عساكر نوفمبر كانوا أولاد ناس..!

العيب ليس في الديمقراطية وإنما في غياب الديمقراطيين. الديقراطية لن تخلق التغيير، لكنها تخلق الظرف المواتي للتغيير. الفرق كبير وشاسع بين الحكم العسكري والمدني، لكن السودان في طفولة التي لا تنتهي، وتجاربه “الديمقراطية” قصيرة الأجل، والحلقة المفقودة في مجتمعنا هي غياب الطبقة الوسطي ــ المستنيرة ــ التي توازن بين الديمقراطية والتنمية.. ليست مصادفة، أن يبقى عبّود في السلطة 6 سنوات، بينما تبقى مايو 16 سنة، فتتبعتها الرادِفة حتى تاريخه … حتى إذا جاءتنا آزِفة أُخرى، مكثت فينا بزيادة عشرة سنوات..! هل هي مصادفة، أن تتوق قوى التغيير إلى الحكم المدني فتستعيده، ثم تردد نفس الاكتوبريات، عندما تفتقده..؟
ليس ممكناً تمجيد دكتاتورية بأنها أقل بشاعة من الأخرى، لكن من الممكن تقييم طبيعة كل نظام، فتبقى الفروقات بين نظام إنقلابي وآخر، محض فروقات، وليست مآثر.. كان الفريق عبّود ــ له الرحمة ــ عسكريا مهنياً، بينما صنع نظام مايو الإتحاد الاشتراكي كغطاء مدني وواجِهة سياسية لنظام شمولي.. ثم طال الظلام في التجربة التالية إثر إختراق كيان صغير للقوي التقليدية، فتعسكرت البلاد وتم تحطيم القوي الحديثة ونقاباتها تحت غطاء المقدس، ومورست الشعوذة السياسية ممزوجة بالقمع. الفرق بين الطفرات الثلاث، أن الأول كان إنقلاباً غير مؤدلج حتى رحيله، أما الثاني فقد أردف الأدلجة وراء ظهره. ثم جاء الثالث بأيدلوجيا التبرير ليفعل بها مايشاء، حتى اذا أعيته الحيلة قسّم السودان إلى دولتين، وأرهقته بقايا النجوع.
عند تقييم تجربة عبود، ينبغي أولاً النظر إلى أنه: إفترع الحلقة الشريرة. هو من علّم صبية العسكر الانقلابات. هو من بدأ سياسة الأسلمة والتعريب وتبني الحل العسكري في الجنوب. عبود إنقلابي مافي كلام، وموالٍ للطائفية مافي كلام، لكن برضو كان إنسان طيِّب.. عندما ثار السودانيون في وجهه ، لمْلَمْ عَفشو طوّالي.. لا خير في الإنقلاب عسكري، وان جاء بالمن والسلوي. لقد ارتكب نظام نوفمبر، جريمة إغراق حلفا. باع الأرض والتراث والتاريخ.. ارتكبت مايو العديد من الجرائم، آخرها كان التستر علي مجاعة ١٩٨٤م، أما أهل الرادِفة، فقد فاقت جرائمهم الأولين والاخرين. لم يستوعب السودانيون خطل المهدية، ففجعهم التاريخ باعادة الدرس في الإنقاذ. لم يتأمّلوا أكتوبر، فركبتهم الطائفية وهي أسوأ من الانقلاب.
عساكر نوفمبر كانوا أولاد ناس، وقصة عبّود بعد تنازله عن السلطة، في سوق الخضار معروفة.. عبود تنازل لعبد الناصر عن حلفا، فكانت عطاء من لايملك لمن لا يستحق… من مآثره أنه جاء الى السلطة بدعوة “كريمة” من كيان حزب الأُمّة، وغادرها بطلب “كريم” من الشعب كله.
من حسناته أيضاً، أنه كان عسكرياً منذ لحظة ظهوره في القصر وحتى دخوله القبر. طاف عبّود أغلب مناطق السودان البعيدة، وزرف على حلفا بعض الدموع، وأعطى أهلها بعض التعويضات، وتسلّم المعونة وبنى بها الكوبري والشارع. رغم ديكتاتوريته ودكتاتوريتهم، إلا أنهم كانوا اولاد ناس.. لم يكتنزوا، ولم تحللّوا.
عبّود لم يتكسب من المنصب. أتى إليه فريقا وغادره فريقا، ولم يضف إلى نفسه كلمة “أول”، رغم أنه الانقلابي الأول والأنظف، مقارنة بالانقلابات التي وقعت في بلادنا. كان بيته هو نفس بيته، عندما كان ضابطاً. في عهده، كان طعام الغني والمسكين متقارباً، وكان ــ وهو الرئيس ــ يعيش بمستوى أقل من جيرانه الاطباء. كان يُستقبل بحفاوة.. استُقبِل إستقبال الملوك في بريطانيا وأمريكا وروسيا، رغم أنه رئيس غير ديمقراطي.
لقد ترك عبّود، خزينة الدولة ممتلئة فافرغها الذين جاءوا من بعده. المأثرة الكبري لعبّود أنّه حقن دماء السودانيين، وغادر السلطة طائعاً لإرادة الناس، ولم يفعل مثل بشار الأسد..!
أنظر ماذا يفعل بشّار الأسد في سوريا..
“بشّار”، أحرق البلد لأجل أن يبقى حاكماً فوق الرّماد..!
اخر لحظة
هناك مسلمات مطروحة اخي عبدالله تحتاج الي مراجعة ..التوثيق للعسكريين جاء محدودا للغاية ومركزا في الغالب علي الانقلابات وفكرة خرق الدستور مع تغليب سبب شهوة السلطة. امن المعقول ان تكون شهوة السلطة سبب يدفع بشباب ضباط في بهاء حياتهم وعلو مركزهم الاجتماعي في ذلك الوقت للمجازفة بارواحهم وجنودهم ومستقبلم و اسرهم والسير في طريق مملؤ بالمخاطر؟
هذاالتوثيق يحتاج الي تدقيق، فباسثناء مبادرات قليلة جاء التوثيق متكئا علي أطروحة الستينات والسبعينات و منطق “الملكية” وانبهارهم بديمقراطية وستمنستر كدعامة للحكم والتنمية دون التنقيب المتأني في مستوي النضج السياسي في افريقيا بعد الحرب العالمية الثانية ودون قياس ارتباط الشعور العسكري لضباط العالم الثالث وجدانيا وعمليا بمؤثرات التحرر الافريقي والعربي والاسيوي في ذلك الوقت. أخطر من ذلك فإن المتابع للاحداث والوقائع سيلاحظ أن قيادة الجيش السوداني قد التزمت بالدستور في كافة الظروف التي سبقت قيام الانقلابات وبالمسلك العسكري الرشيد المنضبط في نقل الرأي العام الجماعي للقيادة ثم للاسف أخفقت القيادة السياسية في كل الاوقات في ادراك حرج الموقف.ونتاجا لذلك ينقلب صغارالضباط علي قادتهم مما يظنونه استشعارا لمسئولية وفي معظم الاحيان يدفعهم لذلك سياسيون مغامرون .. للتأكيد أنظر ما حدث
قبيل نوفمبر 1958 الانضباط في حوار الفريق عبود ورجاله مع السيد عبدالله خليل تسلم عبود السلطة قسرا كالتزام من القوات المسلحة بحفظ الاستقرار وحفاظا علي مصلحة قومية كبيرة هي قبول السودان المعونة الامريكية التي كان يتاجر سياسيون بارزون بها من اجل علاقات خاصة بمصر، وبعدها في اكتوبر 64 نزولا علي رغبة الشعب جرت مشاورات الضباط العظام برئاسة نائب القائد العام اللواء حسن بشير ثم القرار الشجاع للمجلس الاعلي للقوات المسلحة برئاسة الفريق عبود حل نفسه.
قبل مايو69 ، مذكرة مسئولة يرسلها الفريق الخواض محمد أحمد القائد العام الي رئيس القضاء يستفسر فيها رئاسة القضاء حول الموقف الامثل للقوات المسلحة تجاه اشكالية حل البرلمان باعتباران الجيش هو حامي الدستور وطلب الخواض من رئيس القضاءالفصل الواضح في تفسير الدستور هل ينحاز الجيش لرأس الدولة أم للبرلمان في الازمة الناشئة ..تتلاحق الاحداث والبرلمان ورأس الدولة يتآمران علي الدستور وتضيع التجربة الديمقراطية الثانية في مايو 1969 ليتهم استمعوا لقيادة الجيش ..
قبيل يوليو 1971 الترتيب الحصيف لرئيس الاركان اللواء محمد عبدالقادر عمر للقاء عام يجمع جميع الضباط بمجلس قيادة الثورة يطلب فيه الضباط التنوير حول وجود انشقاق بالمجلس وعن وجود تيار شيوعي بالمجلس ؟ الرئيس نميري وزملائه ينفون وجود الانشقاق وبعدها بايام ينفجر الموقف ويفقد السودان ارواحا عزيزة من الجانبين ليتهم استمعوا لقيادة الجيش ..
قبل ابريل 1985 اللقاء الشجاع للفريق أول عبدالماجد حامد خليل وزير الدفاع والقائد العام و رئيس الاركان وقيادات الجيش بالنميري لاطلاعه علي ما يدور في الشارع ، الرئيس يرفض النصح ويعفي القيادة وليته استمع لقيادة الجيش.
ابريل 86 الجيش لا يجد مناصا من استلام السلطة خوفا من الفوضي ثم التزام المجلس العسكري الانتقالي بقيادة المشير سوارالذهب بتسليم السلطة في ابريل 86 امتثالا ونزولا علي رغبة الشعب ،واخيرا قبل يونيو 89 مذكرة الجيش الشهيرة لرئيس الوزراء بتوقيع الفريق فتحي احمد علي ورئس الوزراء يرد بقسوة وتجئ الانقاذ ليتهم استمعوا لقيادة الجيش.
أليس في كل ذلك ما يشيرأن قيادات الجيش سعت المرة تلو الاخري لتجاوز المحن بالحكمة وقد كان في مقدورها استلام السلطة بيسر؟ الا يوحي ذلك بالالتزام الصادق من جانب قيادات القوات المسلحة بمهمتهم في حراسة الامر المؤقت أو الدستور الساري وفي كل العهود؟ ألا نري شبهة ظلم للعسكريين وفجوات في التوثيق والتحقق في تاريخنا السياسي للقرن العشرين؟!
هناك مسلمات مطروحة اخي عبدالله تحتاج الي مراجعة ..التوثيق للعسكريين جاء محدودا للغاية ومركزا في الغالب علي الانقلابات وفكرة خرق الدستور مع تغليب سبب شهوة السلطة. امن المعقول ان تكون شهوة السلطة سبب يدفع بشباب ضباط في بهاء حياتهم وعلو مركزهم الاجتماعي في ذلك الوقت للمجازفة بارواحهم وجنودهم ومستقبلم و اسرهم والسير في طريق مملؤ بالمخاطر؟
هذاالتوثيق يحتاج الي تدقيق، فباسثناء مبادرات قليلة جاء التوثيق متكئا علي أطروحة الستينات والسبعينات و منطق “الملكية” وانبهارهم بديمقراطية وستمنستر كدعامة للحكم والتنمية دون التنقيب المتأني في مستوي النضج السياسي في افريقيا بعد الحرب العالمية الثانية ودون قياس ارتباط الشعور العسكري لضباط العالم الثالث وجدانيا وعمليا بمؤثرات التحرر الافريقي والعربي والاسيوي في ذلك الوقت. أخطر من ذلك فإن المتابع للاحداث والوقائع سيلاحظ أن قيادة الجيش السوداني قد التزمت بالدستور في كافة الظروف التي سبقت قيام الانقلابات وبالمسلك العسكري الرشيد المنضبط في نقل الرأي العام الجماعي للقيادة ثم للاسف أخفقت القيادة السياسية في كل الاوقات في ادراك حرج الموقف.ونتاجا لذلك ينقلب صغارالضباط علي قادتهم مما يظنونه استشعارا لمسئولية وفي معظم الاحيان يدفعهم لذلك سياسيون مغامرون .. للتأكيد أنظر ما حدث
قبيل نوفمبر 1958 الانضباط في حوار الفريق عبود ورجاله مع السيد عبدالله خليل تسلم عبود السلطة قسرا كالتزام من القوات المسلحة بحفظ الاستقرار وحفاظا علي مصلحة قومية كبيرة هي قبول السودان المعونة الامريكية التي كان يتاجر سياسيون بارزون بها من اجل علاقات خاصة بمصر، وبعدها في اكتوبر 64 نزولا علي رغبة الشعب جرت مشاورات الضباط العظام برئاسة نائب القائد العام اللواء حسن بشير ثم القرار الشجاع للمجلس الاعلي للقوات المسلحة برئاسة الفريق عبود حل نفسه.
قبل مايو69 ، مذكرة مسئولة يرسلها الفريق الخواض محمد أحمد القائد العام الي رئيس القضاء يستفسر فيها رئاسة القضاء حول الموقف الامثل للقوات المسلحة تجاه اشكالية حل البرلمان باعتباران الجيش هو حامي الدستور وطلب الخواض من رئيس القضاءالفصل الواضح في تفسير الدستور هل ينحاز الجيش لرأس الدولة أم للبرلمان في الازمة الناشئة ..تتلاحق الاحداث والبرلمان ورأس الدولة يتآمران علي الدستور وتضيع التجربة الديمقراطية الثانية في مايو 1969 ليتهم استمعوا لقيادة الجيش ..
قبيل يوليو 1971 الترتيب الحصيف لرئيس الاركان اللواء محمد عبدالقادر عمر للقاء عام يجمع جميع الضباط بمجلس قيادة الثورة يطلب فيه الضباط التنوير حول وجود انشقاق بالمجلس وعن وجود تيار شيوعي بالمجلس ؟ الرئيس نميري وزملائه ينفون وجود الانشقاق وبعدها بايام ينفجر الموقف ويفقد السودان ارواحا عزيزة من الجانبين ليتهم استمعوا لقيادة الجيش ..
قبل ابريل 1985 اللقاء الشجاع للفريق أول عبدالماجد حامد خليل وزير الدفاع والقائد العام و رئيس الاركان وقيادات الجيش بالنميري لاطلاعه علي ما يدور في الشارع ، الرئيس يرفض النصح ويعفي القيادة وليته استمع لقيادة الجيش.
ابريل 86 الجيش لا يجد مناصا من استلام السلطة خوفا من الفوضي ثم التزام المجلس العسكري الانتقالي بقيادة المشير سوارالذهب بتسليم السلطة في ابريل 86 امتثالا ونزولا علي رغبة الشعب ،واخيرا قبل يونيو 89 مذكرة الجيش الشهيرة لرئيس الوزراء بتوقيع الفريق فتحي احمد علي ورئس الوزراء يرد بقسوة وتجئ الانقاذ ليتهم استمعوا لقيادة الجيش.
أليس في كل ذلك ما يشيرأن قيادات الجيش سعت المرة تلو الاخري لتجاوز المحن بالحكمة وقد كان في مقدورها استلام السلطة بيسر؟ الا يوحي ذلك بالالتزام الصادق من جانب قيادات القوات المسلحة بمهمتهم في حراسة الامر المؤقت أو الدستور الساري وفي كل العهود؟ ألا نري شبهة ظلم للعسكريين وفجوات في التوثيق والتحقق في تاريخنا السياسي للقرن العشرين؟!