مقالات سياسية

عيون افريقية حمراء لمصر والسودان بسبب النيل!

د. علي حمد ابراهيم

درج اخوتنا المصريون على مخاطبتنا بصفة ابناء النيل كنوع من التحية الخاصة . ودرجنا نحن على ان نرد تلك التحية باحسن منها . ونخلع عليهم نفس الصفة . و نزيد عليها بعض (تحابيش ) من الدعابات المحببة . صفة ابناء النيل التى درجنا على تبادلها فيما بيننا ، نحن معشرالسودانيين والمصريين ، ترضى غرورنا مجتمعين . وتجيّر ابوة النيل لنا دون غيرنا من البشر الكثيرين المنتشرين على ضفافه ، و الذين ربما كانوا أحق منا بابوة النيل لهم ، عندما تأتى المسألة الى حساب التكوين . وقديما قيل ان الحساب ولد.

فى الاضابير القانونية ، نقرأ أن اتفاقيات ومراسيم قانونية كانت قد وقعت بين (بعض ) دول حوض النيل فى القرن الماضى ، حددت حصص تلك الدول من مياه النهر . و تعتبر اتفاقيتا عام 1929 وعام 1959 اهم اتفاقيتين فى هذا الخصوص. غير أن المراقب المدقق سيلاحظ ان اتفاقية عام 1929 وقعتها مصر مع بريطانيا ، التى انابت نفسها عن كل من السودان ويوغندا وتنزانيا ، باعتبارها الدولة المستعمرة للدول الثلاث . وقد روعى فى تلك الاتفاقية ان تنظم العلاقات المائية بين مصر ودول الهضبة الاستوائية ، وكذلك العلاقات المائية بين مصر والسودان . ولعله من المفيد ان نثبت فقرة اساسية جاءت كمقدمة للاتفاقية المائية بين مصر الحاضرة و السودان الغائب ، الذى تستعمره هاتان الدولتان معا ، وتوقعان نيابة عنه قوة عين ، و فى الضحا الاعلى ، وتلزمانه بما تتفق عليه الدولتان مما لا يخلو من ضرر وضرار. تقول الفقرة المعنية بالحرف، وهى بمثابة خطاب من الحكومة المصرية الى المندوب السامى البريطانى ، تقول : “ان الحكومة المصرية شديدة الاهتمام بتعمير السودان ، وتوافق على زيادة الكميات التى يستخدمها السودان من مياه النيل ولكن ( دون الاضرار بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية ).

واذا امكن للمراقب ان يدرك معنى الحقوق الطبيعية المصرية المشار اليها فى المقدمة المذكورة بسهولة ويسر ، فانه لن يدرك بذات السهولة واليسر المقصود بالحقوق ( التاريخية المصرية فى السودان ) اذا لم تكن لديه الخلفية التاريخية التى تجعل مصر تتحدث عن حقوق تاريخية لها فى اليودان . وتعنى مصر بالحقوق التاريخية المصرية فى السودان تلك الحقوق التى كفلها لها حق الفتح المسلح الذى اطاح دولة سودانية مستقلة ، واعاد استعمار شعبها وقتل عشرات الالوف منه تحت وهج السيوف الخديوية والانجليزية المشتركة .

ولكن ماهى شروط مصر التى يجب ان يلبيها السودان لكى توافق مصر على زيادة كميات المياه التى يستخدمها السودان. هذه الشروط هى :

– أن يلتزم السودان بما جاء فى تقرير لجنة مياه النيل لعام 1925 . و هذا التقرير يفصل التزامات السودان الخاضع للاستعمار المصرى ، التزاماته نحو مصر . من هذه الالتزامات :

* ألا تقام بغير موافقة مصر ، أى اعمال رى ، أو توليد طاقة ، أو أى اجراءات على النيل ، ة وفروعه ، أو على أى من البحيرات التى تنبع منه ، سواء فى السودان ، او فى البلدان الواقعة تحت الادارة البريطانية ، من شأنها انقاص كمية المياه الواصلة الى مصر ، او تعديل تاريخ وصولها ، او تخفيض منسوبها ، على أى وجه قد يلحق ضررا بمصالح مصر.

* أن يقدم السودان جميع التسهيلات للحكومة المصرية لعمل الدراسات ، والبحوث المائية لنهر النيل فى السودان .

* أن يكون لمصر حق اقامة اعمال فى السودان لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر بالاتفاق مع السلطات المحلية .

لا حظ ان النص لم يشر الى حكومة السودان ، او الى الدولة السودانية باعتبار ان الدولة السودانية كانت قد ابيدت قبل ثلاثين عاما من تايخ الاتفاقية موضع النقاش.

لاحظ كذلك الاملاءات الشديدة التى فرضت على السودان توفير خدمات مائية وتسهيلات ادارية ولوجيستية فى داخل حدوده لصالح مصر ،و لا يكاد يقابلها من الجانب المصرى مردود لصالح السودان .

* أما اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان ، فقد مثل الطرف السودانى فيها هذه المرة حكومة سودانية ذات سيادة بعد أن نال السودان استقلاله من دولتى الحكم الثنائى فى اول يناير من عام 1956 . وحددت الاتفاقية الكميات المائية العائدة لكل دولة تحديدا دقيقا وحددت كذلك مصادرها من انهار وفروع انهار .

كانت حصيلة مصر النهائية بالامتار المكعبة هى خمسة وخمسين مترا مكعبا وخمسة من عشرة من المتر المكعب ، بينما وصلت حصيلة السودان ثمانية عشرة مترا مكعبا ، وخمسة من عشرة من المتر المكعب .

* حملت الاتفاقية موافقة الدولتين على ان تنشئ مصر السد العالى . وان ينشئ السودان خزان الروصيرص على النيل الازرق . واتفقت الدولتان على ان توزع الفائدة المائية من السد العالى والبالغة 22 مليار مترمكعب مناصفة بين الدولتين . و تحمل تكاليف انشاء مشروعات زيادة ايرادات النهر المائية مناصفة . وهى مشروعات استغلال المياه الضائعة فى بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الابيض ( راجع حمدى سليم – الشرق الاوسط 30 ابريل2010) بينما سكتت عن حقوق الدول والشعوب الاخرى الشريكة فى هذه المياه.

* هذه مقدمة تاريخية مختصرة لمجمل سلوكيات دولتى مصر والسودان فيما يختص بالاستحواز الكامل على مياه نهر النيل ومحاولة زيادة هذه المياه بشكل مضطرد دون اى اعتبارات لحقوق الآخرين مما اصبح سببا مباشرا فى التأزم الذى تشهده علاقات دول حوض النهر اليوم . و لكن يستحسن ان نبدأ الحكاية من اولها .

منذ مطلع التسعينات هبت رياح كثيرة على منطقة حوض نهر النيل . واتت تلك الرياح بما لا تشتهى سفن البلدين اللذين كانا المستفيدين الوحيدين من المياه المنحدرة من الهضاب الافريقية التى لها ملاك وحراس كثيرون غيبتهم اتفاقيات مصر والسودان عن الصورة والمضمار. فقد فتحت اخيرا عيون دول الهضبة الاستوائية التى ظلت نائمة عن مصالحها المائية لوقت طويل . واخذت تنظر الى حقوقها المائية المغيبة وتعدها بفهم ووعى لم يكونا موجودين فى ذلك الماضى السحيق . واخذت تلك الدول تطالب بتصحيح العلاقات المائية بين دول المنطقة بصورة جديدة و منصفة تعيد الحقوق الضائعة وترتب مسارات جديدة تتفادى سلبيات ماضى العلاقات المائية لتلك الدول. واجتهدت مراكز البحث فى تلك الدول فى التنقيب عن بدايات جديدة وصحيحة فى هذا الخصوص . وطرحت من خلال مبادرات عديدة من الدول والخبراء افكار جديدة دارت فى معظمها حول ضرورة انشاء جسم فنى او عدة اجسام فنية مشتركة جد تؤسس لتعاون مشترك على اسس جديدة . وعادلة بين دول حوض نهر النيل ، بعيدة عن مضامين ما كان قائما من هياكل وممارسات ، وليس شبيها بهيئة مياه النيل التى انشأتها اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان. وكانت هناك بعض المعالم المهمة التى مرت بها فى مسيرة مطالبة هذه الدول بحقوقها فى مياه نهر النيل . من تلك المعالم:

* فى عام 1993 ، اتفقت دول الحوض على وضع اجندة عمل مشترك فيما بينها للاستفادة المشتركة من مياه نهر النيل . وتشكل لذلك الغرض مجلس وزراء مياه نهر النيل من الدول المنتمية الى منطقة حوض النهر .

* فى عام 1995 طلب مجلس وزراء مياه نهر النيل من البنك الدولى رسميا مساعدة دول الحوض فى الوصول الى صيغ تحقق لها تعاونا مشتركا تتقاسم بموجبه الفوائد المشتركة فى مياه النهر . وافق البنك الدولى على تقديم المساعدة المطلوبة . وضمّ اليه فى هذه الموافقة صندوق الامم المتحدة الانمائى . والهيئة الكندية للتنمية الدولية . وشرع فى البحث فى خلق آليات لتحقيق اقصى درجات التعاون بين دول الحوض ( انظر نفس المرجع السابق ).

-فى عام 1997 تم انشاء منتدى الحوار المشترك بين هذه الدول .

* فى عام 1998 تم الاجتماع الوزارى المشترك بين جميع دول الحوض

* فى فبراير من عام 1999 ، تم التوقيع بالاحرف االاولى على انشاء آلية التعاون المشترك فى جمهورية تنزانيا .

* تم تدشين هذه الآلية رسميا فى مايو من نفس العام . واطلق عليها اسم (مبادرة حوض النيل) .

* اخذت الآلية على عاتقها تنمية موارد نهر النيل حسب الرؤية المشتركة لدول الحوض، وصولا الى التنمية المستدامة . و الاستغلال المتساوى للامكانات المشتركة التى يوفرها حوض نهر النيل .

ولكن بدا واضحا ان عقودا طويلة من انفراد دولتين فقط من بين كل دول الحوض بمعظم الفوائد المائية العائدة من مياه نهر النيل ، قد راكمت قدرا من الاحتقانات تحتاج دول الحوض الى جهود اكبر للتغلب عليها وبناء جسور جديدة من الثقة فيما بينها .

* بعض الكتاب والباحثين المصريين اخذوا يجوسون فى اضابير الخلاف الخافت والمستتر بين دول الحوض. وصاروا يحرفون كلم دول حوض النهر عن بعض مواضعه ، حين اعتبروا دعوة تلك الدول الى تصحيح سلبيات العلاقات المائية جزءا من المؤامرت الاسرائيلية . لقد اختار هؤلاء الكتاب كالعادة تعليق الازمة الصامتة على المشجب الاسهل. وخلعوا بذلك على اسرائيل قدرات خرافية هائلة واعطوها ميزة القدرة على خلق االازمات بين الدول والشعوب . والسيطرة على مصائر شعوب بكامها . و التلاعب بمصائرها وفق اهوائها . والقدرة على تعجيز تلك الشعوب والدول فى فعل أى شئ للتصدى لهذا الاخطبوط الاسرائيلى . وتلك مقدرات اسرائيلية متصورة تعرف اسرائيل نفسها انها لا تملكها . وتعرف انها مقدرات لا توجد الا فى مخيلات هؤلاء الكتاب والباحثين الدراميين. أما محاولات بعض هؤلاء الكتاب والباحثين الدراميين لخلق معركة فى غير معترك بين مصر والسودان من جهة ، وبين دول المنبع الافريقية فهو امر يجب ان ينتبه اليه الذين يهمهم امر علاقات السودان مع محيطه الافريقى . الذين يجب ان لا ينخرطوا فى احاديث التهديد والوعيد وانذارات الخطوط الحمراء التى لا يمكن السماح بتجاوزها . فكل من يمشى فوق اديم الثرى يجب ان تكون لديه خطوط حمراء لا يسمح لنفسه ان يتجاوزها هو قبل تجاوز الآخرين . وتكون تلك الخطوط الحمراء هى الخطوط التى تبدأ عندها حقوق الآخرين ومصالحهم . كما أن للآخرين خطوطهم الحمراء التى لا يسمحون لأحد أن بتجاوزها .

* ان محاولة جر السودان الى معركة ضد محيطه وجواره الاخوى الافريقى ، وجره الى الاعتقاد بأنه دولة مصب ، لها حقوق اكثر تميزا فى حين انه دولة (دفع ) ليس الا ، هى محاولة يجب التنبيبه على مخاطرها السياسية فى ظل ما ينتظر السودان من تطورات لا حقة مع بداية العام القادم ، قد تطيح بصورة السودان القائمة اليوم وبمقدراته كلها ، بحيث لا يعود قادرا على التصدى لأى نوع من التحديات . وبحيث تسقط كل خطوطه الحمراء منها وغير الحمراء.

ان فشل اجتماع دول حوض نهر النيل العشر فى آخر اجتماعاتها فى التوصل الى اتفاق لتقسيم موارد النهر بالتساوى فيما بينها ، واعلان دول المنبع ( يوغندا وكينيا وتنزانيا وبورندى ورواندا واثيوبيا والكونغو الديمقراطية واريتريا ) بانها ستمضى بمفردها قدما فى التوقيع على الاتفاقية الاطارية بين هذه الدول فى الرابع عشر من مايو القادم ، ورفض مصر والسودان لقرار دول المنبع هذا ، واتهام اثيوبيا لمصر بالمماطلة والتعقيد والتهاتر العلنى الذى اعقب هذه التطورات ، هى كلها امور تفصح عن عمق الازمة التى اخذت تتخلق فى رحم العلاقات بين هذه الدول . ان ذلك يشكل نوعا من الاحتراب الناعم حتى هذه اللحظة حول مياه نهر التيل .

ولكن ولا يستطيع احد ان يتنبأ بمدى استمرار هذه النعومة فى ظل حديث احد الاطراف الدائم عن خطوطه الحمراء التى لا يمكنه السماح بتجاوزها . اما رفض مصر المباشر لأى خطط جديدة لتقاسم مياه نهر النيل ، وتمسكها بحقوقها التاريخية فى النهر دون اى اعتبار لأى متغيرات قد تكون استجدت منذ توقيع اتفاقية مياه نهر النيل الام فى القرن الماضى ، فانه يكاد يغلق الباب امام محاولات منع تحول الخلاف الذى ما زال فى اطواره الاولية ، منعه من التحول الى ازمة اقليمية بين دول فيها ما يكفيها من الازمات. ان النزاع الدائر الآن بين مصر والسودان باعتبارهما دولتى مصب من جهة ، وبين دول المنبع الافريقية من جهة اخرى ، هو فى حقيقته نزاع بين مصر ودول المنبع السبع . موقف هو كومبارس مجامل للموقف المصرى . يبدو ذلك جليا من خطاب البلدين .

ففى الوقت الذى تتشدد فيه مصر ضد موقف دول المنبع وترفض المساس بما هو قائم من فوائدها ( التاريخية ) التى تجير لها استغلال نصف موارد النهر تقريبا ، نجد ان السودان الغير مقتنع حقيقة ، نجده يتحدث لغة ناعمة ويطلب (توافق) الجميع على حل مرضى لكل الاطراف . وهذا نوع من امساك العصا من النصف لا يقدم عليه الا غير المنفعل بقضيته حقيقة . فالسودان يعرف انه دولة دفع تحاول مصر دفعه ليقول انه دولة مصب . ويعرف السودان كذلك انه اذا ذهب الجنوب غدا ، فان الجنوب وليس السودان القائم اليوم سيكون هو الدولة التى ستتجه اليها مصر بخططها المائية والانمائية .

اما دول حوض نهر النيل الافريقية فقد كبرت وشبت عن الطوق . وفتحت عيونها التى ظلت مغمضة وقتا طويلا . وعلى السودان ان يفتح عيونه ايضا . ان دعوة بعض الكتاب المصريين الى ضرورة تلاحم مصر والسودان واتحادهما ضد موقف دول المنبع الافريقية يمكن الرد عليه بالقول ان السودان ليس فى معركة ضد اى احد . ولا معنى او داع لاحاديث التلاحم والتكاتف فى قضايا تهم شعوبا تريد التعايش السلمى وتقاسم ما وهبه لها رب كريم من وسائل العيش الكريم فى الفة و ايثار . فالكل يعرف انه لا يموت قبل ان يستنفذ رزقه المقسوم .

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..