مقالات سياسية

صراع الهوية والمواطنة وضياع الوطن

خضر محمد عبدالباسط

مدخل:

كثر الحديث مؤخرا عن “غياب المشروع الوطنى الذى يحظى باجماع السودانيين”  كأهم اسباب الأزمة السودانية ، وفى إطار البحث عن هذا المشروع المفقود ذهب الكثيرون إلى أن الإتفاق على مستقبل الحكم فى السودان لا بد أن يستصحب إتفاقاً على الهوية السودانية ، وقد أريق الكثير من الحبر  وأهدر الكثير من الوقت فى الجدل حول موضوع الهوية. فما هى بالهوية ؟ .

الهوية:

ما زال مفهوم الهوية مفهوما متعدد التعريفات فى العلوم الإنسانية وفضفاضاً غير محدد المعالم  ولكن يمكن القول أن الهوية هى مجموعة من الصفات التى يمتلكها الفرد أو الجماعة والتى تمنح هذا الفرد أو هذه الجماعة صفة التفرد عن غيرهم. وعليه تكون الهوية إنتماءاً ثقافياً إلى معتقدات وقيم ومعايير واسلوب حياة محدد ومنها الهوية الفردية (ال أنا) وهى إدراك الفرد لذاته وما يميزه عن الآخرين  والهوية الإجتماعية (ال نحن) وهى الصورة التى تكونها مجموعة معينة عن نفسها والتى تقوم على الإرث الثقافى والعرقى واللغوى والدينى المشترك والذى يشكل اسلوب حياتهم وكيفية تعاملهم فيما بينهم وبين المجموعات الاخرى وتكون الهوية هنا من الموروث. كما يمكن أن يمتد هذا إلى  المكتسب كالإنتماء السياسى أو المذهبى. وعليه تكون الهوية من الخصوصيات ، فما هى هوية (خصوصية) السودانى؟ .

الهوية السودانية؟

يتنازع الكثيرون حول هوية السودان وهل هى العروبة أم الأفريقانية أم  الإسلام ولكن  لم يرد فى الأدبيات ما يبين كيف تمنح أى من هذه المكونات السودانيين صفة إو صفات خاصة بهم تميزهم عن غيرهم.  بل انه ليست أى من هذه المكونات الثلاث للسودانيين وحدهم بل يتشاركون كل منها مع عدد مقدر من الشعوب. فنحن نتشارك العروبة مع عدد مقدر من الأقطار فى الجزيرة العربية وشمال أفريقيا ، هذا إضافة إلى أن عروبة جزء غير يسير من السودانيين محل شك كما أن جزءاً مقدراً منهم لا يمت للعروبة بصلة. وبنفس القدر فاننا نتشارك الإنتماء الأفريقى مع عدد من الأقطار التى تتعدد اصولهم العرقية ولغاتهم وثقافاتهم. وينطبق هذا بشكل أكبر على الإسلام الذى نتشاركه مع جميع الآقطار العربية وعدد مقدر من الأقطار الأفريقية والآسيوية. وعليه فليس فى العروبة ولا الأفريقانية ولا الإسلام ما يمنح السودانى صفة الخصوصية أو التفرد عن غيره وهو معنى الهوية ، بل أن نصيب السودانى من أى من الثلاث اقل من نصيب كثير من شركائه فيه. ينطبق تعدد الهويات هذا على جميع البلاد متعددة الأعراق والثقافات والمعتقدات وهو ما يجعل موضوع الهوية مجالا خصبا للدراسات الإجتماعية متى ما قبلت هذه المكونات المجتمعية التعايش مع بعضها البعض وتعاملت على قدم المساواة دون اعتبار للعرق أو الثقافة أو الدين، كما هو الحال فى المجتمعات المتقدمة. وبنفس القدر الذى  يوفر تعدد الهويات مجالا خصبا لإثراء الدراسات والأنشطة الإجتماعية والثقافية ، فانه متى ما اقحم فى السياسة أصبح مجال فرقة وشتات وعصبية ومطية لدعاة الفرقة على اسس عرقية ومذهبية انتهاءاً بالحروب بين أبناء الوطن الواحد كما رأينا فى العديد من البلاد ، وآخرها هذه الحرب اللعينة فى السودان. ومن الطبيعى أن يتضخم الإحساس بالهوية فى هذه الأحوال وصولاً النرجسية المفضية إلى العنصرية والإعتقاد بنقاء وطهارة الأصل والخوف من أن يفسد الآخرون هذا النقاء ، وفى المقابل الشعور بالضيم والحقد على هويات الغير ، وفى كلا الحالين يضعف إن لم يختفى تماماً الإحساس بالمواطنة.

ما هى المواطنة؟

ونعنى بالمواطنة الإنتماء لقطر بعينه وهى الهوية المعتمدة رسمياً فى الأوراق الرسمية من بطاقات وجوازات سفر وغيرها مع ما يسستتبعه هذا الإنتماء من حقوق وواجبات ، وهى الهوية (نظرياً على الأقل) التى تسود على جميع  الهويات الأضيق ، بما يحقق دولة المواطنة أو الدولة الحديثة  والتى تتميز بالضرورة بالسمات التالية:
• علاقة قانونية مباشرة الفرد والدولة على اساس الشراكة في الوطن ومنظومة الحقوق والواجبات حيث لا يحتاج المواطن الى وسائط فرعية بينه وبين الدولة  كالقومية والطائفية والعشائرية وغير ذلك.
• القانون هو الفيصل في عقاب وثواب الأفراد والجماعات وفض المنازعات بينها وتتولى الدولة مسئولية تطبيق القانون على الكل سواء بسواء.
• المؤسسات هى المسئولة عن تصربف المهام حسب النظم التى تحكم عملها وليس على هوى من يتولون إدارتها.
تمثل هذه السمات الهوية الوطنية الجامعة العليا  وهي الأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة التي يعتبر حمل جنسيتها هو  هويتها الأساسية وياتى كل ما عداها من سمات الافراد والكيانات دون ذلك. عليه تكون هذه الهوية  الوطنية العليا مقترنة بشكل مباشر بقيمة الإنسان العليا كإنسان في المقام الأول ، وفي ما يلي هذا المقام يمكن للهويات والصفات الأدنى درجة أو الثانوية أن تتواجد أو لا تتواجد، وبالطبع يندر وجود هذه السمات فى المجتمعات التى توصف بالمتخلفة حيث الولاء الأكبر للهويات الطائفية والعرقية والعشائرية , حيث السلطة الأبوية وتهميش المؤسسات وضعف سلطة القانون ومما لا شك فيه أن السودان يقع ضمن هذه الفئة , حيث طغيان الولاء العرقى والعشائرى والطائفى والمذهبى على الولاء للوطن ماثلة للعيان.

بالعودة إلى كثرة الحديث مؤخرا عن “غياب المشروع الوطنى الذى يحظى باجماع السودانيين”  كأهم اسباب الأزمة السودانية ، فهناك شبه إتفاق أن أهم ملامح هذا المشروع هو ما أسميناه دولة المواطنة ، فما الذى منع من الوصول لهذه الدولة بعد ثلثى قرن من عمر البلاد‘ بل مالنا نبعد عنها أكثر فأكثر مع مرور السنين؟ .

فى تقديرى انه لا بد لنا أن نعى أننا نفتقد أهم أدوات قيام دولة المواطنة وهى وجود شخصيات فكرية وثقافية ودينية متنورة ، وحركات اجتماعية متحضرة تأخذ على عاتقها محاربة التخلف، ومكافحته، ونشر ثقافة المواطنة والتربية الحضارية بحدها الادنى ، قبل أو جنباً إلى جنب التشريعات والقوانين والتربية المدرسية وصولا الى بناء دولة المواطنة. وبالطبع لا بد لهذه الشخصيات والحركات أن  تتمتع بقدر عال من  الوطنية ، وهى عاطفة قوية يشعر بها المواطن تجاه وطنه تسمو على كل ما هو خاص به كفرد مما يجعل  المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة ، بل غالباً ما تكون خصماً عليها. وبما اننا نعلم أن قليل من البشر من يمكن يضحى بالخاص فى سبيل العام فان هذه الشخصيات عملة نادرة نتمنى أن يجود الزمان بشى منها على السودان.

يخلص هذا المقال إلى أن الجدل حول موضوع الهوية جدل لا طائل من ورائه ويدعو إلى إخلاص الإنتماء للوطن الواحد والتسامى فوق مفهوم الهوية والقومية والإقليمية وإختلاف الدين مع كامل الإحترام لمختلف الهويات.

[email protected]

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..