نتحدث باسم المديريات. وكان الأشقاء والليبراليون وآخرون يعارضون تلك الجمعية… كانوا يتعاونون مع المصريين، وكانوا يتهموننا، نحن رجال السيد عبد الرحمن المهدي، بالتعاون مع البريطانيين. وكنا بالفعل نتعاون مع البريطانيين لأننا كنا ننادي بمبدأ “السودانيين للسودانيين”، وطالما وافق البريطانيون على هذا المبدأ، فإن السيد عبد الرحمن المهدي سيمضي معهم. لذا دخلنا المجلس الاستشاري على أساس أن الاستقلال قادم، ولكن على مراحل. ورفض الاتحاديون ذلك. عندها قال لهم السيد عبد الرحمن: “يا إخوان. إن كنت تطالب أحد الناس برد دين قدمته له قدره مائة جنيه، وليس بمقدورك أن تأخذه منه عنوة، وعرض عليك الرجل عشرة جنيهات. هل ترفض العشرة جنيهات وأنت لا تستطيع إجباره على أن يدفع ما عليه من باقي المبلغ في الحال؟ أليس من الأفضل أن تأخذ العشرة جنيهات، فهي أولا اعتراف منه بالدين الذي عليه. وثانيا فهي تقلل من الدين إلى تسعين جنيها. إن لم نستطع شيئا فلنجاوزه إلى ما نستطع. إن أخذنا القليل من ديننا سيقوى موقفنا لآن ذلك سيؤكد حقنا ويؤيد قضيتنا”.
************* *************** *****************
قامت الحكومة المصرية منفردة في عام 1951م بإلغاء اتفاقية الحكم الثنائي. ولاقى ذلك الموقف شجبا واستنكارا شديدين لأنه تم دون أن يستشار فيه أحد من السودانيين، ولأنه سلب حكومة السودان شرعيتها. وفي ذلك الجو المتوتر المشحون أرسل السيد عبد الرحمن المهدي وفدا إلى القاهرة مكونا من خمسة أشخاص كان أحدهم هو الناظر بابو نمر. قال نمر: “ذهبنا لمصر وقضينا فيها خمسة عشر يوما في مفاوضات مضنية حاولوا فيها اقناعنا بالموافقة على القبول بتاج (مصري) رمزي. وفي المقابل أعطونا ورقة لنسجل عليها كل ما نرغب فيه، ووعدونا بالتوقيع على كل مطالبنا وأن يبعثوا بها للأمم المتحدة في أمريكا. قلنا لهم “لا”. أخبرناهم بأننا لم نأت بتفويض من كل السودان، وإنما نحن نمثل حزب الأمة فحسب، ولسنا مفوضين بالموافقة على ما تطلبونه الآن. وأخبرناهم أيضا بأنه للأسف لا توجد ديمقراطية في بلادكم. فقد نجيبكم إلى ما طلبتم، ثم يأتي الملك غدا ويقول لنا: لقد قمت بحل مجلس الوزراء أو عينت وزارة جديدة قد لا توافق على ما عرضتموه علينا، فماذا سيكون موقفنا حينها؟ لا يمكننا القبول بذلك. وعلى كل حال سننقل موقفكم هذا للاستقلالين في السودان. تعرفون موقفنا الآن، وقد نلتقي مرة أخرى لمزيد من المفاوضات. بعد ذلك عدنا للسودان”.
ولخص بابو نمر تجربته في السياسة، ووصف كيف أن الساسة المتمرسين (sophisticated) كانوا يستغلون سذاجة زعماء القبائل ويستخدمونهم من أجل مصالحهم السياسية الذاتية، وأضاف قائلا: “أما بالنسبة لنا، فقد دفعنا دفعا لسيد فلان أو سيد علان، ومضينا في ذلك الطريق. ولولا هؤلاء السادة لما انضممنا للأحزاب السياسية أصلا… لقد كانت طبقة التجار تتحدث عن أن السيد علي الميرغني فعل كذا، أو كون ذاك. أما نحن في البوادي فكنا نتحدث عن أن السيد عبد الرحمن المهدي انضم لكذا أو فعل كذا، وكنا نحن نقف من خلفه. الآن يقولون سيد بابو، وسيد إبراهيم، وسيد بوث ديو، وسيد ستانلي لاوس، وسيد “مش عارف منو”! تكاثرت أعداد “السادة” الآن، وشاع بين الناس الاستمتاع بذلك اللقب. في البدء كان هنالك السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني، وليس هنالك معهما من سيد آخر”.
********** ************ ***********
عبر عدد من المسئولين البريطانيين عن مشاعر سالبة تجاه الحركة الوطنية، رغم أن بعضهم أقر لاحقا ببعض التعاطف مع أهدافها. فقال الإداري البريطاني جورج بريدن: “أنا من أشد المؤمنين بأن الحكم البريطاني في السودان إنما كان يعمل لمصلحة أبناء السودان، والذين لم يصبحوا مؤهلين بعد لحكم أنفسهم. وأعد كل المحاولات لإنهاء هذا الحكم محض فتن وتحريض وليس وطنية”. بينما ذكر إداري آخر (هو لورنس بوخانين) بأنه كان سيؤيد الوطنيين لو كانوا يعترفون بفضل بريطانيا في العمل من أجل نيلهم لاستقلالهم. وشبه آخر (هو جون فيليبس) مظاهر “الوطنية السودانية” من مظاهرات عنيفة في المدن بأنها غير ضرورية، تماما مثل محاولة كسر باب مفتوح عنوةً. ولعل من قادوا تلك المظاهرات العنيفة الصاخبة كانوا يظنون بأن نيل الاستقلال بهدوء وسلام هو أمر معيب يتنافى مع العظمة والجلال.
لقد كانت أقوى سبب لتحفظ البريطانيين على استقلال السودان هو خوفهم من وقوع السودان تحت سيطرة المصريين، والذين كانوا لا يكنون لهم غير الاحتقار. وزعم مدرس الأعمال اليدوية بمعهد بخت الرضا البريطاني جان بيير قرينلو، أن البريطانيين عملوا على رعاية وتعضيد الذين ينادون بـ “السودان للسودانيين” وبمعاداة مصر. وعد جيمس روبنسون النظم المصرية فاسدة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها في كل شيء تقريبا، وقال: “لقد كان البريطانيون يخشون من تسرب ذلك الفاسد الذي لا أمل في إصلاحه للسودان. لقد استشهدت في كتابي بما جاء في الإنجيل من أن “مصر تترنح في قيئها مثل رجل مخمور”. نعم … قد يكون ذلك اقتباسا خسيسا. غير أنه يجب التأكيد على أن المشاعر الكارهة للمصريين في أوساط البريطانيين في السودان كانت حادة جدا”.
************* ************ ************
من الافتراضات الشعبية الشائعة عند كثير من السودانيين أن الشذوذ الجنسي كان سائدا في أوساط البريطانيين بالسودان. وربما كان مرد ذلك هو انعزال هؤلاء الموظفين، وعدم وجود أي علاقات نسائية لهم مع السودانيات (أو غيرهن). بل ويؤمن كثير من السودانيين بأن الشذوذ الجنسي هو “بضاعة استعمارية مستوردة” لم تكن معروفة قبل قدوم المستعمرين. غير أن كل من سئل من البريطانيين (والسودانيين) عن شيوع تلك الممارسة في أوساط الموظفين البريطانيين أنكر ذلك في إجابات مقتضبة لا تخلو من فظاظة أحيانا. ويعزو ناظر المدرسة الثانوية فارهارسون ? لانق غياب الشذوذ الجنسي عند الموظفين البريطانيين لدقة اختيار هؤلاء الموظفين البريطانيين للعمل بالسودان ابتداءً، وأكد أنه لم يكن من الممكن أن يعين أي موظف معلوم الشذوذ في خدمة حكومة السودان. وأضاف ديريك كاردن (الإداري البريطاني في كردفان والسفير البريطاني بالخرطوم لاحقا) أن الشذوذ الجنسي في ذلك العهد كان ممارسة مستهجنة مستحقرة، ويستحيل على من تحوم حوله أدنى شبهة بممارستها أن يعثر على وظيفة. وكانت تلك الممارسة ترتبط أيضا في أذهان الكثيرين ببعض دلالات التخنث، وهو أمر يتناقض مع طبيعة العمل في السودان، والتي تتطلب المتانة والقوة، والمرونة أيضا. ويعتقد الأستاذ الن ثيوبولد (من رواد التعليم الثانوي والجامعي في السودان) أن قسوة المناخ في السودان ومصاعب الحياة العملية الشاقة فيه تقلل من ضغوط الغرائز والشهوة الجنسية على الموظف البريطاني.
وصنفت كل القصص التي ظل الناس يتداولونها حول سلوك قليل الموظفين البريطانيين ممن حامت حولهم الشبهات والاتهامات بالشذوذ الجنسي على أنها محض إشاعات (معنعنة) مجهولة المصدر ولا أساس لها من الصحة. غير أنه علم أن مصدر حالة واحدة من تلك الحالات النادرة كان موظفا بريطانيا كان على خلاف حاد مع زميل له من بني جلدته، ولم يجد الرجل لذلك الخلاف حلا جذريا غير أن يطلق إشاعة “مدمرة” عن زميله ويشيع عنه أنه “شاذ جنسيا ويحتفظ في منزله بصبي محلي”.
وأكد كينيث هندرسون (إداري بريطاني حكم دارفور في بداية الخمسينيات) بأنه يصعب على الجيل الحالي (وحتى على ابنه نفسه) أن يصدق بأن الموظفين البريطانيين كانوا بالفعل عُزَّابا بإرادتهم (celibate) وليسوا شواذا. غير أن الرجل نفسه عاد وقال إن بعض الموظفين البريطانيين كانت بهم “مسحة من شذوذ mildly homosexual ” بمعنى أنهم كانوا يفضلون صحبة الرجال (الشباب) على النساء، وكانوا يشعرون بالخوف نوعا ما من النساء. وكان هندرسون يعد دوجلاس نيوبولد (أحد أهم من حكموا كردفان في العهد الاستعماري، وتقلد أيضا منصب السكرتير الإداري) أحد هؤلاء. وأكد روبن هودكن (نائب مؤسس معهد بخت الرضا) ما زعمه هيندرسون عن نيوبولد، بل وأضاف أن أكثر ثلاثة بريطانيين (عزاب) يكن لهم فائق الاعجاب والاحترام كانوا بالفعل من الشواذ (ولكن ربما بطريقة غير نشطة nonactive). وبالإضافة إلى نيوبولد شملت قائمة الرجل أسماء معروفة أخرى مثل قريفث (مؤسس بخت الرضا) وكثبرت اسكوت (إداري ومعلم).
********** *********** ***************
كانت العلاقات الرسمية والشخصية بين الموظفين البريطانيين والجنوبيين تشابه تلك بين البريطانيين والشماليين، رغم أنه كانت هنالك فروقات نوعية في بعض الحالات. وكان الجنوبيون والشماليون على حد سواء يبدون اعجابهم الشديد بالموظف البريطاني كشخص جاد وأمين وله إحساس عال بالمسئولية. ويقول بنجامين لانج جوك (زعيم فرع أكوار الدينكا على الحدود بين بحر الغزال وأعالي النيل وكردفان): “الشخص الوحيد الذي يحبه البريطانيون هو الذي يؤدي عمله على أكمل وجه”. ووافقه في ذلك سانتيو دينق (وزير جنوبي من دينكا ملوال، عمل وزيرا في عدد من الأنظمة الحاكمة المتعاقبة) والذي قال: “البريطانيون يريدون أن يعمل الأهالي بكل طاقتهم. كل ما يخططون له يتم تنفيذه بدقة. إن لم تنفذ ما يطلبونه له من عمل فإنهم سيعاقبونك بصرامة. لقد فقد الكثيرون وظائفهم بسبب كسلهم”. ولاحظ زعيم قبلي آخر هو ريان إلى أن الموظف البريطاني لا يذهب في الصباح إلى مكتبه من دون المرور على موقع العمل الميداني أولا، فيوم الواحد منهم يبدأ في السادسة صباحا بشرب الشاي ثم التوجه مباشرة لمشاهدة عرض الشرطة اليومي ولمواقع العمل الأخرى مثل إسطبل الخيول، أو مواقع تشييد الطرق أو غيرها. وفي البدء لم يكن البريطانيون يمنحون الزعماء القبليين مرتبات منتظمة، بل كانت مرتباتهم مرتبطة بما يؤدونه من عمل محدد، مثل جمع الضرائب وغيرها. وكان يدفع عادة للزعيم في الغابة. فإن نجح أفراد قبيلته مثلا في قتل فيل، واشترت الحكومة أو أي شركة سني الفيل فإن ممثل الحكومة يقوم بتقسيم العائد على زعيم القبيلة وأفراد قبيلته. غير أن ريان لاحظ أيضا أن الموظفين الجنوبيين كانوا لا يبدون كبير احترام للزعماء القبليين الجنوبيين ويعاملونهم كخدم لهم، بعكس ما لاحظه في تعامل الموظفين مع زعماء القبائل في كردفان مثلا. فكان الموظف الجنوبي مثلا لا يتورع عن صفع الزعيم القبلي الجنوبي عندما يخطئ في عمل ما. وكان بعض الإداريين البريطانيين أيضا يسيئون معاملة الأهالي والزعماء المحليين أيضا، مثل النقيب ريتشاردز، والذي كان يتعاطى الأفيون ويتصرف كرجل مجنون، والنقيب بوول (والذي تزوج فتاة دينكاوية لاحقا) ولكنه كان يضرب من يزعجه من الأهالي مهما كان وضعه. وذكر الزعيم بنجامين لانق أن الإداريين البريطانيين كانوا يعيرونهم دوما بفقرهم وتخلفهم. وإن طالب موظف جنوبي متعلم برفع مرتبه فعادة ما يلقى ردا مسيئا من مسئول بريطاني مفاده: “إننا نعمل من أجل بناء بلدكم، وبريطانيا ليس لها فائض أموال، وما تحصلون عليه الآن من مرتبات إنما يأتي من إخوانكم في الشمال”. وعد لانق ذلك أمرا مهينا لأي رجل (جنوبي) يملك ثروة معتبرة من الأبقار.
********** *********** *********
وفيما يتعلق في أمر العلاقات بين الذكور والإناث في جنوب السودان ذكر الزعيم بنجامين لانق أن معظم البريطانيون كانوا “لا يغازلون الفتيات، ولا يشتهون نساء الرجال الآخرين. فهم رجال في غاية التهذيب ولهم قدرة عالية على التحكم في غرائزهم. ولا يمكن أن ترى أحدا منهم يتسكع ليلا في الشوارع. فالبريطاني يقبع في منزله ليلا بالقرب من مصباح يضيء مكانه، وعندما يشعر بالنعاس يذهب لفراشه وحيدا. لا أدري ما يفعله هؤلاء الناس لإشباع شهوتهم الجنسية؟!”. ولم تكن الحكومة تشجع الإداريين البريطانيين على إحضار زوجاتهم (إن كانوا متزوجين) للسودان، (خاصة الجنوب) لأسباب كثيرة، ولعل السيدة وليامز زوجة ناظر مدرسة رومبيك الثانوية كانت استثناءً من تلك القاعدة. ولم يكن هنالك اختلاط اجتماعي كبير بين نساء ورجال البريطانيين ونظرائهم المحليين لاختلاف طريقة الحياة، والانشغال، وغير ذلك من الأسباب. ولاحظ بنجامين لانق أن الموظف البريطاني في الجنوب قد يشيب شعر رأسه قبل أن يتزوج. وبسبب الحساسيات العنصرية والخوف من “الفضائح” قلما يقيم الموظف البريطاني علاقات مع نساء محليات بغرض الزواج أو غيره. وفي الحالات النادرة جدا التي يقترن فيها الموظف البريطاني بجنوبية، فإن احتفالات الزواج تتم بحسب الأعراف والعادات المحلية، وإن أثمر ذلك الزواج أطفالا، فإن عائلة وأقرباء الزوجة سيعترفون بالمولود كطفل شرعي، وكواحد منهم.
********* *********** ************
وعند السؤال عن مدى انتشار الشذوذ الجنسي بين هؤلاء الموظفين البريطانيين في الجنوب أجاب غردون مورتات (ضابط شرطة سابق، وسياسي من دينكا أقار برمبيك) بالنفي القاطع. بينما أصر مانوه ماجوك (محاسب وإداري ووزير في عهد نميري، من دينكا بور) أن الشذوذ الجنسي أمر غير معروف عند قومه. وأقر سانيتو دينق بأن حدوث الشذوذ أمر ممكن الحدوث ولكنه لم يلاحظ شيئا من ذلك في منطقته. بينما تذكر أندرو ويو (سياسي من دينكا “الشمس المقدسة” بأعالي النيل) أن أحد مساعدي المفتش البريطاني كان قد عين لخدمته في بيته شابين شاذين جنسيا كانا يحبان السير عراة تماما في وسط الأهالي المحليين. وكان الأهالي يشكون في وجود علاقة شاذة بين ذلك الموظف وأحد رجال الشرطة، ويعتقدون أنهما كانا يعيشان معا. ورغم ذلك أصر أندرو وويو على أن الشذوذ الجنسي أمر نادر الحدوث في الجنوب.
********* ************* ************
يعتقد بعض الجنوبيين المتعلمين أن الإدارة البريطانية كانت مصدرا من مصادر المشاكل والصراع في السودان. فقال مانوه ماجوك: “لا نزال نعاني من آثار سياسات البريطانيين في جنوب السودان”. وذكر غردون مورتات أن البريطانيين شجعوا الانقسامات اللغوية والثقافية والإدارية بين القبائل الجنوبية. وجعلت تلك السياسة كل قبيلة لا تقبل بأي تدخل في شئونها من القبائل الأخرى. وشهدت سنوات الحكم البريطاني عددا من الصراعات بين القبائل الجنوبية، مما منع حدوث أي تناغم أو انسجام سياسي بينها، وعطل التطور الوطني والنضوج السياسي عند قادة تلك القبائل. بينما أبدى آخرون اعجابهم ومحبتهم للإداريين البريطانيين. فقال أحد قادة القبائل: “إن سألت الآن جنوبيا كبيرا في السن عن أيهما يفضل: الإداري البريطاني أم الإداري السوداني الجنوبي؟ لا شك أنه سيختار الإداري البريطاني من واقع التجربة المباشرة.
غير أن أخطر ما أتهم به البريطانيون في جنوب السودان هو العنصرية. ويعتقد غردون مورتات أن العنصرية عند البريطانيين أشد من تلك التي توجد عند غيرهم من الغربيين. وأضاف قائلا: “يعتقد البريطانيون أنهم أفضل الناس وأنهم أعظم من غيرهم، وأن سائر الشعوب الأخرى أقل منهم مكانة. إنهم يؤمنون بأن شعوب أفريقيا مثلا لن تتقدم أبدا وتصل إلى ما وصلوا هم إليه. يجب ألا ننسى تأييدهم للأقلية في روديسيا وناميبيا وجنوب أفريقيا. إن الصداقة بين بريطانيا والسودان المستقل هي صداقة بين بريطانيا وشمال السودان، وليس معنا في الجنوب “. وفي المقابل يقول الزعيم لانق جوك: “يجب أن نشعر بالشكر والامتنان للبريطانيين لأنهم فعلوا من أجلنا الكثير. وحتى إن قاموا ببعض الأفعال الخاطئة، فإن ما قدموه لنا يغفر لهم تلك الأخطاء”.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..