مقالات ثقافية

لملاكِ الرَّبِّ أجنحةُ يعسوبْ

محمد عبد الملك عبدالحي

ود نوباوي.أمدرمان :الوقتُ هناك هزيعٌ وسيطٌ من ليلةِ صيفٍ ذات قمر .
وسْت قيت.لنكولن :الوقتُ هُنا غروبٌ باكرٌ بلا شفق،حوَّله الشتاءُ إلى غسقِ ليلٍ قد وقبْ.
الدريسة.السوكي: الوقتُ هناك سحَرٌ أخيرٌ أفلتَ فيه الفجرُ من غلسٍ حتى تكادُ تبينُ فيه أسنانُ أبي إذ يبتسم.
وهُنا وهُناك؛ ملاكُ الرٌّب يرفرفُ بأجنحةِ يعسوبٍ شفافة : فإن بسطها تباعد المكانُ، والزمانُ تبعثر، وإن قبضها آلَ المكانُ ، وكلُّ ما كان ، إلى زمكان، إلى هُنا والآن، حيث يتجاور أمام ناظريْ: الماضي والحاضر، الهُنا والهُناك؛ كأنَّ آصِفَ بنِ برخيا؛الذي عنده علمٌ من الكتاب، يقيمُ تحت أجنحته الشفافة.

الطقسُ في الخارج زمهريرٌ مدوٍّ؛ كأنَّ عينة الشُوْلة قامت قيامتها الكُبرى هنا، بينما هبوب الصَّبا تهبُّ، هناك، أول الليل حتى آخره: لطيفةً تتخللُ المسام.

لكن؛ ثمة دفءٌ يشتهى، هنا، في قاعة أكاديمية وسْت قيت؛ فبعد قليل سيقدِّم الطلاب عرضاً مسرحياً لميلاد المسيح، وذلك ضمن الاحتفالات السنوية بالكريسماس، ولذلك فقد جاء لفيفٌ من الأُسر ليشهدوا عرضَ ذلك الميلاد الغرائبي، ولذلك جئتُ أنا، وجاء ملاكُ الرَّب أيضاً؛ وقف، كعادته، غير بعيدٍ منى؛ بتلك الابتسامة الملغزة ونظرهُ مثبَّتٌ أبداً عليْ ، يحصي حركاتي وسكناتي؛ فكلُّ ما وقعت عيناي على موقعٍ ، وقعتْ، في ذات الآن، عيناه الملائكيتان عليه؛ لأرى ما هجستْ به نفسي قائماً، ويحدث أحياناً أن تقود عيناه عيني لتُريَاني ما كنتُ لا أرى، وحين يطغى ارتباكي؛ يخفقُ، خفيفاً ، بأجنحته اليعسوبية ويبتسمْ؛ فينبسط المكانُ، حيناً، وينقبض . ويتمدَّد الزمانُ، حيناً، وينجبد.

عند بوابة الدخول؛ فحص المسؤول بطاقة الدعوة التي معي بتركيزٍ أكبر- نعم؛ لقد بتُّ أتفهَّم ذلك الارتياب وأجدُ له العذر- نظر فيها ملياً ثمَّ حوَّلها للتي بجانبه ، تهامسا، ثمَّ ابتسمَ بتكلُّفٍ وأشار إلي بالدخول. لم أرَ من المرأة إلا صفحة وجهها ، خمَّنتُ ما يمكن أن يكونا قد قالا لبعضهما بشأني؛ فاسمي يدلُّ عليَّ وينمِّطني؛ أعلمُ ذلك، وأعلم أنَّ أجهزة الإعلام لم تدَّخر جهداً في استغلال الأحداث المتواترة للتنميط؛ الأحداثُ التي كثيراً ما استغلَّ فيها غيريَ اسمي؛ لقتل غيري باسمي، لكنني لستُ معنياً على كل حال بنفي الظنون وإلا صرتُ كالمجنون إنْ أنا فعلتْ.

جلستُ في المكان المخصَّص لي، على يميني جلسَ رجلٌ سبعيني قدَّرتُ أنه جاء ليشهد حفيده، بينما جلستْ على المقعد يساري امرأة خمسينية كنتُ في شغلٍ عنها إذ لم يتركني توجُّسي، ووقعُ الخطى المموسق الآتي من خلف القاعةِ ماشياً نحو الخشبة، أن أفكِّر في من تكون، كان وقعُ الخُطى مموسقاً وعالياً، وكذا توجُّسي، كأنَّ صمتَ القاعةِ موسيقى تصويرية للعدم المؤكِّد للوجود، لم أستطع مقاومة الإلتفات – كما يقتضي الاتيكيت – فالتفتُّ ورأيتُ ذات المرأة التي فحصت بطاقة دعوتي قادمة: إمرأة في منتصف عقدها الثالث تقريباً ، طويلة في غير ما إفراط ، لا يتجاوز ارتفاعها فوق الكعب العالي متراً وثمانين سنتميترا ، بدينة في غير ما ترهُّل، لا يزيد وزنها على الثمانين كيلوغراماً إلَّم يقل ، بيضاءَ في تنُّورة سوداء وبلوزة أرجوانية، شدَّ الكعبُ العالي ساقيها، برم خصرها، أطلع صدرها وأتلع جيدها حتى حوَّلها لصاروخ رغبةٍ مدمَّرٍ يوشك على الإنطلاق.

وقفتْ على خشبة المسرح وقدَّمت كلمة مختصرة ، رحَّبتْ فيها بالحضور، وهنأتْ بأعياد الميلاد، و تمنَّتْ للجميع قضاء أمسيةٍ جميلة مع العرض المسرحي لميلاد المسيح ،أومأ الجميع برؤوسهم استحساناً وكذلك فعلتُ، نزلتْ من الخشبة ومشت نحو القاعة، رأيتُ ملاك الربَّ فوقها يبتسمُ لي بتواطؤ ، ثمَّ رأيته ينظُر للمقعد الذي على يساري ، فجأةً قامت الجالسةُ عليه لتجلس على المقعد الذي يليه، ولدهشتي جاء صاروخُ الرغبة المدمِّر ليهبط يساري ، جلستْ ثمَّ عدّلت جلستها بما يوائمُ جسدها فاحتكَّ طرفٌ منها بي، التفتت بعفويةٍ لتعتذر فالتقت عيوننا؛ هجستُ : (يا رب الملاك!) وجهها يذهبُ بتمامه إلى جمالية عصر النهضة ، وهي جماليتي التي أحب ، هي مسندي المريح الذي أطبِّق عليه نظريتي الخاصة التي أسمِّيها ” وحدة الموجود” وهي نظرية انسانية تقوم على فكرة النظائر البشرية لا الفيزيائية . وجدتُ صعوبةً في ان أقتلع عينيَّ من وجهها، وحين بالكادِ نجحتُ هجستُ: (يا ملاكُ الرَّبِّ ترفَّق !) قلتُ في نفسي متحسِّراً : لو رآها أبو صلاح أو ود الرَّضي …! وهذا التحسُّرُ ظلَّ يلازمني كلما أعيا الجمالُ حيلتي.

فجأة التفتت نحوي ثانيةً وابتسمتْ، هذه المرَّة، ابتسامة نهضوية واسعة، يبدو أنها تنوي بها الدخول في حوار، بينما أنوي أنا الهروب من حالة التوجُّس التي داخلتني منذ دخولي – عند البوابة – وحتى جلوسها، الآن، بقربي؛ فما أفكِّر لماذا هي الآن جنبي؛ وذلك بأنْ أعمد إلى تحويل وجهها إلى مسندٍ أجرِّب عليه نظريتي الساذجة التي قرَّرتُ – إنْ أنا اليومَ نجوتْ – أنْ أنجز تقعيدها النظري، رغم أنه لا يتجاوز القول المأثور : ” ألـ ما بتشوفوا في بيت أبوك يخلعك” ونظريتي هذه تعمل لإبطال مفعول الخُلعة الجمالية ونزع سلاحها الفتَّاك بردَّها إلى نظائرٍ وأشباهٍ كُثرٍ تتوزَّعُ في شِعاب الجغرافيا وتاريخها؛ فإنْ أنت وضعتَ- مثلاً- شلوخاً على خدٍ أسيل وثبَّت على الأنف زمام ثمَّ نثرتَ على الشفاهِ اسمداً أسوداً وملأتهما ثمَّ أجدتَ لعبة الأنف وتلوين الجسد؛ لأنتهيتَ لأشباهٍ يتفرِّق عليها دمُ الجمال السوداني، بداية القرن الماضي، مثلاً، بين شعوب العالم، وتؤسس بذلك لمبدأ وحدة الموجود على أساس نظرية النظائر البشرية . فالنوبة الذين في الجبال، على سبيل المثال، يمكن تحويلهم إلى فلبينيين والعكسُ بالعكس، ثمَّ على ذلك قِسْ، أما الجمالية العصرنهضوية فتلك مسندي المريح الذي يحيلني إلى جماليةٍ استأنستُ وحيَّدتُ خلعتها ثمَّ الِفُتُها بطول البقاء . فجأةً؛ وكأنها أحسَّتْ باستغراقي فيها، قالت : (ميلاد سعيد) رددتُ عليها بلطفٍ مكافئ: (ميلاد سعيد) قالتْ : (الطقس في الخارج يكاد يتجمَّد!) نعم، أعلم، هذه هي طريقة أهل هذه البلاد المميَّزة في بدء الحوار: الطقس.

قلتُ : (نعم، لكن هنالك، أيضاً، نسيمٌ حلوٌ طريُّ يدغدغ المسام) فتحتْ عينيها مندهشة، كأنها تبحث عن هذه الـ: هنالك ؛ فأصابتني بنجَل عينيها.انتبهتُ إلى أنني مرتبكٌ قليلاً فنظرتُ إلى المسرح حيث الأطفالُ يعتلون الخشبة بلباسهم التوراتي الذي يشير إلى العهد القديم بينما تتوسط خشبة المسرح شجرة صنوبر مخروطية ضخمة، تلاقت عيناي بعيني ملاك الرَّب فابتسم بتآمرٍ أعرفه؛ حتى خشيتُ أن يقبض أجنحته المنبسطة، ثمَّ نظرتُ ثانية فإذا بملاك الرب قد جاء بنخلةٍ طويلةٍ غرسها قرب صنوبرة الميلاد. كان يوسف النَّجار يسنِّد خطيبته العذراء وهي في شهرِ حملها الأخير، قطعتْ عليَّ استغراقي ثانيةً وقالت: (فرصة للأطفال ليكتشفوا مواهبهم) قلتُ : (نعم ؛ ورياضة روحية أيضاً) فجأة قالت بدهشة: (لكن لا يبدو أنَّك مسيحي؟) قلتُ: (وما فائدة ذلك، أقصد ما فائدة أن تعرفي ؟) قالت : (آسفة .. لكنَّ اسمك لا يشير إلى أنَّك مسيحي ) قلتُ:(وكيف عرفتِ اسمي ؟) قالت: (من بطاقة الدعوة) قلتُ مستدركاً: (طيِّب؛ وهل الاسمُ هو الذي يحيل إلى المرء أم أنَّ المرءَ يحيلُ إلى نفسه؟) قالت: (الاسمُ مرجع..ذلك هو التراكم) قلتُ: (مرجع ديني أم اجتماعي؟) قالت: (يعتمد ذلك على مرحلة الوعي) قلتُ : (سؤال الدين عندي تجاوزه الوعيُّ كسؤال القبيلة عندكم؛ ألم يكن ذلك تراكماً؟) استغرقتْ هنيهةً ثمَّ قالت : (لستُ أنا ، بالمناسبة ، شديدة التديُّن والأمر عندي لا يتعدى المظهر الاحتفالي) قلتُ: (أتفهَّم ذلك) قالت: (دينكم لا يمانع ؟) هممتُ بالقول: (و ما هو “ديننا “؟) وأنا أضمر أنَّ ” بسبب مثل هذا الحوار تركتُ أهلي الذين أحب” لكنني سكتُّ ولم أقل؛ فهذا النوع من الحوار، الناحي نحو التحقيق، يصرفني عن الاشتغال على مسندي الجمالي، هذا التحقيق الذي رأيته منذ دخولي؛ فلو أنَّ الأمر لم يكن مع جمالية نهضوية كالتي تحادثني ، ولو أنَّ ملاكَ الرَّب لم يكن يغمز لي كل حين؛ لأنهيتُ هذا الحوار، وذلك الارتياب، بجملةٍ واحدةٍ قاضية، لكن السلاسلُ الآن مُسلسة ولم أعد أملِك من أمر نفسي شيئاً.

قلتُ؛ كي أدير دفَّة الحوار في وجهة ثانية: (أنتِ تعرفين اسمي؛ فهل لي أنْ أعرف اسمك؟) قالت بفرحٍ ظاهرٍ كأنها هي الأخرى كانت تضيقٌ بذلك الحوار وأنَّها، أيضاً، لم تكن تملك من أمرِ نفسها شيئاً، قالت: (إليزابيث .. نادني ليزا أو بيث إذا شئتْ) قلتُ مستظرفاً : (لا؛ بل جلالة الملكة) فتضرَّج خداها بحمرة شفقِ استوائي حتى اضطربتُ أنا وتسارعتْ ضرباتُ قلبي ، قلتُ سريعاً؛ كي نتجاوز سوياً حالة الارتباك: (لا. أفضٍّل أن أناديك : إليْصَابات) ونطقتُ الاسمَ بلسانٍ عربيٍ مبين، تحوَّلنا من التوجُّس إلى الإنتشاء ، حاولتْ أن تردد الاسمَ بالطريقة التي نطقتُها، فانخرطنا سوياً في ضحكٍ خافتْ حتى لا نشوِّش على الحاضرين. قالت : (وماذا يعني ذلك ؟) فتحتُ فمي لأرد ، فغمز لي ملاكُ الربِّ بعينيه الماكرتين ثمَّ نظر نحو المسرح حيث ثلة من الممثلين يلتفون حول شجرة صنوبرٍ مضيئة، صاح ممثلٌ من على خشبة المسرح:

– ( أنا صوتٌ صارخٌ في البرية : إنَّ الذي يأتي بعدي قد صار قدَّامي؛ لأنه كان قبلي . أنا صوتٌ صارخٌ في البرية : كل من يبغض أخاه الإنسان؛ فهو قاتلُ نفسْ).

تململ الذي على يميني؛ فظنَّنتُ أنني أزعجته بالحوار الهامس مع جارتي التي على يساري، إلتفتُّ إليه لأعتذر ، إنْ كان الأمرُ يستحق – وهذا ما كنتُ سأعرفه من تعابير وجهه – لكنني حين رأيته بدا لي أنَّ وجهه يصلحُ مسنداً مريحاً أيضاً، فلولا أنني كنتُ مستغرقاً في مسندٍ عصرنهضويٍ لكان وجهه مسلياً للعمل عليه: فإن وضعتَ على العينين اللامعتين كُحلاً، ولحيةً خفيفةً بيضاء على الصدغين المسلوبين حتى ذقنه البارز، وفطستَ الأنفَ طفيفاً، ثمَّ سكبت على بشرته شيئاً من لون الحبهان الغامق لأصبح أقرب لجدي عبد الوهاب الذي كان يصرُّ على تميُّز لونَ بشرته ؛ بل ويبالغ في تقدير ذلك ، ويعزو مجده ، حين كان شاباً، إلى لونه بالذات ثمَّ إلى شعرٍ كثٍ على صدره وساعديه يدسُّ فيه المخرز فلا يبين، وقد فتَن ، بكل ذلك، بنات جيله فكنَّ ، حين يدخلُ دارة اللعبة وهنَّ جلوسٍ على السباتة، يلحظنه من طرفٍ خفيٍ فيهمسنَ لبعضهن بإعجاب: هبهان جيء! فكَّرتُ: لو أنَّ جدي جاء هنا لرأى لون بشرته، في عيون الناس، أسودَ من سخم الصاج، فهل كان اعتزازُ جدي بلون بشرته، لدرجة التفوُّق على مواطنيه، هو سببَ وجودي، الآن وهنا ، في قاعة أكاديمية وسْت قيت؟ لن أشغل نفسي بذلك الآن؛ فوليمتي دسمة وملاكُ الربِّ لي بالمرصاد أراهُ وأكاد أسمعُ رفيفَ أجنحته اليعسوبية المنبسطة.

وجهُ جارتي التي على يساري يغري بالشلوخ لولا طيفُ الوجنتين الموناليزيتين، لذا فقد تركتها سادةً “مرْهَاء” وأكتفيتُ بأنْ وضعتُ على الشفتين الرقيقتين لمىً وملأتهما فأصبحتا لعسواين كأنهما مدقوقتين ، ثمَّ على الأنف زماماً ذا رشمةٍ وتيلةً على جيدها الأتلع وصفصفتُ لها شعرها مسيرتين تدلَّتا على جانبي وجهها ، وما أنْ فعلتُ ذلك حتى هشَّ ملاكُ الربُّ وطرب، فصفَق أجنحته خفيفاً ،وما أنْ قبضها حتى هبَّت عليَّ ، وأنا بقاعة وسْت قيت، هبوبُ الصَّبا لطيفة خفيفةً تتخلل المسام:

القمرُ بدرٌ في تمامه وعطرٌ فاغمٌ ينتشرُ في أزقة ودنوباوي ، خليطٌ من روائح الفلوردامور وأوراق الخريف والريفدور وصندلية معطونة في عطورٍ محلية، رائحة النيل – حين يتنفَّس في هزيع الليل الأوسط هذا- تطفو مشبَّعةً بالطَّمْيِ ، الفتيات يجلسن على السباتة والشباب يدخلون ويخرجون في هرجٍ ونشوة ، فجأةً ران على الجميع صمتٌ مباغت حين دخل شابٌ ربعة القامة أقرب للقصر منه إلى الطول ، يسبقه عطرٌ فرنسيٌّ؛ لا شك أنه عطرُ كوكوشانيل فايف المميَّز، ويلبس جلباباً من قماش السكروتة السمني اللامع وعلى الصدر فرَجِيَّة من الإسموكن فوقها قفطاناً من الحرير وعلى رأسه عمامة من الكِرب الخفيف الناصع البياض ملفوفة بحرصٍ ودِربة وينتعلُ حذاءً انجليزياً صقيلاً لا بد أنه اشتراه من محلات ديفز براين بالسوق الأفرنجي بالخرطوم، على يده اليسرى ساعة رومر تتلاصف، على ضوء الرتاين، كأنها من الياقوت وعلى يمناهُ عصا من خشب الكرز اللامع، دخل الشابُ متبوعاً بأربعةٍ في أناقةٍ أقل.

وقف الشباب وقد دبَّت في الفتيات الجالسات حيويةٌ فطفقن يتهامسنَ: الكيروان جيء! قامت اليزابيث من مقعدها الذي على يساري وجلستْ على السباتة بين الفتيات ، حين بدأ الشابُ يغني بصوته الرخيم على ايقاع الصفقة ، وقف العريسُ بين الفتيات ينتقي من بينهنَّ راقصة، أشار إلى إليزابيث فقامت دون ممانعة ، وقفت في منتصف الدائرة ونضت عن شعرها الثوب، ثمَّ استلَّته ووضعته كُله خارجاً على ظهرها وبدأت ترقص، قام جدي من على يميني ودخل يبشرَّ ويحنى قامته للشبَّال، وكنتُ، كلما انثنتْ اليزابيث مع ايقاع الصفقة وانفنستْ، أحسُّ بوخزٍ في جنبيَّ الأيسر؛ فأهتف مستغيثاً : (يا ملاكُ الرَّبِّ ترفَّق) في نصف الدائرة الآخر، وفي مواجهة الفتيات؛ جلس شيخٌ وقورٌعلى تبروقته، يجردُ، بكلتا يديه، مسبحة لالوبٍ ألفيةً وهو في حالٍ من الوجد بالغ ، كان الشيخُ يعلو ويهبط كأنه يركبُ موجةً في بحرٍ صخَّاب : ترفعه إنْ انخفضتْ وتخفضه إنْ ارتفعتْ، فإذا ما نظر الناظرُ إليه، في نصف الدائرة الأول، رآهُ والمغنى جالسين فوق الأمواج: هذا يغنِّي وذاك يجرد مسبحته على ذات الإيقاع ، والناسَ على مراكبهم يصارعون الغرق ، ومن نظر إلى نصف الدائرة الآخر رأى المغني يغنى واليزابيث ترقص وجدى يهمّ بقطف الشبال؛ وقد ركِب الجميع موجة صوت المغنى :

يا ليل صار ليك معاهد طرفي اللي منامي زاهد
دنا لي سهرك واشاهد فوق لي نجمك ظنوني

كان الموجُ صخَّاباً يوشك راكبوه على الهلاك في نصف الدائرة الأول، كانت دارة اللعبة تضطرم بالألق وتفوربالحياة في نصف الدائرة الآخر ، كان قطبي الزمكان- في الهُنا والآن- يمسكان المجاديفَ باحكام، كان جدي يتهيأ لقطف الشبِّال واليزابيث تمد جيدها ، كنخلةٍ مثقلةٍ بالسبيط ، تنفنس وتتثنَّى ؛ فيشتدُّ الوخز على جنبي الأيسر فأهتف : (يا ملاكُ الرَّبِّ ترفَّق) الموجُ يعلو وموجةُ قطب الزمكان المغنِّي هي الأعلى:
حُبَّك في الجوف يطارد ما بين صادر ووارد
ساكن قلبي و مباعِد تشتاق شوفتك عيوني
في تلك اللحظة صاح القطبُ الجالسُ على الموجة الأخرى صيحةً عظيمة :
– الله .
فترددت في جنبات الكون صيحته؛ لكأنَّ الكونَ بهوٌ اسطوانيٌّ مغلقٌ يتجاوبُ فيه الصدى:
– الله .
صاحَ ثمَّ انكفأ ، فوق الأمواج، مغشياً عليه.

صفقَ ملاكُ الرَّبِ أجنحته اليعسوبية وبسطها؛ فعادتْ اليزابيث الي مقعدها يساري وعليها ارهاقُ النشوةِ بادياً وعاد جدي أيضاً. كان الممثلِّون يهرولون بين شجرتي الصنوبر والنخيل المغروستين وسط خشبة المسرح ، والسيدة العذراء تزحفُ بإعياءٍ وعلى وجهها آثارُ المخاض بادية ، كنتُ أحسُّ بعيونٍ كثيرة تثقبُ ظهري ، قررت ألا ألتفتْ؛ ولا حتى لوجه اليزابيث التي على يساري ،أو لوجه جدي المسن الذي على يميني، بحثتُ عن ابنتي بين الممثلين الأطفال وهم يتحرَّكون بين خلفية المسرح ومقدمة الخشبة ، لم أرها، ورأيتُ العذراء الحُبلى بمفردها تزحفُ نحو شجرة الميلاد وصوتٌ مهيبٌ يردد:(سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا. اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ) تخفت الأضواءُ تدريجياً ثمَّ يتركز ضوءٌ أحمرٌ على شجرة الصنوبر، يضعُ ملاكُ الرَّب شجرة النخيل قرب الصنوبر، تتكئ عليها العذراء الحُبلى . صفَقَ ملاكُ الرب أجنحته وقبضها فتنفَّس الصبحُ ، أفاق الشيخُ المنكفئ على جبهة الموجة ، مشى نحو المغني ، باركه من رأسه حتى أخمص قدميه وبكى، قبَّله ثمَّ عانقه طويلاً طويلاً طويلاً حتى اندغم فيه و صارا واحداً ، الواحدُ صار له وجهُ أبي؛ لا .. بل هو أبي ذاته ، نزل الواحدُ من الأمواج ومشى فوق الماء بكل سلاسةٍ ويسر كأنه يمشي على سهلٍ منبسط، حين وصل كان الوقتُ سحراً ، دخل وماؤه يشرشر، جسده جاف غير مبتل، فرَش تبروقته قدَّام باب غرفته ، وضع عصا الكريز بجانبه ،

ثمَّ هبَّت هبوب الصَّبا همبريباً ينفحُ بشذى شجرة دقن الباشا الضخمة تبسطُ فروعها في باحة البيت؛ مكتظةً بعصافيرٍ في شغلٍ شاغلٍ تشقشق، شذى شجيرات الفُل والياسمين وعبير زهور صباح الخير التي تتفتح في أحواضها، أسرابُ النحل التي تأتي، يومياً ،قبيل الشروق، جاءت لتلثم وتمتص الرَّحيق من زهور البيت، ومن صوت أبي الذي صارت له بحَّة صوت المغنِّي، وها هو الآنَ جالسٌ على تبروقته، يرتِّل قرآن الفجر.

العذراء الحُبلى تتمدَّد على الأرض قرب الشجرة وأمواج صوت أبي تعلو : (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) كانت لتلاوة أبي وقفاتٌ بين الآيات تملؤها العصافيرُ شقشقةً والنحلُ فيها يطن، يظلم المسرح وأنا على موجة عاليةٍ أشرفُ على الهلاك ، أرتجف ، أتصببُ عرقاً، بقعةُ ضوءٍ ساقطة من الأعلى على مزودٍ صغيرٍ به طفل، موجة صوتُ أبي والنحلُ والعصافيرُ ومناغاةُ الطفل تعلو: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) النخلة تهتزُ وصوتُ أبي يساقط ثمراً جنياً والنحلُ يعسلُ يعسلُ يعسلُ حتى يسيلُ من صوتِ أبي، الضوءُ يتركَّز على طفلٍ مقمَّطٍ في المزود، ولفيفٌ من الرعاة في زيٍّ توراتيًّ يحملقون فيه بتعجُّب، يتكلمون إلى الأم العذراء والأم لا ترد ، فجأةً جاء صوتُ مهيب: (هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ. مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ) وجاء صوتُ أبي محفوفاً بشذى دقن الباشا ومزفوفاً بشقشقة العصافير وفوحِ الزهر وطنينِ النحل ومُناغاة الطفل:

(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)
من أعلى جبهةٍ في الموج – حيث أصارع الهلاك – صحتُ؛ بأعلى موجةٍ في صوتي:
– الله.

لسببٍ ما؛ ردَّدتْ قاعة أكاديمية وسْت قيت صدى صوتي هكذا :
– اللهُ أكبر.
فانكفأ الجميعُ تحت مقاعدهم وساد رعبٌ وذعر: وجه جدي، الذي على يميني، ممتقعٌ كأنه ميَّت ، وجه اليزابيث، التي على يساري، مخطوفٌ كأنَّ ملاك الموت يقابضها ، المسرحُ خالٍ ، شجرة الصنوبر ملقاةٌ بين المقاعد والأنوار كلها أضيئت، القاعة في حالٍ من الفوضى عظيم ، لحظة؛ وأفاق بعدها الجميع، وحين تأكدوا أنهم أحياء، هرولوا نحو أبنائهم يتفقَّدونهم ، أنا أيضاً هرولتُ نحو إبنتي أتفقَّدها؛ فأحاطت بي قوةٌ مدججةٌ في زي واحدٍ لا أدري من أين جاءوا ، أحاطوا بي وحالوا بيني وبينها، وضعوا يديَّ خلفي، ثمَّ قيِّدوني وبدأتُ، من وقتها، رحلة أخرى لم يكن لي فيها سلوى سوى نظرية وحدة الموجود وأجنحة ملاك الرب اليعسوبية.

شهرين كاملين خضعتُ فيهما لتحقيقاتٍ قاسيةٍ من خبراء شرطة مكافحة الإرهاب، بوجوههم التنميطية المتجهَّمة، وضباط الـ ” إم آي فايف ” ثمَّ عملاء الـ ” إم آي سِكس ” – لكوني أجنبياً – ومحققي شرطة الإسكوتلانديارد الذين جاءوا من العاصمة،خصوصاً، للتحقيق معي فيما أسمته وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام ورمزت له شبكات التواصل الإجتماعي بـ الهاشتاق: # محاولة تفجير أكاديمية وسْت قيت. كنتُ طيلة تلك الفترة أردُّ على المحقِّقين المتأهبين لدمغي بوصمة “إرهابي”، وعلى كلِ سؤالٍ تنميطي؛ بجملةٍ واحدة :
– لملاكِ الرَّبِّ أجنحةُ يعسوبْ.

محمد عبد الملك
[email protected]

_________________________________________________________

حواشي :
1- مزجٌ من إنجيل يوحنا؛ الإصحاح الأول
2- من أغنية “يا ليل أبقالي شاهد” كلمات صالح عبد السيد أبو صلاح لحن وغناء عبد الكريم عبد الله كرومة ( بتصرف من: لقاء الشيخ قريب الله والفنان كرومة؛ حسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني)
3- إنجيل لوقا؛ الإصحاح الأول
4- سِفر إشعياء 14:22
5- سورة مريم الآيات (23- 24 ? 33 )

تعليق واحد

  1. برغم ما تملكه يا محمد عبدالملك من قدرة على الصياغة وتأليف الكلام فى عبارات تذهب بك بعيداً فى عوالم الخيال المترف والمفتوح على كل شئ إلا أنك شتت افكارنا ودخلت بنا فى انفاق كثيرة ووصحارى وبساتين وعفار وانهار من العذوبة واخرى ملح أجاج ، ومزجك للقصة بالاديان واستدلاك بها جعل قصتك اشبه بالمقال وللحقيقة كثرة أستدلالاتك بها قد افسد الكثير من المتعة المرجوة من النص وياليتك أسترسلت بعمق اكثر فى توصيف رعشة اللقاء وخفقات القلب بتلك الانجليزية البضة وجعلت منها محور لهدهدة العواطف والاشجان والعشق ، وفى رأى انك حاولت الخوض فى بعض مفاهيمك للأديان ومفهومك وضح جليا عندما ذكرت ان وعيك قد تجاوز الدين نفسه واصبح التدين عندك شئ وراء ظهرك وربما هو الذى دفعك للغربة والإغترب وحاولت ان تثبت انها كذلك انك تلك المرأة تدينها ظاهريا وليس جوهريا ، وتملكنى احساس ان اسمك وهو محمد قد جر او يجر لك سوء نوايا من الجانب الآخر وفى النهاية اسلمت الامر انه قدرك وليس بإختيارك ، ولكنك فى تشتيت لنا رجعت فى ختام القصة تكبر باعلى صوتك كما يفعل اهل كل الملة التى تحمل أسمها عندما يدهشهم او يتملكهم الإعجاب من شئ ما وعند الامريكان بدلا التكبير يقولون : واو مما يدلك على ان الدين لم تتجاوزه ولن تتجاوزه لانه جزء من ذاتك وجزء من تربيتك بل إسمك جزء منه فبدلا من محاولة الإخفاء كان عليك التعايش والتصالح مع روح الدين التى فيك وعكسه لجليستك فى القصة خاصة عندما سألتك شئ عن ديننا فكان ردك تقريرى او أنكارى وما ديننا ، لو انك ذكرت لها ان دينى ودينك من منبع واحد ومن رب واحد بل البتول هذه أفردت لها سورة كاملة وانها عندنا قديسة مثلما عندهم تماما فالقصة محورها دينى وبدايتها دينى ، واخيرا رغم صلتى القوية بمدينة السوكى عروس النيل الازرق إلا أنك اقحمت من غير مناسبة فى القصة ومن غير موضوعية او سبب وجيه ، القصة رائعة ولكن فيها كثير من الإبهام وفيها كثير من التصورات التى تخصك وقد تصنفك إلى وجهة تتعاطف معها ، وعموما الكاتب يجب ان يكون حر طليفا لا تكبله قيود اى كانت لان الابداع الادبى يموت عندما تكبله قيود الإنتماءات وتغبش الرؤيا للكاتب وتجعله عبدا لفكرة واحدة وتوجه واحد مما يجعل نظرته وتصويره للاحداث وفق خطه ومساره الذى انتهج وهو حرى به ان يكون له مساره الخاصة ولك فى الطيب صالح اسوة وقدوة فالرجل سرعان ما ترك جبهة الميثاق الوطنى عندما رأى انها تجعل منه اسيراً لها وهذا حال كل اديب وكل الأدباء لو رجعت لهم لوجدتهم احرار طلقاء من اى توجه ولون بل لهم توجهه الخاص ولهم لونهم وطعم افكارهم ومفاهيهم .

  2. برغم ما تملكه يا محمد عبدالملك من قدرة على الصياغة وتأليف الكلام فى عبارات تذهب بك بعيداً فى عوالم الخيال المترف والمفتوح على كل شئ إلا أنك شتت افكارنا ودخلت بنا فى انفاق كثيرة ووصحارى وبساتين وعفار وانهار من العذوبة واخرى ملح أجاج ، ومزجك للقصة بالاديان واستدلاك بها جعل قصتك اشبه بالمقال وللحقيقة كثرة أستدلالاتك بها قد افسد الكثير من المتعة المرجوة من النص وياليتك أسترسلت بعمق اكثر فى توصيف رعشة اللقاء وخفقات القلب بتلك الانجليزية البضة وجعلت منها محور لهدهدة العواطف والاشجان والعشق ، وفى رأى انك حاولت الخوض فى بعض مفاهيمك للأديان ومفهومك وضح جليا عندما ذكرت ان وعيك قد تجاوز الدين نفسه واصبح التدين عندك شئ وراء ظهرك وربما هو الذى دفعك للغربة والإغترب وحاولت ان تثبت انها كذلك انك تلك المرأة تدينها ظاهريا وليس جوهريا ، وتملكنى احساس ان اسمك وهو محمد قد جر او يجر لك سوء نوايا من الجانب الآخر وفى النهاية اسلمت الامر انه قدرك وليس بإختيارك ، ولكنك فى تشتيت لنا رجعت فى ختام القصة تكبر باعلى صوتك كما يفعل اهل كل الملة التى تحمل أسمها عندما يدهشهم او يتملكهم الإعجاب من شئ ما وعند الامريكان بدلا التكبير يقولون : واو مما يدلك على ان الدين لم تتجاوزه ولن تتجاوزه لانه جزء من ذاتك وجزء من تربيتك بل إسمك جزء منه فبدلا من محاولة الإخفاء كان عليك التعايش والتصالح مع روح الدين التى فيك وعكسه لجليستك فى القصة خاصة عندما سألتك شئ عن ديننا فكان ردك تقريرى او أنكارى وما ديننا ، لو انك ذكرت لها ان دينى ودينك من منبع واحد ومن رب واحد بل البتول هذه أفردت لها سورة كاملة وانها عندنا قديسة مثلما عندهم تماما فالقصة محورها دينى وبدايتها دينى ، واخيرا رغم صلتى القوية بمدينة السوكى عروس النيل الازرق إلا أنك اقحمت من غير مناسبة فى القصة ومن غير موضوعية او سبب وجيه ، القصة رائعة ولكن فيها كثير من الإبهام وفيها كثير من التصورات التى تخصك وقد تصنفك إلى وجهة تتعاطف معها ، وعموما الكاتب يجب ان يكون حر طليفا لا تكبله قيود اى كانت لان الابداع الادبى يموت عندما تكبله قيود الإنتماءات وتغبش الرؤيا للكاتب وتجعله عبدا لفكرة واحدة وتوجه واحد مما يجعل نظرته وتصويره للاحداث وفق خطه ومساره الذى انتهج وهو حرى به ان يكون له مساره الخاصة ولك فى الطيب صالح اسوة وقدوة فالرجل سرعان ما ترك جبهة الميثاق الوطنى عندما رأى انها تجعل منه اسيراً لها وهذا حال كل اديب وكل الأدباء لو رجعت لهم لوجدتهم احرار طلقاء من اى توجه ولون بل لهم توجهه الخاص ولهم لونهم وطعم افكارهم ومفاهيهم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..