الانتقام بردا

ما سر تعرضنا للبرد الشديد فى الصباح الباكر؟ ولماذا نخرج إلى العمل بعد الفجر مباشرة، وكذلك النساء إلى أعمالهن، والأطفال والشباب فى هذا البرد القارس إلى مدارسهم؟ وليس فى مقدور معظم أفراد الشعب شراء الملابس التى تقيهم هذا البرد؟
لماذا يتعرض أفراد الشعب فى خروجه مبكرا فى هذا البرد الشديد وقد جاء فى الأثر ما يحذر من البرد: أخرج ابن أبي شيبة في المسند ” (2 / 5 / 2) نودي بالصبح في يوم بارد وأنا في مرط امرأتي، فقلت: ليت المنادي ينادي :(ومن قعد فلا حرج)، فنادى بهذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه البيهقي(1 / 39).
وفي هذا الحديث سنة هامة مهجورة من كافة المؤذنين مع الأسف – وهي من الأمثلة التي يتضح بها معنى قوله تبارك وتعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، ألا وهي قوله عقب الأذان: (ومن قعد فلا حرج) ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهد المسلمين وكتب لهم بالوصية : ان الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب ، واتخذوا الصوف شعارًا ( وهي ما يلي البدن ) ودثارًا أى (الملابس الخارجية ) فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه.
هكذا نجد تعاليم الدين الحنيف تحذر من البرد، وتمنع الخروج للصلاة فى البرد الشديد، فما بالنا نخرج للعمل فى برد يمزق الأوصال بعد الفجر مباشرة ؟ وهاهى دول النصارى وفى مقدمتهم بريطانيا تبتكر التوقيت الشتوى بتأخير الزمن ساعة (الساعة السابعة صباحا تتحول إلى السادسة) حتى يخرج الناس الساعة السابعة بالتوقيت الشتوى وهى فى الحقيقة الثامنة صباحا، وذلك لتجنب البرد الشديد، وقد اتخذ هذا التوقيت فى السبعينات فى السودان، ولكنه توقف بعد ذلك فى بداية التسعينات.
ودعونا نلقى نظرة تاريخية على التوقيت فى السودان:
فالمعروف أن التوقيت مرتبط بحركة الشمس الظاهرية من الشرق إلى الغرب، وعندما تطور العالم علميا وتكنولوجيا، ونشأت وسائل النقل الحديثة مثل القطارات والطائرات، تطلب الأمر ابتكار ما يسمى بالتوقيت العالمى Universal Time) أو UT اختصارًا) لضبط حركة النقل بين دول العالم، وكان لابد من أن تحدد نقطة ما لبداية التوقيت، وتم اختيار قرية قرنتش (جنوب لندن) لتكون بداية للتوقيت العالمى ، حيث بريطانيا العظمى فى ذلك الوقت هى سيدة العالم، (هنالك دراسات تؤيد أحقية مكة المكرمة بذلك لتوسطها العالم)، على آية حال، بدأ حساب التوقيت من هذه النقطة شرقا وغربا، واعتبر الزمن إلى الشرق متقدما وإلى الغرب متأخرا، تبعا لحركة الشمس التى تتعامد على مناطق الشرق ثم تتحرك إلى الغرب. وتقع كل من السودان ومصر ويوغندا جنوبا حتى جنوب أفريقيا على خط طول 30 شرقا (أى شرق قرنتش) ولهذا ارتبط توقيت هذه الدول بخط طول 30 تاريخيا وجغرافيا، وتقطع الشمس فى حركتها الظاهرية المسافة بين كل خط والآخر فى أربعة دقائق، وإذا ضربت 4 x 30خط = 120 دقيقة أى ساعتين، فإذا كانت الساعة فى لندن الثامنة صباحا تكون فى الخرطوم والقاهرة وغيرها من المدن المرتبطة بخط 30 العاشرة صباحا، وذلك لأن الشمس عبرت فوق الخرطوم أولا ثم اتجهت إلى لندن بعد ساعتين من مرورها على الخرطوم وفى هذه الحالة يتقدم الوقت فى الخرطوم على لندن بساعتين..أى أن زمن الخرطوم (+2) وكذلك القاهرة وجنوب أفريقيا وكل الدول المرتبطة بخط طول 30..!
ربما يسأل سائل وما علاقة ذلك بالبرد؟ أقول دأبت بريطانيا ومعظم دول أوروبا على العمل بالتوقيت الشتوى (تأخير الزمن ساعة) لتجنيب المواطنين أذى البرد وأضراره.
والسؤال: لماذا نكتوى نحن بالبرد ونخرج مبكرين بعد الفجر مباشرة إلى العمل قبل الشروق وقد ألغى العمل بالتوقيت الشتوى؟ وهل اقتصر اللعب والعبث بالتوقيت فى السودان على إلغاء التوقيت الشتوى فقط ؟
لا..هنالك ما هو أفظع من ذلك…افتح موبايلك الآن وشغل وظيفة الساعة واختر الخرطوم، ستفاجىء بالتالى: أن زمن الخرطوم (+3) وليس (+2)!!
ونكشف لكم السر فى الخريطة التالية :
تم تغيير التوقيت الجغرافى للسودان (فى صمت تام) ليتحول من خط 30 شرقا إلى خط 45 شرقا، والتوقيت يعتبر حقيقة جغرافية لا تقبل التغيير مثل اعتبار السودان فى قارة آسيا بالضبط أو فى أمريكا الجنوبية، لأن هذه الحقيقة مرتبطة بحركة الشمس على منطقة من الأرض، وهنا يصنع (الزمن الحقيقى) بنتيجة مباشرة لعلاقة الشمس بالأرض، وهى حقيقة من صنع الله وليس من صنع البشر..وللأسف تم العبث بهذا التوقيت ليكون توقيتنا مع توقيت قطر والبحرين والعراق..! (راجع التوقيت فى هذه الدول على الموبايل) تجدها كلها (+3) مثل الخرطوم ، أو اتصل بأحد الأقرباء بهذه الدول واسأله عن الساعة عنده، ستفاجأ بأنها نفسها فى الخرطوم وهذا مستحيل جغرافيا..ولكن يمكن تغيير (الزمن الحقيقى المرتبط بحركة الشمس) إلى ما يسمى (الزمن الاصطلاحى) للتخفيف عن المواطنين بتأخير الزمن وليس بتقديمه كما فعلت سلطاتنا (الرشيدة)..!
ثم راجع مصر والكونغو وزامبيا وجنوب أفريقيا ، وهى الدول التى يمر بها خط طول 30 شرقا تجد زمنها (+2) أى زائدا على قرنتش بساعتين.
ومن الغريب فى الأمر أن لبنان والقدس وعمان بالأردن وهى إلى الشرق من الخرطوم والقاهرة، اتخذت خط طول 30 شرقا كأساس لزمنها والخط لا يمر بها، وموقعها (لاحظ الخريطة) يتوسط المسافة بين خطى 30، 40 شرقا..أى (35) وعمان بالأردن بالذات أقرب لخط 40 شرقا، فما السبب فى اتخاذ خط 30 شرقا لتوقيتهم؟ السبب أن هذه المناطق من الشام باردة ولهذا فمن الأفضل أن يتخذوا وقتا متأخرا قليلا لخروج الناس لأعمالهم والدنيا دافئة صباحا، وسأشرح هذا بمثال : تتعامد الشمس فى حركتها الظاهرية على الشام (على خط 35 شرقا) الساعة 12 ظهرا ثم تأتى إلى مصر والسودان وهما على خط طول واحد (30 شرقا) والمسافة الزمنية بينهما 5 خطوط طول 5 x خطوط 4 دقائق = 20 دقيقة، وعندما تتعامد الشمس على الخرطوم والقاهرة (الساعة 12 ظهرا) تكون الساعة فى الشام (12.20) ظهرا..لأن الشمس تركتهم منذ ثلث ساعة..أليس كذلك؟ ونأخذ الوقت صباحا، إذا كانت الساعة فى القاهرة أو فى الخرطوم 7 صباحا (مواعيد الذهاب للعمل) كانت الساعة فى الشام (الوقت الحقيقى) (7.20) صباحا أى الدنيا أكثر دفئا، وعند اتخاذ الشام لخط 30 توقيتا سيكون الوقت عندهم (7 صباحا) مثل القاهرة والخرطوم وفى هذه الحالة نطلق عليه (الوقت الاصطلاحى) لأنه ليس مرتبطا بخط طولهم وهو (35 شرقا)..أى أن الحكومات فى الأردن ولبنان واسرائيل اختارت خط 30 لتوقيتهم مع أنه لايمر ببلادهم للحصول على وقت أكثر دفئا لمواطنيهم..!
هل بدأت الصورة تتضح.. والسؤال: لماذا أوقفت سلطاتنا التوقيت الشتوى؟ بل لماذا اختارت توقيت البحرين وقطر والعراق توقيتا للسودان باتخاذ خط 45 شرقا وهو بعيد عن بلادنا؟
سأشرح هذا ببساطة..عندما تكون الساعة 7 صباحا بتوقيت الخرطوم الحقيقى المرتبط بخط طول 30 شرقا، كان التوقيت الشتوى فى السبعينات يعدل هذه الساعة بتأخيرها ساعة لتصبح 6 صباحا أى عليك أن تبقى ساعة أخرى فى البيت وتخرج فى وقت أكثر دفئا فى الساعة 7 صباحا (اصطلاحا) وهى فى الحقيقة 8 وتأخذ ساعة مثلا فى الطريق إلى عملك لتصل الساعة الثامنة (اصطلاحا) بالتوقيت الشتوى متجنبا البرد.
الآن ..عندما تكون الساعة فى العراق أو البحرين 7 صباحا (بالتوقيت الحقيقى) المرتبط بخط طولهم 45 شرقا (انظر الخريطة) فمن المفترض أن الساعة الحقيقية فى الخرطوم تكون 6 صباحا، ولكن باتخاذ السلطات فى الخرطوم توقيت خط 45 شرقا (الخرطوم +3 بالنسبة لقرنتش) فقد أصبحت الساعة متقدمة فى الخرطوم (أى 7 صباحا) مثل بغداد والمنامة وهى فى الحقيقة 6 صباحا، وإذا كنت تخرج إلى عمل بعيد 6 صباحا، فهذا معناه أنك تخرج فى زمن حقيقى 5 صباحا..أى بعد صلاة الفجر مباشرة..أى عليك أن تخرج إلى الشارع والدنيا مازالت ظلاما..أى تخرج بدرى ساعتين عن التوقيت الشتوى فى السبعينات..
والمقال لم يجب على السؤال.. لماذا فعلت السلطات ذلك.. وجعلت الناس يتجمدون بردا ويصابون بالنزلات البردية الحادة والإلتهابات الصدرية والرطوبة فى أوصالهم التى يمكن أن تصل إلى روماتزم القلب؟
حاول أن تفكر لتعرف السبب..!
صباحك فل بإذن الله..
[email][email protected][/email]