مقالات وآراء

الثورة إلى أين: بعد المؤتمر الاقتصادي واتفاقية السلام؟

في كتابات سابقة تطرقت إلى ضرورة خطوات سياسية تؤدى إلى وحدة قوى الثورة ووضع ميثاق جديد لهذه الوحدة ينبني على اكمال مهام الثورة وتحقيق شعاراتها في السلام الكامل والحرية للأفراد والجماعات بما يؤدى إلى تحقيق ديموقراطية حقيقية، وتنمية اقتصادية متوازنة تؤدي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وكنت قد ذكرت سابقاً أيضا أن الأخطاء التي وقعت في الوثيقة الدستورية وقبول المكون العسكر كشريك من غير أسس واضحة لحدود هذه الشراكة، بما جعله يسيطر عملياً على الحال الأمني والاقتصادي للبلد، لن تمكن من استكمال أهداف الثورة، إلا إذا تمت المعالجة لهذه الأخطاء.

كذلك وجود ثغرات يحاول المكون العسكري استغلالها من حين إلى آخر للاستيلاء على كامل السلطة، لن يكون أخرها الغضب الذي عبر عنه السيد البرهان عندما كشف رئيس الوزراء حقيقة أن حكومته لا تتولى غير 18 % من موارد الدولة، وإن ما تبقى هو في يد شركات الجيش والأمن، فما كان من السيد رئيس مجلس السيادة إلا الرد بعدم قبوله محاولة الحكومة رمي فشلها على ما جاء في قول رئيس الوزراء!

الآن: هناك عاملان جديدان في الموقف يمكن أن يؤديا إلى إصلاح الأخطاء واستعدال طريق الثورة نحو تحقيق الأهداف أو تفويت الفرصة الأخيرة لهذا الإصلاح وبالتالي يصبح المجال مفتوحاً لتطور ينتكس بالمسيرة على أقل تقدير. فقد فوت ممثلو الثورة فرصة فرض ما يريدون بعد خروج الجماهير بالملايين في الثلاثين من يونيو 2019، وفوتها السيد حمدوك في الثلاثين من يونيو 2020 وكذلك في مظاهرات أغسطس. فما هي عناصر الفرصة الجديدة في تقديري:

أولاً: برغم ما قيل عن المؤتمر الاقتصادي من مثالب ومآخذ، إلا أنني أرى أنه حدد وجهة أساسية للسياسات الاقتصادية التي لم تكن محددة بواسطة الحكومة الانتقالية ولا حاضنتها، ألا وهي الاعتماد على الموارد المحلية وإصلاح البيت من الداخل قبل اللجوء إلى المجتمعين الإقليمي والدولي، الذين اتضح من تجاربنا وتجارب آخرين أنها غالباً لا تنفذ، وفي حالة التنفيذ لا بد أن ترتبط بشروط مرئية وغير مرئية. وخير مثال على ذلك موقف امريكا من ربط إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد قيام شعبه بثورة ازالت الجهة الراعية له على مستوى العالم، ربطه بالتطبيع مع اسرائيل لمصلحة إعادة انتخاب ترامب ونتنياهو، الأمر الذى لا ناقة للسودان فيه ولا جمل أو حتى حوار! وقد تم ذلك، أي اللجوء إلى سياسات الداخل، من خلال الضغط السياسي الذي قامت به لجان المقاومة في الأساس، والتي يأخذ عليها البعض أن ممثليها لم يساهموا في طرح المسائل الاقتصادية بالصورة العلمية التي كان يرجوها ذلك البعض. ويبدو أن لجان المقاومة عازمة على مواصلة الضغط من أجل تنفيذ السياسات التي خرج بها المؤتمر، واضعين في الاعتبار محاولات “الدغمسة” التي بدأها ممثلو السلطة الانتقالية في اتجاه فرض حلول الصندوق. وعلى رأس هذه السياسات استرداد ولاية وزارة المالية على المال العام واستخدام ما استرد ويسترد من المال المنهوب بالصورة التي تعالج القضايا الرئيسة وعلى رأسها، بحسب تصريحات الدكتور حمدوك معايش الناس.

– العنصر الثاني في هذه الفرصة التي أرى أنها أخيرة بالنسبة للحكومة المدنية الانتقالية، هو في التكوين الجديد للسلطة الانتقالية بعد انضمام حركات الكفاح المسلح. وفى هذا المجال هناك احتمالان واردان برأيي ورأي كثير ممن أدلوا برأيهم في الأمر ومن ضمنهم بعض ممثلي الحركات نفسها. الرأي الغالب يقول بأن ممثلي الحركات سيمثلون إضافة كبيرة للمكون العسكري وذلك لعدة أسباب حسب منطلق كل من أصحاب الرأي في هذا الاتجاه. فبعضهم يرى ان ذلك سيحدث بالضرورة لتشابه المصالح بين الطرفين، حيث أن المكون العسكري قد جاهد في الوصول إلى اتفاقية السلام بشكلها الحالي لأنها تضمن لهم الابتعاد عن احتمال جرهم إلى المحاسبة على ما ارتكبوا من جرائم وهم في سدة حكم الإنقاذ، أما بالنسبة لممثلي بعض الحركات الموقعة فإن السلطة تضمن لهم الاحتفاظ بثرواتهم التي تكونت على مدى “كفاحهم” ضد الانقاذ، خصوصاً وأن الاتفاق يضمن لهم الترشح في انتخابات ما بعد الانتقال إذ قد تم الاتفاق على ازالة بند منعهم الذي ضمن الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية. أما الرأي الآخر المتفائل والذي قال به ياسر عرمان والدكتور حمدوك، فهو أن ممثلي الحركات في السلطة الانتقالية سيضيفون إلى الفترة الانتقالية الكثير في جميع المجالات وعلى رأسها الاقتصاد ومعيشة الناس. وهو الرأي الذى اميل إليه مع توفر بعض الشروط الأساسية السياسية والاقتصادية، التي أشرت إلى مجملها في المقالين تحت عنوان “إلى المؤتمر الاقتصادي”، وأضيف إليهما هنا أن تكون غلبة تمثيل الحركات لمن ظل منهم على التصاق دائم بالجماهير صاحبة المصلحة الأصيلة في السلام، وأن تواصل هذه الجماهير الضغط من أجل تحقيق الشروط التي ستجعل من اتفاقيات السلام وتنفيذها أساساً صالحا بالفعل لمخاطبة جذور الأزمة. وهذا الرأي هو ما عبر عنه بيان الحزب الشيوعي وحزب الأمة وبعض الحركات غير الموقعة:
• يقول الفريق صديق نائب رئيس حزب الأمة القومي، وفقا لرأيه الشخصي كما أكد : (طالما أن هناك آراء من هنا وهناك، فإن السلام الذي تم منقوص.) ثم أشار إلى ان هذا السلام يجب أن تتداعى له أطراف السلم ، وزاد (إن هناك قوى مسلحة ترفض ما تم في جوبا ، وقوى سياسية تنظر إلى الاتفاق على انه غير السلام المطلوب، ولذلك فإن السلام الشامل العادل لم يتحقق بعد، وأكد ان ما حدث يمكن أن يكون خطوة أو خطوتين، لكن السلام الشامل قد يحتاج إلى خطوات أخرى اضافية).

• اما حركة تحرير السودان، قيادة إبراهيم أحمد، فقد اعتبرت أن الاتفاقية سلكت إجراءات خاطئة وأدت إلى نتائج كارثية أضاعت معها التعويضات للضحايا ورفعت المسئولية عن الدولة التي قذفت القرى وأهلها بطائراتها وشردت الملايين بميليشياتها فأصبحت الدولة بموجب الاتفاقية غير ملزمة بالتعويضات.. وذهبت الحركة إلى أن الاتفاقية وضعت في ملف العدالة نصوصاً متناقضة صيغت بعناية متعمدة لتفتح الباب أمام الجدل للإفلات من العقاب ولتبرر للحكومة عدم تسليم المطلوبين للجنائية الدولية. والأهم من ذلك، حسب الحركة، وجود وبقاء المستوطنين الجدد في أراضي النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية، وذلك بعدم النص صراحة على طردهم من تلك القرى والمزارع. وأكدت الحركة أن الاتفاقية عجزت عن حل قضية الحواكير بتعمدها تغييب الإدارات الأهلية وممثلي النازحين من المشاركة في التفاوض..)

• وهذه حركة واحدة من العشرات التى لها آراء مختلفة تنبع أساساً من عدم اشراكهم من غير اعتبار لما تهدف إليه كل حركة أو قيادتها بما يفتح الباب واسعاً للخلاف أثناء التطبيق، وخير دليل على ذلك ما يحدث في الشرق ولم تجف توقيعات الموقعين على اتفاقية جوبا. ولا أجد وجوداً لمن وقع عن الشرق في مجرد تهدئة الأمور وهو دليل كاف على أن هناك من وقع وهو لا يمثل واقعاً على الأرض.
وعلى أي حال، وبرغم آراء المعترضين من حيث الدوافع والأهداف والصحة والخطأ، إلا أنني اختلف مع من يقول بأن ناتج اتفاقية جوبا صفر! فلا شك في أن من شاركوا بذلوا جهدا كبيراً كان من نتائجه الوصول إلى بعض التوصيات الهامة، هذا اضافة إلى أن من شاركوا يمثلون ثقلا، ولو في الجانب العسكري لا يمكن تجاهله. فلو بقيت بندقية واحدة في الغابة لنقص السلام. ولا ننسى الأيادي الخارجية والداخلية التي وضح أن لها دوراً بارزا في أحداث الشرق، وإن موضوع السلام سيظل أحد العناصر الرئيسة التي يمكن أن تعتمد عليها الثورة المضادة.
وأخيراً تبقى حركة شباب الثورة ممثلة في لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير، بشرط الإصلاح المطلوب، وتكوين حكومة جديدة تمثل عناصر الثورة والعمل على تحقيق أهدافها، تبقى هذه العناصر هي رمانة الميزان التي ستميل بكفة الميزان إلى الانتصار النهائي للثورة وتحقيق أهدافها، أو الانتكاس المؤقت، الذي سيمثل عنصراً جديدا في تجارب الثوار يضيف إلى ما سبق انتظارا إلى الانتصار الذي لا بد حادث وإن طال السفر!
__
الميدان 3707،، الأحد 11 أكتوبر 2020م.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..