ما حدث للداية لحظة أن غدا الأمنجي السابق رئيسا

بدا كما لو أن الداية أم سدير وجدت في ذروة الرعب وقتا للتساؤل عما إذا كانت ما تعايشه حقيقة أم مجرد أضغاث أحلام. لما لم تجد ما يبصرها بأبعاد المأزق، وكان التعب نال منها، في الحضور الثقيل لثعبان ما ينفك يسعى وراءها كأي عاطل، أخذت تصرخ مستغيثة بالشيخ الطيب راجل أم مرح، ثم بالعالم الغارق في الصمت واللامبالاة خارج بيتها، بيد أن الثعبان ظلّ يقفز في الهواء مع كل صرخة مفتتا موجات حبالها الصوتية التي كانت تتناثر قبالتها لدهشتها كلوح مهشم من الزجاج، ولم يسعفها أحد حتى الساعات الأخيرة من الليل، حيث قررت أخيرا من شدة التعب أن ما من شيء يمكنها أن تنام عليه وتكون بمأمن تام، إلى أن يتم إنقاذها، سوى “حبل الغسيل الممتد بعرض الحوش الكبير”، حيث اضجعت على جنبها الأيمن، ووجهها متجه إلى “القبلة في مكة المكرمة”، حتى إذا ما حدث الأسوأ تكون قد فارقت الحياة وفق تقاليد الدين الحنيف، وإن لم تغفل عيناها لحظة عن مراقبة الثعبان المتربص في الأسفل، كما لو أنه يفكر لغروره أنها ستسقط بالفعل أثناء النوم مثل قطعة من ملابس الشيفون الجافة هبت عليها رياح الصعيد. قالت تسخر من الثعبان سرا في نفسها “عشم الديك في موية الأبريق”.
وأخذت تضحك في عالمها الخفي نفسه لمجرد التفكير أنها أصيبت من حيث لا تدري بالجنون. حتى أنها ومن دون أدنى مقدمات شرعت تتخيل كذلك وجود امرأة في العالم تدعى شامة الجعيلة. تطلب منها أن تترك باب الأدبخانة مشرعا بينما تقف قبالتها. لأن شامة هذه (يا للجنون) تقول إن سحالي بعيون حزينة دامعة تطلب منها السفر إلى نيالا البعيدة “على جناح السرعة”. ولما سمعت خفق جناح طائر في الجوار من دون أن تراه، رفعت الداية أم سدير يديها بالدعاء “ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين”. و”اللهم لا تجعلني طعاما لثعبان جائع”. ثم “أبدلني يا كريم أمنا من بعد خوف”. كانت السماء سوداء مرصعة بالنجوم وحفنة الدقيق الضوئي لمجرة بعيدة ونائية أخذت تثير في نفسها تلك الذكريات المنحدرة من أيام شبابها، حيث كان بوسعها النوم على خيط عنكبوت في بعض الليالي، دون التفكير، مرة واحدة، في خطر الوقوع بين أنياب ثعبان قابع في الأسفل “مثل هذا”، وحيث كانت أدعيتها إلى الله مختلفة. قالت “تغير العالم”. على أية حال، قالت تخاطب نفسها “مواصلةُ النوم على حبل غسيل أرحم من أن يقول الناس: الداية أم سدير فقدت عقلها وأخذت تضايق الناس طالبة اللجوء إلى بيوتهم”. والسبب كما تقول: “وجود ثعبان أسود ظل يتبعها غامزا بعينه اليسرى، ويلتهم أحيانا سحالي ميتة بعيون حزينة دامعة. نعم نعم، يا لخفة عقل العجوز أم سدير”!
وخيل إليها على بعد ثوان من النوم على حبل الغسيل الذي خلا من مشابك. كما لو أن صوتا يتردد بلا ملامح معينة في مكان ما داخل ذاكرتها. “لعله صوت أمي وهي تناديني للطعام”. أو ?كما لو أنه هو”. هكذا، حاولت عبثا تذكر تلك النبرات الأليفة. والعالم ينسحب كما الظلّ من بين جفونها المطبقة. لكن النوم المقترب حثيثا سرعان ما حاد تماما عن عينيها، لحظة أن أدركت أن الصوت كان يصدر في الواقع لا عن داخل غرفة متربة ذات ستائر منسدلة أعلى الجزء الشمالي من رأسها، حيث يصغي الناس أحيانا لأصوات الذكريات الصامتة، بل عن الجوقة الخارجة عبر فم الثعبان الأسود المتربص في الأسفل، كما لو أنّه يفقد الأمل، في إمكانية سقوطها في أثناء النوم. كانت الجوقة الخارجة عبر فم الثعبان ترفع من نبرة صوتها شادية بالغناء “يا لعسر حساب الداية أم سدير التي ختمت حياتها المهنية بجلب شيطان إلى العالم له هيئة إنسان”. لم تدرك الداية أم سدير حقيقة ما يحدث على وجه الدقة. مع أنها تجاوبت بعمق مع غناء الجوقة تجاوب المرء مع نبوءة شؤم. ومضت تسير بتمهل هذه المرة على دروب الذاكرة. عسى أن تعثر على مخلوق بشري له قرن شيطان ولد ذات مرة على يديها. كل ما أسعفتها به الذاكرة كان ميلاد طفلة بعضو ذكري بالغ الصغر أعلى السرة. وهذا لا يشكل في عرفها دليل إدانة مادي لصالح دعاوى الجوقة المنشدة عبر فم الثعبان المتربص في الأسفل. لأن الشيطان جاء دائما كمذكر وأنه لم يوجد كتاب واحد في هذا الكون الفسيح برمته جاء فيه ذكر الشيطان كأنثى. حاولت الداية أم سدير في خضم الأرق الذي اجتاحها تذكر حالة أخرى من بين تلك الولادات الكثيرة التي فاق عددها ما لا تستطيع حتما أن تحصيه دفعة واحدة. للأسف، كلما اقتربت، بذاكرتها وفكرها، من القبض على صورة طفل تذكر على نحو غائم أن شيئا غريبا ظل ينعكس من داخل عينيه على وجه الخصوص، كلما أصدر الثعبان القابع أسفل حبل الغسيل على أمل سقوطها أثناء النوم صليلا بذيله، ليمحو معالم الصورة المتكوّنة في ذاكرتها للتو دفعة واحد. كان ثمة نسائم أخذت تهزها على حبل الغسيل. كانت رأسها تثقل. وتحسبا من الرضوخ لسلطان النوم في وضع خطر، قالت “اللهم أني أودعتك نفسي”. ولما لم تجد زوجا أو ولدا أو حفيدا لتضيفه إلى دعائها، قالت “اللهم أني أودعتك نفسي وعبادك الضعفاء”. نامت. “لم توقفتَ عن زيارتي”؟ “لكل أجل كتاب، يا أم سدير” “أكثرتُ من صوم وصلاة. البلاء لم يخف. وذنبي يا سيدي عظيم” الشيخ لم يقل شيئا. فقط، خلع عنه مسبحة طويلة تلتف حول عنقه. وضعها على الأرض. فإذا هي حية تسعى نحو جحر على ظهر الأدبخانة. قالت “مدد”. ابتسم “هيا عودي إلى فراشك ولا تراعي يا أم سدير”. كادت تبكي لأنها أساءت الظن بين براثن الرعب في نجدة شيخها، خاصة وهي تسمع رسول شيخها، يحدثها عن حبّ الشيخ لها، بينما يلتقط الثعبان الذي عاد إلى أصله كمسبحة، قائلا “حدثني من أثق به من الفضلاء قال إنه سمع القطب الغوث سيدي وسيدك الشيخ الطيب راجل أم مرح رضي الله عنه يقول (طرحت عليَّ صحيفة من قبل الحق سبحانه وتعالى مكتوب فيها بقلم القدرة “سلام قولا من رب رحيم، إلى عبدي أحمد الطيب، قد غفرنا لك ولوالديك وأهل قرابتك”. قال: قلت ظني في ربي أكثر من هذا، قال فجاءتني أخرى فيها ما في الأولى وزيادة “ولأهل قرابتك أجمعين”. قلت: ظني في ربي أكثر من هذا، قال: فجاءتني ثالثة متضمنة لما في الصحيفتين وزيادة “كل من عرف اسمك”). فجأة كما أقبل تلاشى زائر المنام مخلفا على أنفها أثرا قويا طيبا كرائحة المسك سرعان ما أخذ يختلط بدوره برائحة قوية للحريق والتي لم تفارق حاسة شمها حنى بعد ساعات من استيقاظها على فراشها مغمورة تماما بضوء الصباح المندفع عبر نوافذ الغرفة الأربعة المشرعة. قالت تنظر إلى موقع قدميها حيث لا أثر هناك بالمرة لوجود ثعبان أسود “يا له من كابوس”. ولم يكن الوقت كالعادة نهارا أو ليلا، حين طرق رجل مسن باب حوش بيت الداية أم سدير، وأومأ إليها بسبابته اليمنى أن تدنو وتنظر بتمعن شديد إلى الشارع الذي كان قد تحول إلى نهير بمياه حمراء راكدة. قالت تخبره أنها ظلّت ترى في منامها المشهد نفسه: بركة حمراء تظهر على سطحها دائما أيادي بشرية غارقة تمتد نحوها كمن تستجير بها من شيء يضغط على أرواحها بثقل وقسوة جاذبا إياها نحو أعماق سحيقة. قال: لو شاء سيدي وسيدك القطب الغوث الشيخ أحمد الطيب لمنع ذلك يا أم سدير. قالت: أم سدير جارية الله المسكينة لم تؤتى الحكمة لكن قلبها مفعم بالمحبة”. ابتسم الشيخ ممسدا ذقنه الطويلة. وقال: “يا أم سدير المحبة رأس الحكمة”. اغرورقت عيناها بالدموع وقالت “زدني بارك الله لك. قال “ورد في الأثر الشريف (يا أم سدير) أن الجنة محفوفة بالمكاره”. قالت: زدني أفادك الله وأعني بالكلام الرشيد على النظر إلى سحالي بعيون حزينة دامعة. قال: من السيرة العطرة لقطب الزمان وعمدة المقربين سيدي وسيدك الشيخ أحمد الطيب بن البشير راجل أم مرح نفعنا الله به في الدنيا والآخرة، أنه لما دخل الترك في هذه البلاد، أمر أهلها قائلا: أطيعوهم ولا تخالفوهم، فإني لقيتهم بدنقلة وأردت أن أبطش بهم، فسمعت هاتفا من الحق تبارك وتعالى يقول لي: يا طيب تأدب لأمرنا فإنه قد ظهر، فألقيت ما كان في يدي على البحر، فصار ذلك الموضع يفور كالتنور من شدة حرارة ذلك الملقى”. قالت أم سدير “لعلي أحلم ثانية”. ونامت.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. 1. هذا حكي بديع. امتعني تناول القاص للتفاصيل الحلمية وانتباهه لما تبدعه من الغرائب. هذه الحصافة لازمة لاتقان ما يسمي في الكتابة الادبية ب “تداعي الاحلام” او “dream sequence”. فالاحداثيات والابعاد والاطوال والاعراض ليست في الاحلام كما نعرفها في الحقيقة، كلنا يعرف _ ومرارا خبر _ ذلك، ومع ذلك يفوت ذلك علي بعض الكتاب عندما يحاولون هذا الضرب؛ والنجاح في الانتباه لهذه الغرائب ينتج دررا ممتعة كهذه الجملة الدرة·
    【، و لم يسعفها أحد حتى الساعات الأخيرة من الليل، حيث قررت أخيرا من شدة التعب أن ما من شيء يمكنها أن تنام عليه وتكون بمأمن تام، إلى أن يتم إنقاذها، سوى “حبل الغسيل الممتد بعرض الحوش الكبير”، حيث اضجعت على جنبها الأيمن، ووجهها متجه إلى “القبلة في مكة المكرمة”، حتى إذا ما حدث الأسوأ تكون قد فارقت الحياة وفق تقاليد الدين الحنيف، 】

    فحبل الغسيل في حلم الداية ام سدير بعرض عنقريب الحبل! اليس هذا بديع ورائع؟!

    شكرا عبد الحميد البرنس.
    ونعشم في المزيد.

    2. تصويب:
    ١. كان ثمة نسائم = كانت ثمة نسائم
    ٢. كانت رأسها تثقل. = كان رأسها يثقل.
    ٣. بينما يلتقط الثعبان = وهو يلتقط الثعبان
    ٤. مخلفا على أنفها = مخلفا في أنفها
    ٥. للحريق والتي لم تفارق حاسة شمها حني =
    للحريق لم تفارق حاسة شمها حتي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..