لعنة (حام) والتفسير العنصري لتاريخ الحضارة الكوشية والحضارات

لعنة (حام) والتفسير العنصري لتاريخ الحضارة الكوشية والحضارات الأفريقية الأخرى (1)

في 12 أكتوبر 1994 كتب وليام قرايم مقالاً بصحيفة نيويورك تايمز عن قصة رسم لوحة رأس السيد المسيح، للرسام وارنر سالمان (1897- 1968)، الملقب برسام القرن، أصبحت الصورة المتخيلة لوجه السيد المسيح منذئذ، والتي كانت نتاج واجب دراسي لوارنر خلال دراسته في معهد الفنون بشيكاغو بعد أن رأى وجه السيد المسيح في منامه، فنهض ورسمه بهذه الملامح، راجت الصورة المتخيلة، وتبنتها دور النشر الدينية ووزعت بالملايين، ولازالت توزع على أنها الوجه الحقيقي للسيد المسيح ( ذو الملامح الأوروبية والبشرة الفاتحة).

في مقابل محاولات عزو الأوربيون ملامح السيد المسيح للعرق الاوروبي، هنالك رؤى أخرى تؤكد على إفريقية ملامحه، أهمها رؤية القديسة الكونغولية بياترس كيمبا فيتا (1700م)، التي تزعمت حركة مسيحية في مملكة الكونغو في القرن السادس عشر، باعتقاد أن الانبياء من موسى وحتى عيسى سود البشرة، وقد سلك هذا الاعتقاد مسيحيون كثر من ذوي الاصول الافريقية في العالم، منهم المصلح المسيحي مارتن لوثر كنج وآخرون، القديسة بياترس كانت أحد أشرس وأهم المعارضين للمحتلين الأوروبيين في افريقيا سيما البرتغاليين الذين قادت ضد سياستهم المقيتة لاسترقاق الأفارقة حملات قوية الأثر.

التباين بين إفريقية واوروبية ملامح وجه السيد المسيح، يفتح الباب أمام مراجعات جديدة لتفاسير التاريخ الافريقي القديم، الذي عكف على كتابته وتفسيره علماء بيض (أوربيون)، شابت تفسيرات أغلبهم العنصرية الفاضحة، والانحدار الواضح في الأمانة العلمية، فعلى سبيل المثال يقول عالم الآثار جورج رايسنر من جامعة هارفارد وأحد أكبر المختصين في الآثار النوبية: ( تُعزى الابتكارات في منطقة النوبة الى قادمون جدد لا إلى السكان الأصليين). أما دبليو إميري ومن أجل تقليل شأن مصر (القديمة ) افترض وجود تسابق سلالي فيها، بينما صرح ديفيد هيوم (1776) في مقالاته وأطروحاته بتغليبه الاعتقاد بالدونية الطبيعية في العنصر الافريقي مقارنة بالعنصر (الابيض وذهب لأبعد من ذلك ليؤكد أنه لم تكن ثمة أمة متحضرة ليست ذات بشرة بيضاء أو فرد مشهور سواء في الفعل أو الاستبصار الا ذو بشرة بيضاء، أما الألماني جورج هيغل فقد أسقط في إحدى محاضراته حول فلسفة التاريخ، أي أثر للعنصر البشري الأفريقي في مسيرة التاريخ، فبالنسبة له يعتبر عوز ضبط النفس سمة في الشخصية الافريقية، وأنها شخصية غير جديرة بالتطور أو الثقافة، وأن الحالة التي عليها الزنوج في زمننا هذا هي التي ظلوا عليها، بالتالي عند هذا الحد رأى غض الطرف عن افريقيا وعدم ذكرها، فهي ليست جزءً في مسيرة التطور التاريخي، ولا توجد فيها حركات تطور تستوجب العرض في محاضراته معللاً عدم وجود أي سمة من الاتساق الانساني في مثل هذه الشخصية، ورأى أنه وفق الظروف والاعتبارات التبشيرية الحالية فأن الديانة (المحمدية) هي الوحيدة القادرة على إدخال الأفارقة الى نطاق الثقافة (2).

أهم التفسيرات التاريخية المقللة من شأو حضارة النوبة/ كوش هي تفسيرات جورج رايسنر (1867 ? 1942)، بحكم أنه أحد علماء الآثار السباقين في الحفريات في منطقة كرمة (1913) مع فريق ممول من جامعة هارفارد، ثم جبل البركل في الفترة من (1916- 1920)، ثم الاهرامات الملكية الكوشية في الفترة من (1917 ? 1924)، وقد اتهمه كينيث وارسون في كتابه ( الإنجيل لم يلعن حام) بأنه ( أي رايسنر) نتاج لعصر نشأة مؤسسة الرق , وأتى هجوم كينيث على رايسنر لتقليله من الحضارة النوبية/ الكوشية بقوله ( لم تكن الثقافات النوبية متطورة بقدر المصرية، ويعزى ذلك لتعدد أعراقها وعلاقتهم مع المجموعات البشرية المصرية المتفوقة عليهم، مما مكنهم من التفوق على كتل الأجناس الافريقية الخاملة). يقول كينيث بهذا التفسير أثبت رايسنر أنه في أسوأ حالاته. ُنشرت تفسيرات راسنر المجحفة هذه في أشهر الوسائل الإعلامية والصحافية آنذاك، وتم قبولها في الأوساط المختصة إنجيلاً منزلاً. لقد بذل رايسنر جهده لينسب الحضارة النوبية/ الكوشية لمجموعات سكانية فاتحة اللون أو حتى الى ذوي بشرة داكنة ولكن بروح بيضاء.

لعنة كنعان بالأصالة عن أبيه حام في (سفر التكوين23،22:9) وأثرها في تأسيس العنصرية ضد العنصر البشري الافريقي والتقليل من حضاراته تناولها الباحث الأمريكي ايوستينز مولينز في كتابه ( لعنة كنعان وعلم شيطنة التاريخ)، وهو باحث نشط عن الحقيقة لذا ظل قيد المراقبة لمدة 22 عاماً من قبل جهاز التحقيقات الفيدرالي بسبب علاقته مع الشاعر الأمريكي عزرا باوند الذي فضح مؤامرة تأسيس بنك الاحتياطي الفيدرالي فاتهم بالجنون واودع مصحة للأمراض العقلية. أكد مولينز بأن غرض كتابه هو كشف التعتيم الذي طال الدراسات التاريخية القديمة لمدة 3000 سنة ، وأن إعادة قراءة الحضارات القديمة قراءة صحيحة ودون تعتيم مهمة من أجل نهضة وتطور مجموعاتها البشرية في سياق مسيرتها الانسانية الأصلية.

حتى وصول الطالب السوداني للمرحلة الثانوية لا يجد مقرراً تاريخيا يثقف معرفته بحضارات السودان القديم بشكل عميق، فتاريخ العالم العربي والتاريخ الأموي والعباسي والتاريخ السوداني الملحق دوما بمصر يصحبه من الاعدادي وحتى الثانوي، وبتركيز، بينما تدرس شذرات في التعليم دون الجامعي من تاريخ الحضارات السودانية القديمة. لذلك يظل أكثر سؤال أو معضلة سودانية حتى اليوم هي مسألة الهوية.

لقد اتضح نظرياً وعملياً منذ الاستقلال الى يومنا هذا استحالة الخلوص إلى هوية سودانية متزنة الا بالبناء وبالبحث في انجازات حضارات السودان القديم بمعزل عن المؤثرات الوافدة على السودان من آسيا وأوربا والوصول الى منهج تاريخي سوداني خالص يعزل مؤسسات تقاليد وقيم حضارة النوبة / كوش عن مؤثرات الاسلام (الآسيوي) والمسيحية (الأوربية)، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها تحديد موروث الحضارة النوبية / الكوشية، فالبحث عن الهوية يتطلب معرفة مجموعة مبادئ هذه الحضارة ونظمها القيمية والنظرة في السلوك الجمعي الايجابي لمجموعاتها البشرية عبر الأزمنة ومن جيل إلى جيل من أجل وضع لبنة أصيلة في تحديد هوية سودانية ليست عاطفية، وكذلك يتضمن هذا العزل أفكار الانتماءات الوافدة حديثا الى السودان من مناطق أخرى تشمل الفكر الناصري، وفكر البعث العراق/ سوريا ومفاهيم جماعة الإخوان المسلمين وغيرها، فبدون عين مجردة عن كل مؤثر خارجي، لا يمكن إيجاد حتى مبادئ توجيهية من التاريخ القديم والبناء عليها.

لقد أدى الفكر الوافد للسودان حديثاً من خارج جينات حضارات السودان القديم مثل (الناصرية)، (القومية العربية)، (الاسلام السياسي الاخواني/ الوهابي) إلى قطع مسيرة البناء الحضاري الأصيل الذي بدأ منذ آلاف السنين، وقد ساهمت الافكار الوافدة المذكورة بقصد مدروس أو غير مدروس في تأخر البلد وإدخاله في صراعات لا طائل منها لمصلحة جهات تسعى الى الحاق السودان بمركزيتين ثقافيتين لا تشبهان قيمه العظيمة من أجل أن يكون تابعاً ووضيعاً.

للقراءة صلة..

1- AFROCENTRIC BIBLICAL INTERPRETATION, EDWIN YAMAUCHI
2- Georg Hegel on Africa (lectures of 1830-1831)
3- The Bible Does Not Teach The Curse Of Ham – Kenneth Rawson
4- The Curse of Ham: Demonology of History

*أسامة بابكر حسن- مترجم بمملكة البحرين
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. سعدت كثيرا بقراءة هذا البحث واراني مشوقا للاطلاع على بقيته التي ارجو ان تظهر قريبا في اعدادكم القادمة-الى الامام يا استاذ أسامة

  2. سعدت كثيرا بقراءة هذا البحث واراني مشوقا للاطلاع على بقيته التي ارجو ان تظهر قريبا في اعدادكم القادمة-الى الامام يا استاذ أسامة

  3. تساؤلات عديدة تدور في ذهن المهتمين بتاريخ السودان القديم وآثاره. هل كانت الحضارة القديمة نوبية فقط؟ هل هي النوبة بالفهم الجغرافي والديمغرافي الممتدة بين الشلال الاول والسادس؟. رأي اخر يري ان فهم السودانوية sudanology يمكن ان يصبح أصوب(راجع البروف اسامة عبد الرحمن النور) ويستندون بذلك علي ان حصارة خور ابي عنجة ومستشفي الخرطوم قامت علي اجناس وثقافات متعددة ، ومن ذلك مظاهر كسر سنين في الفك الأعلي من الفم ،كما ان حضارة كرمة تشبه اجناس مختلفة من سكان السودان الان ،في دارفور ومنهم من يشبه سكان أعالي النيل حاليا… الامر يحتاج لدراسة التاريخ بفهم علمي تحليلي وهو مفقود كما أشار مقالك… شكرا لك..ا

  4. مقال عظيم الفائدة ، يفتح العين لكل متبصر … ويحفز بقوة على القوص في سجلات التاريخ المكتوب وغير المكتوب لكشف الحقائق المدفونة فيها و نفض غبار القرون عنها ووضعها أمام الناس لتعرية وفضح أهداف غلاة العنصريين البيض والعرب الذين أجهدوا أنفسهم لإخفاء الحقيقة فقط ليتسيدوا على الأفارقة .
    شكرا لك أسامة

  5. لدي سؤال وهو لمذا لم تظهر مسألة الهوية عند المصرين ان حال مصر مثل حال السودان فهم في الاصل ليسوا عربا ولم تكن اللغة العربية هي لغتهم ولم تكن ثقافتهم اسلامية بل مسيحية .
    واظنك تتفق معي ان الافكار السياسية لا تحدد الهوية فالاشتراكية لم تغير هوية الشعوب التي تبنتها او دعت لها .

  6. عظيم … ما خلصت اليه صحيح مئة بالمئة ولقد ظللت أقول أن تركيبة السودان الاثنية الحالية تنقسم الى شعوب أصلية وشعوب وافدة وشعوب نتاج من تزاوج الوافدة بالاصلية والعكس ,.. فما بقي من الأصلية معلوم وما حافظ على هويته من الوافدة معلوم كذلك وهؤلاء الأخيرون لا محل لهم حاضرا ولا نصيب لهم في الإرث الحضاري القديم وتبقى المعضلة بالنسبة لنتاج المزيج التزاوجي بين الأصلاء والوافدين. فبعض هؤلاء يصرون على الالتحاق والانتساب لآبائهم الوافدين علما بأن أغلب الوافدين قد وفدوا رجالا دون عائلاتهم (بدليل أن الذين وفدوا بقضهم وقضيضهم تقوقعوا على أنفسهم وتحاشوا الانفتاح على الأصليين المحليين مثل الرشايدة والزبيدية) والبعض الآخر من الهجين وغالبا ما ينتسبون لآباء أصليين من أمهات وافدات ليس لهم مشكلة مع الانتساب لهوية الأصليين الأفريقية السودانية وهؤلاء ليسوا مصدر المشكلة الاثنية ولكن تأثرهم بالثقافات الوافدة ربما قطع صلتهم بنسبتهم الاثنية الهجين.. فالثقافة العربية والاسلامية ثقافة وافدة لا ينبغي أن يكون لها أثر في التركيبة اللإثنية أو تتماهى معها إلا لدى الشعوب الوافدة العربية المحافظة على اثنيتها . وعليه فإن مشكلة الهوية في السودان اذا عزلنا الهوية الثقافية عن الاثنية فالشعوب الهجين هي سودانية أفريقية مثلها مثل الشعوب الأصلية ويحق لهم الانتساب للارث الحضاري السوداني القديم منذ اكثر من ثلاثة آلاف سنة وأما العروبويون فلا ينالهم هذا النصيب ولا يهتمون به وهم خطر على الارث الحضاري السوداني ويحاولون تزييفه ما استطاعوا وقد بينت في مقالك القيم كيف فعلوا ذلك طيلة تحكمهم في سدة الحكم بعد الاستقلال الى اليوم من خلال مناهج التعليم التي خلت من تأصيل الهوية الحقيقية للسودان

  7. تساؤلات عديدة تدور في ذهن المهتمين بتاريخ السودان القديم وآثاره. هل كانت الحضارة القديمة نوبية فقط؟ هل هي النوبة بالفهم الجغرافي والديمغرافي الممتدة بين الشلال الاول والسادس؟. رأي اخر يري ان فهم السودانوية sudanology يمكن ان يصبح أصوب(راجع البروف اسامة عبد الرحمن النور) ويستندون بذلك علي ان حصارة خور ابي عنجة ومستشفي الخرطوم قامت علي اجناس وثقافات متعددة ، ومن ذلك مظاهر كسر سنين في الفك الأعلي من الفم ،كما ان حضارة كرمة تشبه اجناس مختلفة من سكان السودان الان ،في دارفور ومنهم من يشبه سكان أعالي النيل حاليا… الامر يحتاج لدراسة التاريخ بفهم علمي تحليلي وهو مفقود كما أشار مقالك… شكرا لك..ا

  8. مقال عظيم الفائدة ، يفتح العين لكل متبصر … ويحفز بقوة على القوص في سجلات التاريخ المكتوب وغير المكتوب لكشف الحقائق المدفونة فيها و نفض غبار القرون عنها ووضعها أمام الناس لتعرية وفضح أهداف غلاة العنصريين البيض والعرب الذين أجهدوا أنفسهم لإخفاء الحقيقة فقط ليتسيدوا على الأفارقة .
    شكرا لك أسامة

  9. لدي سؤال وهو لمذا لم تظهر مسألة الهوية عند المصرين ان حال مصر مثل حال السودان فهم في الاصل ليسوا عربا ولم تكن اللغة العربية هي لغتهم ولم تكن ثقافتهم اسلامية بل مسيحية .
    واظنك تتفق معي ان الافكار السياسية لا تحدد الهوية فالاشتراكية لم تغير هوية الشعوب التي تبنتها او دعت لها .

  10. عظيم … ما خلصت اليه صحيح مئة بالمئة ولقد ظللت أقول أن تركيبة السودان الاثنية الحالية تنقسم الى شعوب أصلية وشعوب وافدة وشعوب نتاج من تزاوج الوافدة بالاصلية والعكس ,.. فما بقي من الأصلية معلوم وما حافظ على هويته من الوافدة معلوم كذلك وهؤلاء الأخيرون لا محل لهم حاضرا ولا نصيب لهم في الإرث الحضاري القديم وتبقى المعضلة بالنسبة لنتاج المزيج التزاوجي بين الأصلاء والوافدين. فبعض هؤلاء يصرون على الالتحاق والانتساب لآبائهم الوافدين علما بأن أغلب الوافدين قد وفدوا رجالا دون عائلاتهم (بدليل أن الذين وفدوا بقضهم وقضيضهم تقوقعوا على أنفسهم وتحاشوا الانفتاح على الأصليين المحليين مثل الرشايدة والزبيدية) والبعض الآخر من الهجين وغالبا ما ينتسبون لآباء أصليين من أمهات وافدات ليس لهم مشكلة مع الانتساب لهوية الأصليين الأفريقية السودانية وهؤلاء ليسوا مصدر المشكلة الاثنية ولكن تأثرهم بالثقافات الوافدة ربما قطع صلتهم بنسبتهم الاثنية الهجين.. فالثقافة العربية والاسلامية ثقافة وافدة لا ينبغي أن يكون لها أثر في التركيبة اللإثنية أو تتماهى معها إلا لدى الشعوب الوافدة العربية المحافظة على اثنيتها . وعليه فإن مشكلة الهوية في السودان اذا عزلنا الهوية الثقافية عن الاثنية فالشعوب الهجين هي سودانية أفريقية مثلها مثل الشعوب الأصلية ويحق لهم الانتساب للارث الحضاري السوداني القديم منذ اكثر من ثلاثة آلاف سنة وأما العروبويون فلا ينالهم هذا النصيب ولا يهتمون به وهم خطر على الارث الحضاري السوداني ويحاولون تزييفه ما استطاعوا وقد بينت في مقالك القيم كيف فعلوا ذلك طيلة تحكمهم في سدة الحكم بعد الاستقلال الى اليوم من خلال مناهج التعليم التي خلت من تأصيل الهوية الحقيقية للسودان

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..