مقالات وآراء

كيف أيقظت الأجهزة الأمنية الفتنة النائمة؟

اسماعيل عبدالله

 

إلى وقت قريب يعود لحقبة ما قبل تفجّر ثورة ديسمبر المجيدة، يظن غالب أهل السودان أن حروب القبائل في دارفور شأن خاص بالأقليم، وأن طبائع الناس هناك مجبولة على الشر المستطير، هذه البروباقاندا انطلت على الكثيرين من السودانيين، لأن النظام الحاكم سخّر كل مقومات الدولة الإعلامية لخدمة هذا الخط المغرض، فعندما يحتدم الجدل بين شخصين حول ما جرى ويجري في الإقليم المنكوب، لا يكلف الشخص صاحب الفكرة المسبقة نفسه كيل بعير من أجل التقصي والتحقق، فينزل على خصمه بوابل من المعلومات المغلوطة والمسيّسة والمعبئة الجاهزة دون إعطاء أي فرصة للرأي الآخر، ظل الناس في دارفور يموتون يومياً حتى أصبحت أخبار القتل والتدمير أمراً بديهياً لدى مواطني الأجزاء الأخرى من الوطن، إلى أن خُلع الدكتاتور وبانت سوءاته في كسلا وبورتسودان والأبيض والدمازين، فتكرر نفس المشهد الدارفوري المأساوي كنسخة بالكربون للمجازر القبلية والعرقية، وصحا الناس من غفوتهم وغفلتهم وسباتهم العميق، وعرفوا للتو أن التعميم مخل، وأن الفتنة الأشد من القتل لو أراد الله لها أن تنشب لسخّر لها أراذل القوم، الموجودين في كل القبائل وداخل إطار جميع الملل، لذلك استعاذ الناس من الرويبضة والسفهاء عندما يتولون أمر العامة، وردد الصالحون في صلواتهم أن يولّي الله عليهم خيارهم، وقد يسأل أحدهم: ماذا يجني الحُكّام من الحروب القبلية؟، الإجابة هي : أن الولاء العشائري في بلادنا أقوى من آصرة الدين والأيدلوجيا، لذلك يهاب الحاكم هذه المكونات الاجتماعية، فيعمل على تفريغها من محتواها وتفريقها ليظل حاكماً.

عندما اندلع التمرد في دارفور قام النظام باستغلال خطأ الحركات المسلحة الاستراتيجي، ومناهضتها لمكونات بعينها وشيطنتها وتجريدها من الانتماء الوطني، فما كان من الدكتاتور ونائبه الحانق على مصدري الكتاب الأسود إلا وأن جيّشا القبائل المنبوذة بخطاب الكراهية الذي أصدرته الحركات المسلحة، وجعلا منظري هذه الحركات يدفعون الثمن غالياً، ومن أشر شرور أجهزة مخابرات النظام (البائد) أنها لا تتورع عند فعل أي عمل يستحي منه الشيطان، من أجل أن ينعم الطاغية بنوم هانيء في قصره المنيف، فالقائمون على أمر هذه الأجهزة في الفاشر ونيالا والجنينة لا ينامون الليل إلّا بعد أن يرفعوا تقاريرهم للرئيس، إذ أنّه لم تعمل هذه الأجهزة ومنذ أن تأسست على تأمين الراعي والمزارع، بل كان جل همها هو تطمين (الريّس)، ولو علم الاستخباريون المنتشرون في اصقاع المدن وأريافها بأن هنالك مشروع للتناغم الإجتماعي ابتدره أصحاب النوايا الحسنة، هبّت هذه الأجهزة (الأمنية) ووأدت ذلك المشروع، وهنا أذكر حادثة واحدة للتدليل، والكل متأكد من أن الإقليم قد شهد من شاكلتها ومثيلاتها الكثير، وهي مقتل أستاذة جامعية بجامعة نيالا طعناً بالسكين، والقاتل زميلها المضطّرب نفسياً، وربما كانت هنالك إرهاصات غرام من طرف واحد. هل تصدّقون أن تلك الجريمة البشعة كانت بمساعدة أيدي أجهزة الدولة؟ نعم، مثلما أقول لكم، وهل تعلمون أن أهالي الضحية لزموا الصمت حتى بعد أن نبشت ذات الأجهزة جثة الحسناء وأشارت لأهلها بأن الأعداء من القبيلة الأخرى قد مثّلوا بجثمان ابنتكم، فلم يستجب لهم أهل الضحيّة، إنّها دارفور الصبر والتسامح والقرآن و(اللوح)، التي تعرف متى تصمت ومتى تتكلم.

للأسف لم يعمل الجيش ولا الشرطة ولا الأمن من أجل الدفاع عن الحدود الفاصلة بين البلاد والبلدان الأخرى – (حلايب)، ولا لتأمين مواطنيه المدنيين العزل وهم يتجولون داخل مدنهم لا يحملون سوى العصا التي يهشون بها أغنامهم والإيمان بربهم، في حين أن كل الميزانيات المتضخمة والتجارة العابرة للحدود تعود منافعها لمتخمين لا يهتمون لموت روح واحدة قال عنها الخالق الكريم : ومن أحياها فكأنما احيا الناس جميعا، نعم يا سيداتي ويا سادتي، لقد لعبت أجهزة الدولة بأرواح المواطنين في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وإنّه لمن مؤسفات الأمور أن يحدث في بلاد تتصدر أسواق العالم ومتاجرها منتجاتها المعدنية والزراعية والحيوانية والغابية – الذهب واللحوم والجلود والصمغ العربي والفول السوداني والأوكرا (البامية) – بديباجات دول أخرى، أن تظل مثل هذه البلاد مستجدية لدول البترو – دولار تعطيها أو تمنعها. إذا أردت أن تقيس مستوى تمدننا وتحضّرنا ما عليك إلّا أن ترى الحضور المتأخر لقوات دفاعنا المدني من بعد أن يقضي الحريق على الأخضر واليابس.

 

[email protected]

21 يوليو 2022

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..