مقالات وآراء

في المسألة الشرقية (1): البرهان بين الوعيد الصادق والوعد الكاذب!

هاشم الحسن

بتاريخ العاشر من مايو 2020 أورد الموقع العربي لهيئة الإذاعة البريطانية خبرا عن أحداث كسلا الأولى (العنف القبلي بين البني عامر والنوبة) التي وقعت في مايو المنصرم. جاء في عنوان الخبر أن (البرهان يحذر “العابثين بأمن المواطن”)، وهو تلخيصهم لما جاء في خطابه المتلفز الذي وجه فيه القوات المسلحة بالتصدي “لكل من أراد أن يعبث بأمن المواطن”. وزادنا الخبر علما بأن البرهان قد أضاف (أن مجلسي السيادة والوزراء، وأجهزة الدولة التنفيذية تتابع بقلق شديد الأحداث القبلية “المؤسفة”، مشيراً إلى أن الاحتراب القبلي سيعوق مهام الفترة الانتقالية). وبأنه قد ختم خطابه بالتشديد على (“الاصطفاف ضد المتآمرين، يداً واحدة في وجه أعداء ثورة الشعب المجيدة”.).. لا جديد هنا.. يدّعي أبوّة الثورة، ثم هي نفس لهجة التحذير والتهديد والوعيد التي اعتدناها من البشير. أما الأجهزة التنفيذية ففي نعيم المتابعة بقلق!!

وفي يوم الأحد الحادي عشر من أكتوبر 2020 متشوفا لاحتمالية وارهاص بالانفراج في أزمة الشرق المستفحلة في ولايات البؤس السوداني المتجدد، فقد توكلت واستفتتحت ليومي بالبحث في مواقع الصحف السودانية عن المستجد من أحوال المسألة الشرقية حتى وجدت خبرا عنها بصحيفة (السوداني) تحت العنوان التالي: (البرهان يوعد مكونات الشرق بإيجاد حلول ناجعة ترضي الجميع)!! قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا كوعد عرقوب، بل هو أنكى من الوعيد الأول وأضل سبيلا!!

وكما لو أن كلمة “إيجاد” التي في عنوان خبر (السوداني) ليست مقلقة بما يكفي، لأنها اصطناعية وتشي بالعجلة و”الكلفتة” والتزييف، وليست كالبحث المضني الصادق عن الحلول بجهد وإخلاص وتجرد عن الأغراض والمطامع. فلقد “وغوَّشني” قلبي مزيدا بجراء كلمة (يوعد) التي في عنوان الخبر. وهذه الأخيرة صحيحة عموما، سواء في الفصحى أو الدارجة، فلا تثريب. ولكنها، باعتبار أن النية زاملة سيدها، ليست الكلمة الأصلح لمثل ذلك الخبر. أي من حيث الدقة التعبيرية أو المحاسن البيانية. ذلك أن بالكلمة شبهة تقرِّبها من حيث الدلالة إلى مصدرية (الإيعاد والوعيد)، أي الوعد الذي يرتبط بالشر وسوء المآل. بل لو إنها (يوعد) قد زيدت (تاءً وشد) لخرج إلينا من بين طيّاتها ذلك “البعاتي” المتخفي فيها وهو يزبد و(يتوعّد)!

وإذن، فقد شغلت عن تفاصيل الخبر بما بدا لي غريبا أن يختار المحرر كلمة (يوعد) بديلا عن كلمة (يعد) الكانت أسهل منالا وأقرب دلالة مصدرية إلى الوعد بالخير والبشرى، أو كما يتسق مع سياق (الحلول الناجعة الترضي الجميع) وفقا لبقية جملة العنوان. ومع ذلك، فإن هذا الشين التعبيري للكلمة كما ظننته، قد وافق شنّ دلالته المتشائمة طبقة طبقي الطافح بالذي قد (طلّع من زيتنا) هؤلاء العسكر من أمثال البرهان، أي بمقارباتهم الأمنية العسكرية التكتيكية للقضايا ذات الطابع الاجتماعي والسياسي والاستراتيجي التي لا تحتمل مزيدا من الجهل بها وسوء الفهم والتخريب عبرالمزايدة والمناقصة بها في سوق البوليتيكا أو صب الزيت على نيرانها.

الشاهد؛ كلمة (يوعد) ربما كانت مجرد (زلة تحرير) عابرة، أو حتى إسقاطا نفسيا من المحرر، ولكنها وقعت موقعها من الإيحاء السالب وقع الحافر على حافر تشاؤمي من عبارة (إيحاد الحلول الناجعة) يواسطة العسكر! وعلى كل حال، فالوعد الذي في الخبر الأخير كذب محض، وأصدق منه الوعيد الأول، إذ أنه هيهات الحلول ورضى الجميع يتأتي عبر البرهان أو صاحبه/منافسه دقلو.. شفناها في دارفور.. وسيّان!!

وأما موضوعيا؛ فإن البحث عن حلول حقيقية غير ملفقة أو مفتعلة فليس بالضبط مما في مستطاع كبيري العسكر المتربصين ببعضهما في منحنيات كل عقبة وقضية. فلا هي في الشرق ستخضع لهما بالقوة كما اعتادا قبلا، أو ستأتيهما طوعا عن يد وهي صاغرة بينما هما يجهلا أو يتجاهلا حتى أبسط الأسباب المعلنة للأزمة وهو ما بدا واضحا لأي مراقب لمشهد خطاب الفريق دقلو في مؤتمر سنكات الأخير.

البرهان ومنافسه دقلو ليسا بمؤهلين أصلا ولا هما بالراغبين أن يأتيا بالحلول الناجعة للمشاكل السياسية الحقيقية ناهيك عن المفتعلة بمعرفتهما. وخطابهما عنها ليس إلا استثمارا فيها وتشدقا منبريا يتسوقان به لمستقبلهما السياسي. هي محض الألاعيب السياسوية المعتادة في التخويف والتهديد ثم شراء الوقت بتزييف الطمأنينة وبيع الوهم، كما تعلّماها من مدرسة (الإنقاذ) في جملة أحابيلها وتكتيكاتها الاستخباراتية والأمنية التي أدرات بها سياساتها للأقاليم والقبائل بطيلة سنيها العجاف. وما هاذان المفتئتان على التغيير إلا بعضا من أدوات تلك المؤسسات الإنقاذية بل ومن خبرائها. وكما البعر سيدلك على البعير، فالأثر سيدلك على المسير. فاتعظوا يا سادة ولا تصدّقوا البرهان إلا فيما صدق فيه البرهان مع نفسه عن حاجته للتطبيع مع اسرائيل لأنه يظنها مصلحة له فيها “كدّة” رئاسة سيسوية.

وأما أن يصلح الرجلان أو أيهما بين فرقاء الشرق أو أي جهة أخرى من جهات (السقط لقط) السودانية، فذلك ليس من مصلحتهما بحسب بروتوكولات العسكر والشموليين في تلمود (الإنقاذ) التي توصي بتمييع الوحدة المجتمعية وتسييل الحالة الأمنية ما أمكن وحتى لا يطمئن الناس سوى إلى “أمان العسكر”. وهذا بالضبط كما لم يكن للمخلوع للبشير أي مصلحة في إيقاف وإنهاء حروب الهوامش ولا صراعات القبائل!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..