مقالات وآراء

السودان بين الشقاق والوفاق (4)

محمد التجاني عمر قش

أخير الزُول يَعيش في الدُنيا صَاحِب مَبدأ
يَطايب النَاس وبي شِين الكَلام ما يَبدأ
نار الفتنة حِين ما تْشِب بِتَابَا الهَبْدَه
وغَرقان الجَهَل ما بِتْلَحِق بِالجَبْدَه
“الكودابي”
بعدما استبشر السودانيون خيراً بقرب التوصل إلى اتفاق سياسي بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير “قحت”، لاحت في الأفق إرهاصات تشير إلى أن ذلك الحلم لا يزال بعيد المنال! فمن ناحية أدلى السيد دونالد بوث، المبعوث الأمريكي إلى السودان، بتصريح جاء فيه أن البون لا يزال شاسعاً بين الأطراف المتفاوضة في السودان، وقد صدق؛ ذلك لأن السودان كما قال أستاذنا يوسف مالك: “بئر عميقة، ماؤها غائر، ودلوها قصير الحبل، والدابة التي تجر الحبل منهكة، ولا حول لها ولا قوة.” وهذه حقيقة أيضاً لأنها تفسر مدى تعقيد الوضع في السودان من جوانب عدة. أولاً، ليس هنالك مبدأ واحد يجمع بين المتفاوضين ما عدا تقاسم مقاعد السلطة بكل مستوياتها السيادية والتنفيذية والتشريعية، وكأن هذا هو منتهى الآمال بالنسبة لهم! وثانياً، حتى بعد نجاح الثورة في اقتلاع نظام الإنقاذ، إلا أنها لم تتوصل إلى إي رؤية أو مشروع وطني من شأنه أن يوحد كلمة الناس، ويكون مرتكزاً جامعاً تنطلق منه البلاد نحو المستقبل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ومن جانب آخر، ظل المجلس العسكري يتحدث ويعلن من وقت لآخر عن إحباط محالة انقلابية يقودها هذا الطرف أو ذاك، مما يشي بأن الوضع الأمني لا يزال هشاً، بعد مرور وقت ليس بالقصير منذ التغيير، الأمر الذي يترك الباب موارباً، إن لم يكن مفتوحاً، لكل مغامر يريد أن يجرب حظه السياسي في هذا الوطن المكلوم والمبتلى بأصحاب الأجندة الخاصة. وكأني بهذا المجلس يسعى لكسب الوقت، وتمييع القضية، بعدم التوصل لاتفاق ينهي التجاذب بين الأطراف، ويمهد لتشكيل حكومة مدنية أو حكومة كفاءات؛ لأمر في نفس يعقوب كما يقال!
أما قوى الحرية والتغيير فهي الأخرى في حيرة من أمرها لا تدري ما تفعل، وتتخبط في مسيرتها بشكل لافت للنظر، ففي حين أنها تتفاوض مع المجلس العسكري، وقبل أن تستوي الطبخة، وتكلل الجهود بالنجاح، نرى قادة “قحت” يطيرون إلى أديس أبابا، في معية المبعوث الإفريقي، للقاء الجبهة الثورية؛ سعياً للاستقواء بها في مواجهة المجلس العسكري “الانقلابي” كما يصفونه دوماً.
وبالطبع، فإن الجبهة الثورية لها أجندتها ومطامعها، وهي صاحبة خبرة طويلة في التمرد وربما في التآمر أيضاً؛ ولذلك وضعت شروط تعجيزية أمام قادة ” قحت” الذين اثبتت التجارب أنهم يتعاملون مع الوضع السياسي بنفس الطريقة التي كانوا يتصرفون بها في أركان النقاش في الجامعات، وشتان ما بين الحكم وتلك النقاشات الطلابية الساذجة. ولا غرو أن تشير صحف الخرطوم الصادرة خلال الأسبوع المنصرم إلى خلاف عميق بين “قحت” والجبهة الثورية فيما يتعلق بكثير من الملفات التي طرحت للنقاش. وعلى الرغم من ذلك، يتحدث الجانبان “قحت” والثورية” عن أنهما لا يتفاوضان بل يتشاوران، باعتبار أنهما ينتميان إلى كيان واحد! ولكن رشحت تسريبات عن محاصصة في المناصب بين قحت والثورية في مجلسي السيادة والوزراء، وهذا تناقض صريح، ودليل دامغ على غياب الحس الثوري والوطني؛ لأن المبدأ يجب أن يكون هو تقديم نموذج مختلف عما كان سائداً.
وبطبيعة الحال، من المؤكد أن أهل الإنقاذ لا تزال في حلوقهم غصة؛ لأنهم فقدوا الحكم والسلطة والجاه، بعد أن فشلوا في إدارة البلاد لما يقارب ثلاثين سنة عجافاً؛ ولذلك تتحدث التحليلات السياسية والإخبارية عن بصماتهم الواضحة فيما يتعلق بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الفريق أول ركن هاشم عبد المطلب، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة وآخرون. وربما تكون هنالك محاولات أخرى بسبب التقاطعات الكثيرة التي تسود الساحة السودانية الآن داخلياً وإقليمياً ودولياً، والله المستعان على ما تصفون.
ومن جانبها فإن القوى اليسارية قد عبرت عن عدم رضاها عن المفاوضات الجارية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بين قحت والجبهة الثورية باعتبار أن تلك المفاوضات لا تعني الحزب الشيوعي، المحرك الرئيس لقحت، في شيء، وإنما تعبر عن رأي الجهات التي تشارك فيها. ويحضرني في هذا المقام قول الشاعر:
ما بابا الصديق لي فقرو
وماني سمسار قواله ورفيقي بعقرو
بدخل لِجة الوادي المتلّب صقرو
وقلبي مكجّن الناس السوا وبتنقرو
خلاصة القول إن جميع هذه المؤشرات تدل على أن التوصل لاتفاق بين الأطراف المتنافسة ليس بالأمر المتوقع، في القريب العاجل، وأن السودان سيظل يعاني من الشقاق والتشرذم لفترة طويلة، هذا إذا لم تنزلق البلاد نحو الفوضى التي لا تبقي ولا تذر؛ بسبب ما كسبت أيدي الناس، وبحماقات السياسيين السودانيين الذين أدمنوا الفشل منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا. ومن نافلة القول تكرار دعوتي لجميع الأطراف بترك الخلاف جانباً والجلوس جميعاً حول مائدة وطنية بكل حسن نية، وبدون إقصاء؛ حتى نتوصل لمشروع وطني خالص، بعيداً عن كافة التجاذبات التي نراها الآن، فالوطن لم يعد يحتمل.

محمد التجاني عمر قش
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..