مقالات سياسية

الوجع الخرافي : مبدعو السودان و أجهزة إعلامه..!ا

الوجع الخرافي: مبدعو السودان و أجهزة إعلامه

إبراهيم الكرسني

[email protected]

إستمتعت بسهرة رمضانية معادة ظهيرة يوم السبت الماضي الموافق 21/8/2010 على قناة الشروق، و التي إستضافت فيها مبدعنا الرائع الأستاذ هاشم صديق فى لقاء مشترك مع المبدع الآخر الفنان سيف الجامعة. إستمرت السهرة لفترة تسعين دقيقة، تمنيت لو إمتدت لفترة تسعون ساعة كاملة عسى أن نعوض سماع ما فاتنا من مساهمات فنية متميزة لهذين المبدعين، و لكن بالأخص لسماع صوت الأستاذ هاشم، و ما كان من الممكن أن يقدمه لنا من أعمال متميزة لو إمتدت بنا السهرة، و لو لفترة وجيزة إضافية.
لم أصدق أعينى حينما رأيت المبدع هاش صديق على شاشة التلفاز للوهلة الأولى، كما لم يصدق هو نفسه حينما طلب منه مقدم البرنامج أن يتفضل بقراءة رائعته “القرنتية”، حيث رد عليه بالسؤال، “إنت متأكد ؟”. و حينما أكد له مقدم البرنامج ذلك، إلتفت الأستاذ هاشم ناحية الفنان سيف الجامعة فى دهشة لم يستطع إخفائها قائلا له، ” و الله يا سيف يبدو إنو البلد فيها تحول ديمقراطي !!”، ثم أردف قائلا ما معناه، ” و الله لو شفت الزرزرة الى إتعرضت ليها عشان القصيدة دي، بقيت لو شفت قرنتية ساي أقرأ آية الكرسي !!”.
حقا إنه تلخيص بليغ من مبدع قامة لما آل إليه حال مبدعي السودان، ووصف شامل للمشهد الإعلامي فى ظل نظام التوجه الحضاري، مبرزا الصورة الحقيقية لواقع المبدعين ،المعبرين بحق عن ضمير الشعب ووجدانه، و الذين ظلوا طيلة مسيرتهم الإبداعية المضيئة ملتزمون جانب الشعب السوداني، يعبرون عن آماله و تطلعاته فى الحياة الحرة الكريمة، دون من أو أذي. بل فى حقيقة الأمر أنهم ذاقوا الأمرين من قبل السلطة الحاكمة التى حرمتهم ، ليس من حقهم الطبيعي فى العمل الحر الشريف لكسب قوتهم وقوت أسرهم المتأففة، أو من حقهم الشرعي فى الوصول الى أجهزة الإعلام الرسمية، التى أسسها و طورها شعبنا من حر ماله، و لكن حرمتهم حقهم حتى فى الحياة نفسها، كما حدث للفنانين الشهيدين مصطفى سيد أحمد و خوجلي عثمان، اللذين إغتيلا غدرا، الأول بالموت البطئ فى المنافي، من كثرة ما تراكم عليه من “وجع خرافي”، و الثاني بواسطة خنجر مسموم إنطلق من أيدي أحد المهوسين من أفراد “المنتج الحضاري”، فى عقر دار الفنانين!!
لقد عكست هذه السهرة حالة الجدب الثقافي التي عاشتها أجهزة إعلام البلاد لما يزيد على عقدين من الزمان، بل أوضحت بصورة جلية أبعاد حالة الجفاف و التصحر التى أصابت الساحة الفنية بأكملها، حينما جففت الإنقاذ أنهار الإبداع الحقيقي التي كانت تتدفق ينابيعها من مصادرها غير الملوثة بجرثومة “التوجه الحضاري”، و كان يشربها الشعب السوداني زلالا صافيا مباشرة من خلال المسرح، أو أجهزة الإعلام المختلفة مرئية كانت، أو مسموعة ، أو مقروءة، قبل أن يجرعه نظام الإنقاذ ما يشبه السموم من قبل “مبدعيه”، من أمثال قيقم وشنان، ليصموا آذانه، و يفسدوا ذوقه الفني تماما بكل غث، مما أسموه مجازا بالإبداع، و هو لا يعدو أن يكون تهريجا، بل إسفافا، لو تم تقييمه حتى بأقل معايير النقد الفني تطفيفا.
كان أساس هذه المعادلة المختلة، و التى تمثلت فى إبعاد مبدعي الشعب من أجهزة الإعلام الرسمية، و فتحها على مصراعيها لمرتزقة “الإنقاذ”، من كل حدب وصوب، هو الإحتكار الكامل لتلك الأجهزة، كما فعلوا تماما لكل المناشط و الأنشطة و الأجهزة الأخري بدءا من جهاز الدولة بشقيه، المدني و العسكري، مرورا بأجهزة العدل و القضاء، و إنتهاءا بالأسواق على جميع مستوياتها، إستيرادا وتصديرا و جملة و مفرق. لم ينجو من إختلال هذه المعادلة، حتى “ستات” الشاي. أولائك النسوة البسيطات فى كل شئ، العظيمات فى الرسالة التي يؤدينها فى هذه الحياة الدنيا، و التى تتراوح بين إعاشة أسر فقيرة، وبين كفالة أيتام، و التى حاولت سلطات ” التوجه الحضارى” حرمانهن من مصادر رزقهن الحلال، مهما كانت بسيطة، ما دام أنها من الممكن أن تشكل مصدر دخل أضافي لأحد مترفيها من أهل الحظوة، أو “المؤلفة قلوبهم”، تحت شعار تنظيف و تنظيم العاصمة و إبراز وجهها الحضاري. و كأن هؤلاء لم يدروا بأن الوجه الحضاري للعاصمة المثلثة قد تم تشويهه فعلا بنتوءات “نظام الإنقاذ” من كل شاكلة ولون، و فى مختلف المجالات.
أدي إحتكار أجهزة الإعلام من قبل نظام “التوجه الحضاري” الى حرمان الشعب السوداني من سماع أصوات مبدعيه لفترة تزيد على العقدين من الزمان. من كان يصدق أن هذا الشعب سوف يحرم من سماع صوت شاعر ” الملحمة”، و التى صاغها وعمره لم يتجاوز التسعة عشر ربيعا، و مؤلف مسرحية “نبتة حبيبتي”، وغيرها من إشراقات فنية، نثرا و شعرا، القامة الفنية الفذة الأستاذ هاشم صديق، طيلة هذه الفترة الكالحة من تاريخه. هذا ناهيك عن حرمان طلاب دارسي الموسيقي و المسرح مما كان سيقدمه لهم هذا المبدع من علم غزير سؤدد، وما يمكن أن يسديه لهم من نصح و توجيهات، تضعهم على الدرب الصحيح للتأهيل العلمي و الأكاديمي، بإعتباره أستاذا فى النقد الفني و الإخراج المسرحي، نال دراساته العليا، و تأهيله الأكاديمي، متخرجا فى أرقي المؤسسات العلمية من بريطانيا.
إن حالة الأستاذ هاشم صديق لا تشكل إستثناءا، بل هي فى واقع الأمر تشكل نموذجا فريدا للحالة البائسة التي يعيشها مبدعي السودان، و فى جميع مجالات الإبداع الفني منها، و الرياضي، و الثقافي، و العلمي…الخ. لقد تشرد مبدعو السودان، داخل و خارج أراضيه، حينما ألم بهم “تسونامي” التوجه الحضاري، و الذي قضي على الأخضر و اليابس، و لم يترك لهم حتي ولو “نفاج” رزق صغير ليقتاتوا منه، بل دفع بمعظمهم خارج البلاد ليقتاتوا من “خشاش” الأرض فى جميع بقاع الدنيا، و فى بلاد “تموت من البرد حيتانها”، كما وصفها قامة فنية أخري، هو الأستاذ الطيب صالح الذي لم يستقر فى أرض التوجه الحضاري إلا جثة هامدة بمقابر البكري بأم درمان. المدهش حقا أن قادة الإنقاذ يقتلون المبدعين، ثم يسيرون فى جنائزهم. و هذا ما حدث فعلا فى حالة الأستاذ المرحوم الطيب صالح. حينما رأيت “صلاة” قادة “الإنقاذ” على جثمانه الطاهر، و تابعت مراسم دفنه، تساءلت فى نفسي: هل حقا يمكن أن يكون هؤلاء هم أنفسهم الذين حاربوه فنيا و منعوا تدريس رواياته فى الجامعات السودانية، و بالأخص فى جامعة الخرطوم؟ هل يمكن أن يكون ” هؤلاء الناس” هم أنفسهم الذين حرموا شباب السودان من الإطلاع على إبداع هذه القامة الفنية، و دراسة مؤلفاته، كما هو الحال فى البلدان الأخري، حيث ترجمت أعماله الفنية لأكثر من ثلاثين لغة حية، و درست مؤلفاته فى معظم جامعات الدنيا؟ عندها تذكرت السؤالين اللذين طرحهما الأستاذ الطيب نفسه حول طبيعة قادة هذا النظام البائس: “من أيت أتي هؤلاء الناس؟”.. “بل من هم هؤلاء الناس؟”. سؤلان يتطلبان مجلدات بأكملها للإجابة عليهما، و سوف يشكلان فرضيات لدراسات علمية لنيل العديد من الشهادات العليا من أرقى الجامعات،و فى مختلف ضروب الدراسات الإنسانية. عندما تبذغ شمس الحرية مرة أخري على أرض السودان، و يجد مبدعيه و مفكريه المناخ المناسب سوف يقومون بالإجابة عليهما، و على الوجه الأكمل.
تأمل معي، قارئي الكريم، هذا المشهد ، و تخيل معي، كيف كان سيكون الحال، لو أن مبدعي السودان لم يتم تغريبهم داخل البلاد، و طردهم خارج أرض الوطن، وظلت أبواب الإعلام السوداني الرسمية مفتوحة لهم، طيلة العقدين المنصرمين، ليخاطبوا من خلالها الشعب السوداني، و يقدموا له إبداعهم من شعر و غناء و مسرح وطرب؟ كيف كان سيكون حال شباب اليوم، لو كان هناك تواص أجيال حقيقي فيما بينهم و بين من سبقهم من مبدعين ؟ “الله يجازي الكان السبب”!! أكاد أجزم بأن الحال كان سيكون مختلفا تماما. فأمثال المبدع هاشم صديق هم الذين صاغوا وشكلوا وجدان الشعب السوداني، و إن عودتهم إليه مرة أخرى لو جاءت فى أجواء حرية مطلقة، و غير مشروطة، هم أول من يستحقها، أو لم يقصد بها إمتصاص غضبة الشعب، فإنها حتما ستكون بداية لإستعادة الذوق الفني الرفيع، الذى إتصف به المواطن السوداني، من جديد ، و الذى أفسده نظام “التوجه الحضاري” البئيس.
إنني على يقين بأن نضال شعبنا الأبي لن يتوقف حتي يتوج بنيل حريته كاملة غير منقوصة، و بأنه سيتولى زمام أمره بنفسه، الى أن يتمكن من إستعادة عافية جسده، الذي أنهكه و أتعبه ما تناوله من جرعات إنقاذية سامة، وقاتلة،أتت على الأخضر و اليابس فى مختلف مناحي الحياة، طيلة ما يزيد على العقدين من الزمان. و حتي ذلك الحين التحية الحارة أوجهها لأستاذنا القامة المبدع هاشم صديق و لصديقي المبدع الآخر الفنان سيف الجامعة، و أوجهها من خلالهما الى جميع مبدعى السودان، و فى مختلف المجالات، داخل و خارج البلاد، سائلا المولى عز و جل أن يرد غربتهم، وقد شفاهم تماما من داء “الحب الخرافي” لوطنهم العزيز.
24/8/2010

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..