صلوات في هيكل الوطن

مهدي يوسف
” لو لم أكن فيزيائيا ، لربما صرت موسيقيا ”
” البرت أينشتاين ”
يا شموسا فى دروب الليل أشعلت النهارا
نحن شلناك وساما و كتبناك شعارا
نحن صرنا بك يا مايو كبارا
و اتخذناك حبيبا و صديقا و ديارا
هكذا كتب الشاعر الإنسان ” محجوب شريف” فى العام 1969 ، متغزلا فى ” مايو” التى بدأها زعيمها يسارية اللون و انتهى به أمره زائرا لباحات السادة المتصوفة . تلقف ” وردى ” هذا النص الدفيق الجمال ، و نفث فيه من روحه العبقرية لحنا أخضرا انثال عبر شلالات صوته العظيم ليتحول إلى نشيد خالد ، رغم كرور الليالى !
استمعت إلى الكثير من الأناشيد الوطنية من شتى بلدان العالم ، و لاحظت أن معظم هذه الأناشيد يعتمد على الآلات النحاسية و يتخذ الشكل الهتافى كما المارشات العسكرية . لكن الأغنية الوطنية عند الفرعون ” وردى ” اتخذت مسارا مختلفا . لقد صاغ هذا العظيم ألحانه الوطنية بذات العذوبة و الرومانسية التى صاغ بها أغنياته العاطفية الجياشة الحنين . تستمتع إليه صادحا مع ” محمد المكى إبراهيم ” :
و لتكن عالية خفاقة راية أكتوبر فينا
و لتعش ذكراه فى أعماقنا حبا و شوقا و حنينا
فتلفك عذوبة اللحن ، و يتسرب صوت ” وردى ” الذى يمطر كما الغيمة ، هناك بين حنايا روحك ، فإذا أنت أسير حالة أشبه بالوجد الصوفى !!
نشأت آناء حكم ” مايو” ، عشت أحلامها و دفعت كجيلى ثمن انكساراتها . و أنا تلميذ لم يزل يتعثر في أثواب صباه في المرحلة الابتدائية ، شهدت ” نميرى ” يمتطى حصانه ، فتيا كفارس قادم من القرون الوسطى . و مضت السنون ، فعاصرته يفتتح الطرق ، و المصانع ، و يهز ذراعه مختالا بين الجلابيب البيض كما طيور البطريق ، مثلما عاصرت وحشيته و بطشه اللذين اختتما باقتياده المفكر الإنسان ” محمود محمد طه ” إلى المشنقة . و رغم أن ” مايو ” طويت من سفر الزمن ، وترجل “نميرى ” عن صهوتى الحكم و الحياة معا ، إلا أنى لا زلت أعالج شجوا عجيبا كلما استمعت إلى أناشيد ” وردى ” عنها ، سيما ” في حكاياتنا مايو ” . و ربما تكون هى ذات الحالة التى تأخذ بتلابيب نبضى و أنا أسافر مع صهيل الكمنجات قبل أن يتدفق صوت “محمد الأمين ” مرددا :
و بكرة الريد بدون مواعيد يزورك يا حياة عمرى
تكون يا ريتنى لو حبيت زمان من بدرى
حين تستمع إلى ” أنا سودانى ” يتمدد ” السودان ” بكل سطوعه الوسيم ملء شرايينك ، يهدر طمى أرضه في حدقات عينيك ، ترفرف طيوره و يتمايل نخيله عرض وطول خيالك ، حتى لتكاد تلمس صهد أنفاسه على وجهك . كان ” العطبراوى ” رحمه الله ، يتغنى للوطن ليلا ، ليجد نفسه نزيل سجون البريطانيين نهار اليوم التالى . ذاك جيل رضع من ثدى الوطنية حد التخمة .
فى خليج ” سان فرانسسكو ” تقع جزيرة “الكتراز ” الشهيرة بإسم الصخرة . هناك شيدت الإدارة الامريكية سجنا غدا أسطورة كم أشعلت أخيلة الناس ، و ألهمت هوليوود أفلام عديدة لعل أشهرها فيلم ” الصخرة ” لشون كونرى . ظل السجن يستقبل عتاة المجرمين و لم ينجح سجين واحد فى الهرب حيا منه . ثم حولته أمريكا لاحقا إلى مزار سياحى . قبل فترة تم اختيار “محجوب شريف ” ليكون ضمن اثنتى عشرة شخصية من سجناء الضمير ، و تقرر ترجمة العديد من قصائده . هكذا يقف – هناك – صوت الرجل نبرة بنبرة مع أحاديث ” مالكوم اكس” الثائرة ، و خطب ” مارتن لوثر كنج ” المجلجلة ، و همس المهاتما ” غاندى ” العميق ، و صيحات الثائر أرنستو جيفارا و محرضات ” بوب مارلى ” !!
الشعراء و الكتاب و المفكرون و المغنون هم أبناء أوطانهم البررة . هم من يحيكون رايات التاريخ وسط كومبارس بشرى طويل يمتد عبر مهامه الزمان وقيعانه . قال الإنجليز يوما إنه يمكنهم التنازل عن مستعمراتهم لكنهم لن يفرطوا فى كتابات “شكسبير” قيد سطر . يفخر الفرنسيون بكتابات ” فكتور هوجو ” أكثر من فخرهم ب ” قوس النصر” و ” برج ايفل” ، أما الألمان فقالوا عن ” موتسارت” إنه هدية السماء إليهم .
فى السبعينات إختارت لجنة جائزة الشاعر الشيلى ” بابلو نيرودا ” الفنان العظيم ” محمد وردى ” مانحة إياه جائزة عالمية كبرى . و المعروف ان اللجنة تختار مبدعا واحدا على نطاق الكون كل عام ، مبدع ملتزم بقضايا بلاده و عالمه . الكثيرون عرفوا ” السودان” بواسطة ” الطيب صالح ” و الكثيرون قدموا إلى ” السودان ” ليروا الأرض التى أنجبت هذا العبقري العظيم . وحين نعلم أن رواية “موسم الهجرة إلى الشمال ” اختيرت ضمن أفضل مائة رواية كتبت في التاريخ الإنساني ، و أنها ترجمت لقرابة الأربعين لغة ، ندرك خطورة الأدب وأهميته !!
قدم ” وردى ” ما يربو على الست و أربعين عملا غنائيا وطنيا طوال عمره و لو أتيح للرجل أن يعيش مستقرا لقدم أضعاف هذا الرقم لكنه ظل يدفع ثمن مواقفه نفيا و سفرا مرة فى السعودية و مرة فى اثيوبيا و مرة فى الولايات المتحدة الأمريكية و مرة فى بريطانيا .
ما دفعنى لاجترار هذه الشذرات المتفرقات هو ملاحظتى أنه لم يعد أحد يغنى للسودان على الإطلاق . لم يقدم أى فنان شاب – إن لم تخنى الذاكرة – أى عمل وطنى سواء أكان عاما يتحدث عن تأريخ بلادى و بطولاتها و أمجادها كما فعل وردى فى ” أنشودة الاستقلال ” ، أو عملا خاصا يرتبط بمناسبة سياسية محددة ما كما فعل ” وردى ” نفسه فى رائعة ” فى حكايات مايو ” أو في ” إكتوبرياته ” و ” أبريلياته ” الذائعة الصيت .
كيف يمر حدث عظيم مثل انفصال جنوب ” السودان ” دون أن يقدم فنان واحد من فنانى اليوم عملا فنيا واحدا عنه ؟
و كيف تستعر الحرب في ” دارفور ” كل هذا السنوات دون أن يناهضها الفنانون غناءا ؟
كيف يقدم فنان واحد قرابة الخمسين عملا وطنيا ثم تعجز أجيال متعاقبة عن خربشة لحن واحد على جدران الوطن العظيم ؟ هل نضبت ينابيع الوطنية فى شرايين الفنانين ؟ هل تنازلوا طوعا عن رسالاتهم في حقن شرايين الناس بعشق بلادهم ؟ هل قرروا التنازل عن كونهم شعلا تضئ ، وتحولوا إلى مجرد هواة في مسارح المدينة ؟ و أين هو ذلك الفنان الذى يبصم بأصابعه العشر على ذواكر و أرواح أجيال اليوم ؟
لقد شكلت تراثيات ” الكابلى ” جزءا أصيلا من مخزونى القيمى . ترعرعت على صدى أغنياته الشعبية عن الكرم و الشجاعة . ولا زلت حتى اللحظة ، و حين أستمع إليه متغنيا :
متين يا على تكبر تشيل حملى
اياك على الخلاك ابوى دخرى
للجار و العشير الكان أبوك بدى
للغنى و الفقير الكان ابوك حامى
يهزنى طرب عظيم . كما لعبت أغنياته الفصيحة مثل ” ضنين الوعد ” و ” إنى أعتذر ” دورا عظيما في إذكاء جذوة عشقي للغة العربية عموما و أدبها خصوصا .
و لعلى لا أبالغ إن قلت إنه كلما فترت العلاقة بينى و بين بلادى ، رهقا أو يأسا أو عتابا ، شدتنى تراثيات ” الكابلى ” و وطنيات ” وردى ” و ” العطبراوى ” إلي باحات الاشتياق الوطنى العظيم … ثانية !! .
لاحظت هذه الرغبة المحمومة لجل بنات اليوم في الهرب من اللون الأسمر الجميل الذى يميزنا كشعب نصف زنجى . هذا الهرب فلسفيا هو توق خفى للالتحاق بهوية أخرى . إن الأجيال التى تأنف من ” يا عديلة يا بيضا ” ، لتتزوج على إيقاع الزفة المصرية قد تكون ضحية لتغول ثقافات وافدة ، لكنها في ذات الوقت تدفع ثمن إخفاق الساسة في خلق مشروع وطنى عظيم ، مثلما ثمن صمت الفنانين و الشعراء و الكتاب عموما عن التغنى بتاريخ و تراث و جمال و عظمة هذا البلد العملاق . أقول هذا بغض النظر عن مدى ثراء بعض أفراد هؤلاء المستلبين .
وإنى لأثق أن مسئولية فنانى اليوم أكثر جسامة من فنانى الستينات مثلا . فأجيال الستينات كانت لا تزال تتدفق في عروقها شموس الوطنية الساطعة . أما هذا الشباب التائه الذى لا يعرف جل أفراده شيئا عن ” محمد أحمد المهدى ” ، و لم يستمع إلى خطب ” المحجوب ” ، و لم يتذوق روائع ” أبو صلاح” ، و لم يهتز للبروفسور ” على الملك ” مرتلا شيئا من مؤلفات ” عبدالله الطيب” ، ولم يتمايل طربا مع رومانسيات ” عثمان حسين ” و ” بازرعة ” ، هذا الشباب الذى يستمع إلى الغناء بقدميه ، هو بحاجة ماسة إلى فنان جاد يخرج من صلب هذه الأرض كما نخلة طيبة ، ليزيل الغبار عن الوجدان الغريب و يرجع الخطى التائهة الى جادة الصواب .
الغناء للوطن هو أشرف أنواع الغناء !!
و التغزل به و فيه أجمل من التغزل فى كل نساء الأرض !!
و الكلمة التى تغتسل في نبع الوطن هى كلمة مقدسة !!
فيا مبدعى بلادى … غنوا لبلادكم يرحمكم الله !!